لا صوت يعلو في العالم بمشارقه ومغاربه على صوت "كورونا"(كوفيد 19)، ذاك الفيروس المرعب الذي اكتسح العالم بعظمائه وبسطائه، بكباره وصغاره، ورسم حالة من الخوف والذعر والترقب والانتظار، التي أبانت كم نحن - بني البشر - ضعفاء وكم نحن نختفي وراء قوة جبانة، أربك فيروس عنيد، كل حساباتنا وخططنا ومشاريعنا، وحول معيشنا اليومي إلى حالة من الارتباك والهلع والجشع، فجندنا له كل ما أوتينا من إمكانيات وقدرات، في معركة غامضة، يصعب التكهن بنتائجها وتداعياتها الآنية والمستقبلية على أمم وشعوب العالم، فيروس بالقدر ما أربك سيرورة اقتصادياتنا وأزعج معاملاتنا المالية والتجارية، وحكم علينا بالبقاء في غرفة الانتظار والترقب، نحصي حالات الإصابة ونعد أرقام الموتى، بالقدر ما وحد الإنسانية الراقدة في ذواتنا، وأبان بما لا يدع مجالا للشك، أننا نتقاسم جميعا روابط الإنسانية مهما كبرنا أو صغرنا، مهما تسلطنا ومهما بالغنا في إهانة وإذلال بعضنا البعض.. فيروس مرعب، لم تصمد أمامه ترسانة عسكرية ولا قوة تكنولوجية ولا غطرسة مزيفة ولا قوة زائفة، نتفنن في تسخيرها لإهانة بعضنا البعض وحرمان بعضنا البعض من فرص التآخي والتعاضد والتعاون، انتصارا للإنسانية التي تجمعنا شئنا أم أبينا... فيروس، بالقدر ما كشف عن حقيقتنا الضائعة، وبالقدر ما بعثر الأوراق وأربك الحسابات والتقديرات، بالقدر ما يفرض علينا نحن بني البشر، التنازل عما بات يسكننا من خبث وقهر وجبر وعناد، والإنصات إلى بعضنا البعض، بعدما قادتنا أنانيتنا المفرطة، إلى قيادة سفينة عالمنا إلى حافة الإفلاس القيمي والأخلاقي. حدث من هذا القبيل، لن يكون فقط حدث السنة بامتياز، بل أزمة عالمية تضاف إلى ما شهده العالم خلال القرن العشرين من حروب وأزمات (الحربان العالميتان الأولى والثانية، الأزمة الاقتصادية الكبرى...)، وما عاشته المجتمعات البشرية على امتداد الأزمنة والعصور من أمراض وأوبئة ومجاعات، خلفت خسائر بشرية كبيرة لازال التاريخ يحتفظ بذكراها الأليمة، حدث بهذا الخوف والهلع، يستدعي إعادة ترتيب أورق العالم، بشكل يسمح بصياغة تعاقد عالمي يقطع بشكل لا رجعة فيه، مع كل ممارسات التسلط والعناد والاستهتار وما تحمله من نعرات وخلافات هدامة ومن جنوح أعمى نحو إشعال فتيل الحروب والنزاعات المسلحة، لكسرة شوكة بعضنا البعض وإهانة الضعفاء والبسطاء منا، وحرمانهم من فرص الحياة في عالم آمن وعادل، يتأسس على قيم المحبة والتعاون والتضامن والتعاضد، عالم لابد أن نكون فيه جميعا رابحون، لما فيه خير ومنفعة للإنسانية جمعاء.. كورونا (كوفيد 19) كشف بكل قوة عن سوءتنا أمام بعضنا البعض، وكشف لنا بوضوح، كم كنا تائهين ومتهورين وقاسين في حق بعضنا البعض، واللحظة الحرجة، تقتضي التعاون والتضامن بين شعوب وأمم العالم، ومساعدة بعضنا البعض وتبادل الخبرات والتجارب والمعطيات، ومد يد المساعدة إلى البسطاء والضعفاء منا، لمحاصرة الوباء الصامت، الذي أحرجنا جميعا بعظمائنا وأقويائنا وضعفائنا وبسطائنا، ولا حل لتجاوز المحنة، إلا باسترجاع القيم التي ذابت في جليد خبتنا وتسلطنا