شتم، إهانة، واحتقار.. ركل، صفع وسعار.. في مختلف مناطق العالم تنتشر اليوم مشاهد تُجسِّدُ سحق كرامة الإنسان.. والكثير من المنظمات الحقوقية تترنّح في ذهول قاب قوسين أو أدنى من الانهيار.. في لوحة لأكبر "ملحمة عسكرية عالمية" ضد "الكورونازية".. وفيديوهات تُوثِّق بالصوت والصورة تعنيف المدنيين بذريعة حماية البشرية من وباء لا يبقي ولا يذر.. والغريب أن الحديث عن حقوق الإنسان في هذه اللحظة يعتبر ترفا يُشجب من شرائح واسعة من المدنيين. في المقابل تشرئبُّ "مفارقة" واقعية أبطالها هذه المرة أشخاص يصفهم البعض بالحثالة، لانتهاكهم القواعد الأخلاقية والقانونية وعبثهم بأكبر حق مقدّسٍ.. الحق في الحياة، من خلال كسرهم لقانون الإقامة الصحية.. وغيرها من السلوكات الإجرامية سجلتها فيديوهات المراقبة، لمصابين بفيروس كورونا يريدون نقل العدوى إلى السالمين بتلويث الفضاءات والمعدات العمومية بالبصاق Le crachat في بعض دول العالم كالصين، وإيطاليا.. وهي عوامل تؤدي إلى تسريع انتشار الوباء. نحن إذن أمام معضلة خطيرة، يمكن تسميتها "متلازمة وباء كورونا".. وإطلالة سريعة على تاريخ الأوبئة، ستكشف لنا خلاصات مهمة، أبرزها سيادة الخوف والهلع والترقّب، وتحول الإنسان إلى مجرد "فعالية بيولوجية" وتساقط المعايير الإنسانية. وكلما اشتدت حِدّة ومُدّةُ الوباء، إلا وتنامت ظاهرة فقدان المعايير l'anomie حيث تظهر سلوكات ضعف الالتزام بالقيم الأخلاقية لدى معظم الناس، الصورة أقرب للقيامة، والشعار أنا وبعدي الطوفان، واحتمال استفحال الجريمة وإفرازاتها المتمثّلة في الارتداد إلى التوحش والهمجية والفوضى، وفقدان الأمن وزعزعة الاستقرار، واستهداف حياة وممتلكات الأبرياء من لدن الذئاب البشرية. وهنا لا بد من طرح تساؤل ضروري؟ - كيف ستتصرف الدولة مع مجرمين وإرهابيين مدججين بأسلحة فتاكة، وقد شرعوا في ترويع وقتل المدنيين؟ - هل ستقدم لهم باقة من الورود والأزهار؟ - وهل تعطي فرضية احتمال حدوث الجرائم للدولة الحق في عسكرة الحياة اليومية وفرض حالة الطوارئ وممارسة العنف أم عنف الدولة مهما وجد من مبررات فلن يحظى أبدا بالمشروعية؟ بخصوص السؤال الأول، يجيبنا السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر، أنه على الدولة حال انتشار الفوضى أن تتدخل بسرعة بوسيلتها المميزة التي هي العنف المادي المشروع، للقضاء على عنف المجرمين والخارجين عن القانون، والدولة لا يمكنها الاستغناء أبدا عن هذه الوسيلة، موضحا أن الدولة الديمقراطية بوصفها تجمعا سياسيا عقلانيا منظما، لها وحدها الحق في احتكار العنف وتفويضه لمن تريد، هكذا يصرِّحُ المفكر فيبر بوضوح أن افتراض دولة لا تمارس حقها في العنف يعني انهيار الدولة وانتشار الفوضى. بمعنى أن الدولة حين تلجأ إلى العنف المادي المشروع، لا تحمي وجودها فقط بل تقوم بحماية المواطنين، خدمة للمصلحة العامة. رغم وجاهة كلام عالم الاجتماع فيبر إلا أنه ينطوي على بعض الأعطاب التي يجب تصحيحها، بدءا بربط سلطة الدولة فقط بممارسة العنف، وهذا ما نراه اليوم في العالم، جيوش، أسلحة، دبابات، تهديد بالسجن.. ينتقد المفكر بول ريكور اختزال السلطة في العنف، إذ يعتبر العنف هو الجانب غير المعقول في سلطة الدولة، وبالتالي فتمة جوانب معقولة في السلطة أهمها "التربية" وهي بمثابة الآلية الاستباقية لتجفيف منابع الجريمة ومنع خرق القواعد الأخلاقية والقانونية، لأن الإنسان لا يولد إنسانا وإنما يصبح إنسانا بالتربية. -هل قامت الدولة بتربية الخارجين عن القانون؟ بصياغة أخرى قبل قيام الدولة بالعدالة الجنائية بتعنيف المجرمين والزج بهم في السجون، هل قامت بالعدالة التربوية الاستباقية؟ - وهل يحق للسلطات صفع وركل وشتم وتعنيف المواطنين؟ في إيطاليا حيث فرضت الدولة عسكرة صارمة للحياة اليومية جراء السرعة المهولة لمنجل كورونا الذي يحصد الكثير من الضحايا، وفرضت السلطات الحجر الصحي مع حظر التجول وعقوبات وغرامات كبيرة للمخالفين، هذه الإجراءات لم ترق الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben الذي اعتبرها مجرد خطة لدسترة حالة الطوارئ في العالم، وتجميد العمل بالقوانين المدافعة عن الحقوق والحريات. حسب أغامبين G.Agamben الدول الديمقراطية استهلكت مفهوم الإرهاب الذي طالما استخدمته كمبرّر جيد لممارسة العنف، وبالتالي كان من اللازم ابتكار بديل لمفهوم الإرهاب، وهذا البديل لن يكون مستقبلا سوى "إرهاب الأوبئة" الذي سيمنح دول العالم "سلطة مطلقة" تباركها الشعوب، بسبب الحملات الإعلامية التي تضخ باستمرار معلومات عن خطورة الوضع، معززة بإحصاءات ترتدي لبوس العلم تدعمها تصريحات وتحذيرات من مراكز ومعاهد يُمثّلها أشخاص تحت مسميات علماء، خبراء، باحثون، مختصون، نشطاء.. والهدف هو صناعة الرأي العام العالمي وتوجيهه لتقبل المخاوف التي ستخلق الخضوع والانقياد والطاعة، وتخلي الإنسان عن كل فعالياته والتزاماته الأخلاقية، الاجتماعية، الثقافية، القيمية.. والاكتفاء بالفعالية البيولوجية، أي الانتقال من الإنسان إلى الكائن، في حين أن وظيفة الدولة هي تحويل الكائن البشري إلى الشخص الإنساني بتعبير الفيلسوف المغربي عزيز الحبابي. "الكورونازية" هي الجولة الثانية للعولمة الإمبريالية، وهي جولة تكمن خطورتها في مباركة الشعوب لتعنيف الدولة لها، وهذا الوضع المأزوم يستلزم الكفاح الفكري، والتنوير الإعلامي للقيام بعملية جراحية، لاستئصال الوباء ومنع مِشْرط الدول من اقتلاع الكرامة الإنسانية.