أثارت انتباهي هذه الأيام إحدى المقالات التي سلّطت الضوء على شريحة كبيرة من المجتمع تعاني في صمت. هذه الشريحة، ولو أنها تختلف من بلد إلى آخر, فإنها موجودة لا محالة في كل أرجاء المعمور. المقالة صوّرت للقارئ معاناة الأشخاص الذين يعيشون في عزلة داخل مدينة أمستردام بالخصوص. الشعور بالعزلة في هذه الأيام الصعبة يصل الذروة. أكثر من نصف عدد الأسر 467000 القاطنة بأمستردام تتكون من فرد واحد (248000) حسب الإحصائيات الرسمية التي نشرها مكتب البحث والمعلومات والإحصائيات الهولاندي (OIS). وفي هولاندا بأكملها يعيش حوالي فرد واحد من بين 5 أفراد وحيدا. حاليا, في ظروف فيروس كورونا, يتفاقم الوضع أكثر. العيش وحيدا يعني بالفعل العزلة التامة. المقاهي والمطاعم أقفلت؛ فلا يمكنك مثلا اقتناء قهوة أو تناول عشاء مع صديق تقاسمه متاعبك اليومية وتستمع إلى آرائه واقتراحاته. حتى تلك الدردشة القصيرة التي تتبادلها في النادي الرياضي أثناء التمارين الرياضية انعدمت. أيضا تلك اللقاءات القصيرة التي كانت تجمع بعض الآباء بمحاذاة المدرسة أثناء مرافقة أبنائهم لم تعد ممكنة. تحكي إحدى السيدات التي تعيش لوحدها مع ثلاثة أطفال بأنها تعاني من العزلة في هذه الأيام أكثر من ما مضى. ولو أنها وضعت جدولا يوميا لتفادي الملل، حيث تقسم وقتها ما بين مساعدة أبنائها في إنجاز واجباتهم المدرسية وبين الأعمال المنزلية والقراءة, فإن الإحساس بالعزلة يلازمها باستمرار. على الرغم من امتلاكها أكثر من 5 آلاف صديق وصديقة على "فيسبوك", وشبكة كبيرة من المعارف والأصدقاء، فإن اتصالاتها خارج البيت كانت عادة تخفف من وطأة العيش في العزلة؛ لكن أمام الإجراءات الحالية المتخذة حول الفيروس أحست أكثر من ما مضى بأهمية الاتصال واللقاء والتحدث لأشخاص آخرين. يرى بعض الباحثين الاجتماعيين بجامعة تلبورخ الهولاندية أن هذه الوضعية فريدة من نوعها؛ فلم يسبق للبشرية أن عاشتها بمثل هذه الصورة، ولو أن البعض يشبهها بأيام الحروب والكوارث الطبيعية. ففي هذه الحالات، ترى الجميع يلتحم ويواسي بعضه البعض. وهذا ما يحدث فعلا حاليا عبر وسائل الاتصالات الاجتماعية؛ ولكن ما يميز وضعية فيروس كورونا هذه عن باقي الكوارث الأخرى هو انعدام ومنع الاتصال المباشر مع الآخر وفرض الابتعاد والعزلة. ويضيف تعليق بعض الباحثين في الموضوع بأن أغلب الأبحاث في هذا المجال تركز على أهمية التواصل المباشر. وكمثال على ذلك, فإن الاتصال المباشر للوالد بابنه له تأثير قوي على تنمية الطفل السليمة؛ فالاتصال الحقيقي المباشر, بمعنى المصافحة بالأيدي, واللقاء المباشر مع البعض, ومعانقة الأحباب وأفراد الأسرة هو جزء من الحياة. الغرابة هو أن يعيش الإنسان لمدة دون أي يلمس أو يلامس شخصا آخر. أمام الظروف الصعبة الحالية التي تمر بها جميع البلدان، فضّل بعض الأفراد الذين اختاروا فيما مضى العيش لوحدهم في مدينة أمستردام الرحيل (العودة) والعيش مع آبائهم خارج المدينة، بدل المكوث طيلة أربع وعشرين ساعة تحت الإقامة الإجبارية في صمت دائم وسط أربعة جدران لا تتحرك ولا تتغير! على أي حال، سيجدون من يكلمهم ويشاركهم حديثهم. إحدى الموظفات في القطاع السياحي، والتي تعيش بمفردها في شقة داخل أمستردام والتي أجبرت على أخذ إجازة إجبارية من طرف شركتها، لم تتردد في مغادرة إقامتها للعيش مع أبويها في إحدى القرى المجاورة. وتعبر عن شعورها الحالي: "لقد كنت سأجن لو بقيت لوحدي طيلة هذه المدة في تلك الشقة". مضيفة: "لقد أحسست الآن من جديد بالحياة". ولو أنها كانت تفضل العيش دائما مستقلة، ولم تكن تتصور أنها ستغير موقفها في يوم من الأيام. طبعا، الأمر يختلف كثيرا بالنسبة إلى العجزة وكبار السن. هذه الفئة الهشة تعاني أكثر من غيرها. أثرت في نفسي مكالمة هاتفية تلقيتها من إحدى زميلاتي في العمل. سيدة ذات الأربع وستين ربيعا من عمرها. تعيش لوحدها منذ أن خرجت من بيت والديها في سن العشرين. أرادت تفقد أحوالي في هذه الأيام، التي لم نعد نجتمع فيها في العمل بحكم ظروف الفيروس. وحكت لي في نفس الوقت قسوة الوحدة التي تعيشها؛ لأن العمل وزملاء العمل هم كل شيء بالنسبة لها. وقبل انتهاء المكالمة، طلبت مني أن أعدها بالاتصال بها هاتفيا على الأقل مرة في الأسبوع! فعلا، وعدتها بذلك. في نفس الحين تبادرت إلى ذهني أسئلة عديدة لم أجد جوابا لها. نحن نمر الآن من فترة صعبة للغاية. لا أحد يعلم متى ستنتهي هذه المحنة. إذا توقعنا أنها ستزول بعد بضعة أسابيع أو أشهر فهذا يمكن أن يساعد البعض على الاستعداد نفسانيا للخروج منها بسلامة. وذلك عن طريق إعداد برنامج يومي متنوع واحترامه. يعتمد هذا البرنامج أولا على العناية الجيدة بالنفس, الاتصال الدائم بالأحباب والأصدقاء, تمارين رياضية (ولو في مكان ضيق) بانتظام, الابتعاد عن الجلوس لمدة طويلة دون حركة, الاستماع إلى الموسيقى, القراءة بمعناها الواسع, التسلية بالألعاب. أملي أن تنجلي هذه السحابة بأقصى سرعة وبأقل الأضرار، وأن تكون تجربة لنا جميعا نستفيد منها ونجعلها فرصة جديدة للإقلاع الحقيقي نحو مستقبل أفضل.