ووحشيتنا وجشعنا وعنادنا، من تعاون وتعاضد وتكافل وتشارك، وبمثل هكذا قيم، بإمكاننا أن نتغلب على "فيروس" قاهر، لا يمكن هزمه إلا بالتعبئة الجماعية وتوحيد الصفوف والتسلح بالقيم الإنسانية التي تجمعنا.. المغرب كغيره من البلدان، لم يسلم من وباء مرعب صنفته منظمة الصحة العالمية بالجائحة العالمية، شكل ويشكل حديث الساعة وحديث الدولة وحديث المجتمع وحديث الإعلام بامتياز، ودون الخوض في تفاصيل بعض الممارسات غير المسؤولة التي طفت على السطح، من قبيل نشر الأخبار الزائفة أو الاستهزاء والسخرية بالوباء أو الجشع أو الاحتكار أو الرفع من الأسعار، أو الخروج بتصريحات افتراضية فاقدة للبوصلة من شأنها المساس بالنظام العام، وتبخيس ما يبذل من مجهودات رسمية متعددة المستويات لاحتواء الجائحة المثيرة للقلق، نؤكد أن اللحظة تقتضي التحلي بروح المسؤولية وبحس المواطنة العالية، بالانضباط والالتزام بما يصدر عن الجهات الرسمية من تعليمات وتوجيهات وقرارات، لإنجاح ما يبذل من خطوات وإجراءات وقائية واستباقية من شأنها محاصرة الفيروس والحد من انتشاره، والتزام المنازل ما أمكن، حفاظا على الصحة العامة، والإقلاع عن بعض العادات والممارسات غير المقبولة خاصة في زمن الأزمات والكوارث، من قبيل الجشع والإقبال الهستيري على الأسواق لتخزين السلع والبضائع، والاحتكار والرفع من الأثمان، ونشر أو تقاسم الأخبار الزائفة التي تقوي الإحساس بالخوف والهلع لدى المواطن، وكلها عادات وممارسات وغيرها، لا مناص من القطع معها بشكل لا رجعة فيه، لأن المرحلة تفرض علينا جميعا التعبئة والتحلي بالمسؤولية والانضباط والتقيد بما يصدر عن الجهات الرسمية من توجيهات وقرارات، حتى لا يتطور الوضع الوبائي نحو الأسوأ. الوباء المرعب، وضعنا نحن المغاربة أمام اختبار في المواطنة، لما نلامسه أو نعاينه من تقيد بالتعليمات الوقائية ومن مكوت في المنازل ومن التزام بالقرارات الرسمية القاضية بإغلاق عدد من المؤسسات والأماكن، ومن انخراط افتراضي وواقعي في الحملات التوعية والتحسيسية الرامية إلى ضرورة احترام قواعد النظافة والتزام المنازل ما أمكن، ومن أدوار إعلامية ناجعة في تقريب المواطنين من المعلومة، ومن تجند مختلف الإدارات والمؤسسات في مباشرة ما تقتضيه المرحلة من مهام ومسؤوليات، من صحة وإدارة وأمن وقضاء وتعليم وإعلام وغيرها من القطاعات الحيوية، وهنا، لا مناص من تثمين المبادرات التي أقدم عليها بعض الأشخاص والشركات من أثرياء ووزراء وبرلمانيين ورؤساء الجهات وقضاة ورؤساء الجامعات وغيرهم، من خلال تقديم مساهمات مالية مهمة لفائدة "صندوق محاربة جائحة كورونا"، وهي مبادرات مواطنة في جميع الحالات، لا يمكن إلا تثمينها وتشجيعها، وهي دعوة موجهة لجميع أثرياء المغرب من أشخاص وشركات ومقاولات، من أجل الإسهام في دعم هذا الصندوق، لأن الظرفية الاستثنائية تقتضي التعاون والتعاضد والتآزر، ليس فقط لدعم القطاع الصحي على مستوى المعدات والوسائل خاصة الأسرة، ولكن أيضا، لأن الاستراتيجية الوقائية، اقتضت توقيف نشاط جملة من الأماكن والمحلات التجارية (مقاهي، مطاعم، دور سينما...)، وهذا ستكون له تداعيات اجتماعية واقتصادية على عدد من الأشخاص الذين باتوا في وضعية عطالة، وهؤلاء، لابد أن يتم التفكير من الآن، في السبل الممكنة، من أجل تمكينهم من المساعدة المالية، شأنهم في ذلك، شأن بعض القطاعات التي تضررت بسبب الأزمة (تجارة، نقل، فلاحة...)، لذلك، نلتمس من أثرياء وأحرار وشرفاء هذا الوطن من أشخاص وشركات ومقاولات وتجار، تلبية نداء الوطن، بالإسهام بسخاء في الصندوق المحدث، حتى يتسنى دعم القطاعات المتضررة ومساعدة الأشخاص الذين حولتهم الجائحة إلى عاطلين عن العمل، ترتبط بهم أسر وعائلات، تحتاج إلى الدعم في هذه الظرفية الاستثنائية. كورونا العنيد، بالقدر ما أربكنا وشل حركاتنا، بالقدر ما أحيى فينا ما افتقدناه من مشاعر المواطنة، وقد تبين بالملموس، أن قوة هذا الشعب، تكمن في تضامنه وتعاونه وتآزره، ورغم ضعف إمكانياتنا ووسائلنا، فبالإمكان أن نحاصر هذه الجائحة التي خيمت على كل بلدان العالم، بتعاوننا ومساندة بعضنا البعض والتقيد المسؤول بكل التوجيهات والقرارات الصادرة عن الجهات الرسمية حفاظا على الصحة العامة، وهي فرصة سانحة، للإقلاع عن عاداتنا السيئة من جشع وطمع وتهور واستهتار وانعدام المسؤولية، والقطع عما بات يسيطر علينا من مشاهد الخلاف والعناد والقصف والضرب تحت الحزام خاصة في مشهدنا السياسي، وإطلاق العنان لما نتميز به نحن معشر المغاربة، من شيم ومكارم الأخلاق وقيم التعاون والاحترام... كورونا يفرض علينا اليوم، أن نتصالح مع ذواتنا أولا، وأن نحترم بعضنا البعض وأن نتنافس بشرف في خدمة هذا الوطن، فكلنا "مواطنون"، ولا يحق لأحد أن يشكك في مواطنة أحد أو يطعن فيها، فعند الامتحان يعز المرء أو يهان، والامتحان اليوم، يفرض، أن يتنازل الكثير منا، عما يسيطر عليه، من خبث وأنانية مفرطة، لخدمة الوطن وإعادة صياغة تعاقد اجتماعي، نلتف فيه حول ما يجمعنا من ثوابت وقيم، تحمينا من حر التشرذم وقساوة الشتات. اختبار "كورونا" بقدر ما يفرض علينا التحلي بما نتميز به من شيم وأخلاق، بقدر ما يسائلنا جميعا من حيث قدرتنا على تدبير الأزمات والمخاطر، ومدى توفرنا على البنيات والوسائل التي تجعلنا نواجه الأزمات الفجائية بشجاعة وبدون خوف أو هلع، ونرى أن اللحظة، تقتضي التفكير في السبل الممكنة القادرة على الرفع من القدرات الصحية (مستشفيات، أسرة، معدات طبية ولوجستية، أطر مؤهلة...) ودعم البحث العلمي خاصة على المستوى الطبي، والاستثمار في بناء الإنسان/المواطن، من منطلق أن مواجهة الأزمات والكوارث الفجائية، تمر قطعا، عبر الإنسان/المواطن، المشبع بثقافة المواطنة واحترام سلطة القانون، وإعادة النظر في منظومة التربية والتكوين خاصة على مستوى الطرائق، وإذا كان "الفيروس المرعب"، قد فرض علينا اعتماد "التعليم عن بعد" بكل ما يقتضيه من مضامين رقمية وما يتطلبه من وسائل ومعدات تواصلية، فهي فرصة سانحة، للانفتاح على تكنولوجيا الإعلام والاتصال، واعتمادها الشامل في التدريس، بدل الطرائق التقليدية المتجاوزة، التي تبين بالملموس حجم قصورها ومحدوديتها، في ظل هذه الظرفية الاستثنائية.. وقبل الختم، لا يسعنا إلا أن نثمن كل المجهودات والمبادرات المواطنة التي من شأنها أن تقوي لحمة المواطنة وتدعم الجبهة الداخلية ، بشكل يسمح بالتصدي لهذه الجائحة الطارئة، ونشيد بالأساس بمختلف الأطباء والممرضين عبر التراب الوطني الذين يتحملون وزر هذا الوباء العنيد، وأدوار السلطات القضائية والأمنية والمحلية في التصدي للتصريحات غير المسؤولة و للأخبار الزائفة التي تقوي الإحساس بالهلع وانعدام الأمن، ونثمن أدوار كل المواطنين، الذين يتحلون بحس المواطنة، ويتقيدون بما يصدر عن الجهات المختصة من تعليمات وقرارات حماية للصحة العامة، وننوه بالتضحيات الجسام، التي تقوم بها مختلف الأطر الإدارية والتربوية، التي انخرطت بكل مسؤولية ونكران للذات، في التواصل مع التلاميذ والطلبة عبر مختلف الوسائط التواصلية، حرصا على الاستمرارية البيداغوجية، إلى درجة أن شرائح واسعة من المدرسين يتواصلون مع التلاميذ والطلبة، أحيانا حتى في الفترات المسائية، لمدهم بما يلزم من ملخصات ومضامين رقمية، والرد على ما يطرحونه من تساؤلات واستفسارات، في أجواء من التضحية والمسؤولية ونكران للذات، خدمة للوطن في هذا الوضع الاستثنائي. ونختم بالقول، أننا كمغاربة، يحق لنا أن نفتخر بما تم اتخاذه من قرارات استباقية ومن إجراءات وقائية، نالت الإعجاب والتقدير في الخارج، رغم ضعف الوسائل ومحدودية الإمكانيات، لكن بالمقابل، نؤكد أن بعض المواطنين لا بد أن ينخرطوا إيجابا في إنجاح وتثمين ما يبذل من مجهودات متعددة المستويات، عبر التقيد بالتعليمات والقرارات الصادرة، بالتزام المنازل قدر الإمكان، واحترام شروط ومعايير النظافة والوقاية، والابتعاد عن ترويج الأخبار الزائفة والقطع مع ممارسات الجشع والاحتكار، والتحلي بما يكفي من الصبر والتحمل في معركة غامضة لا نعرف فيها الخصم، قد تخلف تداعيات وخسائر، لكن الصحة العامة فوق كل اعتبار، فكلنا ضحايا محتملين لفيروس "كورونا" المستجد، وليس أمامنا من خيار، سوى الوقاية لأنها خير من العلاج، في انتظار إيجاد مخرج للجائحة التي مست كل العالم، ونهيب مجددا، بكل الأشخاص المعنويين والذاتيين، من أجل الإسهام في هذا الصندوق المحدث، وندعو الحكومة، للتفكير في السبل الممكنة التي من شأنها دعم القطاعات التي تضررت من الأزمة (تجارة، سياحة، فلاحة..) ومساندة شرائح واسعة من الأشخاص الذين تحولوا بين عشية وضحاها إلى عاطلين عن العمل، بعد توقف أنشطة الأماكن والمحلات التي كانوا يشتغلون بها، التزاما بالقرارات الرسمية الصادرة في هذا الشأن، على أمل أن نكون نحن المغاربة في مستوى الاختبار، بتعاوننا وتعاضدنا والتفافنا حول الثوابت الوطنية وقيمنا المشتركة، وأن يكون العالم بكباره وصغاره، في مستوى "جائحة عالمية"، تفرض طرح أسلحة العناد والخلاف والصدام، ورفع شعارات النبل والرقي والتحضر والإنسانية، ليس فقط لاجتياز اختبار "كورونا" العنيد، ولكن لإيقاظ ضميرنا الميت واسترجاع إنسانيتنا... مع أحر التمنيات لكل شعوب وأمم العالم، بدوام الصحة والعافية في "زمن كورونا" المرعب...