1 تنمو ظاهرة الكتابة في العالم الإسلامي – العربي على نحوٍ لا سابقَ له. فهي، نسبياً، أكثرُ نمواً منها في أي بلدٍ من بلدان العالم. علماً، وهذا تناقضٌ مريع، أن نسبةَ القراءة فيه أقلُّ منها، في المطلق، في أيّ بلدٍ من بلدان العالم. مع ذلك، يمكن القول إن نموّ هذه الظاهرة مهمٌّ جداً من حيث المبدأ، لكن شريطة أن نقرِن هذا الأمر بالتوكيد على أنّ الأكثر أهمية هو: ماذا تقول هذه الكتابة؟ وكيف تقوله؟ مثلاً، ماذا يقول الشعراء في العالم الإسلامي – العربي عن القضايا الكبرى، قضايا الإنسان والكون، وجوداً ومصيراً؟ ماذا يقول الروائيون؟ ماذا يقول المفكرّون والفلاسفة، ماذا يقول العاملون في حقول الفنّ – تصويراً ونحتاً، موسيقى وغناءً، مسرحاً ورقصاً؟ 2 إذا تبنّينا موقف جيل دولوز وهو أنّ الكتابةَ «فعلُ مقاومةٍ للموت « أولاً و « فعل مقاومة للرقابة « ثانياً، فإن ذلك يفترض في الكاتب أن تكون له رؤيةٌ شخصية خاصة للحياة والإنسان والكون، يصدر عنها في كتابته. هكذا يمكن أن نتساءل: ما هذه الرؤية في الرواية العربية؟ أو في الشعر العربي؟ أو في الفن العربي؟ لا أشك شخصياً، في أن لمعظم الكتّاب الشبّان الذين يملأون اليوم ساحة الكتابة العربية، مواهب متميّزة. وهذا سبَبٌ إضافيّ يفرِض عليهم أن يُصغوا إلى أسئلةٍ كثيرة تُطرح عليهم، مباشرةً أو مداورةً، خصوصاً من قبل كُتّابٍ أجانبَ كثيرين. وهي أسئلةٌ تدور حول مدى تفرّداتهم في رؤاهم الإبداعية، أدباً وفكراً وفناً، – في كل ما يتعلّق بقضايا الإنسان الكبرى، كالحب والموت، والذّات والآخر، والطبيعة، وما وراءها ؛ قضايا الوجود والمصير بعامّةٍ. نعم، ما فرادةُ رؤاهم، في الإطار الإبداعي، مضامين وطرقَ تعبير، على المستوى الإنساني الكونيّ؟ فذلك هو سؤالُ الكتابة. 3 لكن ماذا تعني « المقاومة «؟ إنها تعني، وفقاً لأصدقاء دولوز وشارحيه، وبينهم جيورجيو أغامبين Giorgio Agamben « تحرير طاقةٍ حيّة سجينة أو مضطهدة منبوذة «. ويميل أغامبين نفسه إلى أن يتبنى بالأحرى ما يقوله فويرباخ وهو أن العنصر الفلسفي الحقيقي الذي يتضمنه عمل إبداعي، فني أو فكري أو علميّ، هو قدرته على تطوير و توسيع ما أبقاه السابقون في الظل، أو تم التخلي عنه. وهو كذلك القدرة على معرفته وإدراكه تماماً، مضيفاً قوله: « لماذا، إذاً، يدهشني البحث عن هذا العنصر القابل للتطوير والتوسيع؟ « ويجيب: « لأننا إذا تابعنا إلى النهاية هذا المبدأ المنهجيّ، فاننا نصل حتماً إلى نقطةٍ يتعذّر فيها التمّييز بين ما هو لنا وما هو للمؤلف الذي نقرؤه. الإنضمام إلى هذه المنطقة اللّاشخصية (أي حرية الإستواء) في التساوي بين الإمكانات، حيث يفرغ من المعنى كل اسْمٍ شخصي كاسم العلم، وكل حق مطلق للمؤلّف، وكل ادّعاءٍ للبداية – الأصل، أو للأصالة والفرادة (Originalité) – هذا الإنضمام يغمرني بالفرح « (ص. 30، الإبداع والفوضى، منشورات مكتبة ريفاج، باريس 2017). وهو موقفٌ يندرج في رؤية بورخيس الذي يقول ما معناه العالم كتابٌ واحدٌ لكتّابٍ لا نهاية لهم. 4 لا ينحصر معنى « المقاومة بالكتابة » في صدّ طغيانٍ سياسيّ، خارجيّ. فهو معنىً قد يحجب البُعد الكتابيَّ المقاوم الذي يكمن في الدّاخل الإنسانيّ. فإذا كانت القوّة لا توجد، عمليّاً، إلا بصيرورتها فعلاً، تِبعاً لتمييز أرسطو بين الوجود « بالقوّة « والوجود « بالفعل «، فإن المقاومة ليست مجرّد عملٍ « خارجيّ «، وإنما هي قبل ذلك عملٌ « داخليّ «. فلا تأخذ مقاومةُ الخارج أبعادَها الوجوديّة الكاملة، قراراً وممارسةً، إلّا بوصفها حركيّةً خلّاقةً في أعماق الإنسان. خصوصاً أن القدرة على الفعل يمكن دائماً أن تتحول، بسبب أو آخر، قدرة على اللّافعل. إذاً، ليست « المقاومة بالكتابة « مجرّد اختراقٍ لغويّ للإكراه والقَسْر، وإنما هي قبل ذلك نيّةُ فِعلٍ، وعَزمٌ على الفعل وخِطّةُ فِعلٍ، رؤيةً، وطُرقَ تَعبيرٍ، وسلوكاً. 5 لهذه المقاومة تاريخها الخاص في اللغة الشعريّة العربيّة. بَدأ هذا التاريخ، قبل مجيء الإسلام، أسلافنا الكبار: امرؤ القيس، طرفة، عروة بن الورد، تمثيلاً لا حصراً، وتابَعه في ما بعد، على نَحوٍ جذريٍّ مدهشٍ، شعريّاً وثقافيّاً، الماجن المدهش أبو نواس والسّاحر الفاتِن أبو تَمّام، والرائي البَصير المعرّي، تمثيلاً لا حصراً. وكان جوهر هذا التّاريخ ينهض على الوَعْي بأن الواقعَ لا يبدأ – إنسانياً، وحقوقاً، وحرّياتٍ إلّا حيث تنتهي الرّقابة باسم المُطلَق، أيّاً كانَ. وفي هذا التاريخ تغيّرت العلاقات بين الكلمات والأشياء، إلى درجةٍ قادت بعض العرب، وتقودهم حَتّى الآن، بشكل أو آخر، إلى القول عن أبي تَمّام: « إن كان ما يقوله شعراً، فكلام العرب باطِل «. وهو قولٌ عميقُ الدّلالة، واسعُ المدار، على جميع الصُّعد والمستويات، ولم يُدرَس، مع ذلك، حتّى الآن، كما ينبغي. 6 لكن، لماذا تهيمنُ « المهادنَةُ « على الثقافة العربية؟ بل، لماذا تهيمن حيث ينبغي أن تنعدمَ كلّياً؟ تهيمنُ في « الثورة « وفي « الحرّية « وفي «الحقوق « وفي « المعتقدات « وفي السياسة وقيم العدالة، والمساواة. وأين « يذهب « العالمُ الداخليّ الحميمُ في الإنسان؟ وكيف تطرده، أو تطمسُه « المسوِّغات «؟ وأين تذهبُ « الذّاتُ « العميقة؟ وكيف يتحوّل الإنسان إلى مجرّد « آلة «؟ وعندما تغيب « الذاتيّة « في الإنسان، أفلا يُصبِحُ مجرّدَ «جسمٍ «؟ أفلا يفرغُ من كلّ خصوصيّةٍ في المشاعر والعواطف، والرّغباتِ والصّبوات، والمخّيلة والأحلام؟ والمسألة هنا هي: كيف يُعقل أن تذوبَ « ماهيّةُ « الإنسان، في كلّ ما هو ضِدَّ الإنسان؟ كيف تُخْتَزل كينونة الشّخص في ما يجيء إليه من خارج؟ كيف يتحوّل جسم الإنسان، في فكره وعمله، إلى مجرّد مجموعة من المُصطلحاتِ؟ وكيف تلبس حركيّة الحياة ثوباً اسمه الموت؟ *** شرارة إنها الحربُ – طاحنةً، في أحشاء اللغاتِ بين الحروف الصّائتةِ وأخواتِها السّاكنة: بين جميع الكتب، غربيّةً وشرقيّةً، تخرج جيوشٌ بلا نهايةٍ لخوض هذه الحرب. *** يبدو أَنّ السّنةَ التي أعلنت فيها حقوق الإنسان، كونيّاً، لم تصل بعد، على الرّغم من سيرها السّريع، إلى أيّة عاصمة إسلاميّة عربية. *** جاء حصان الفارسِ، ولم يجئ الفارس بعد. وها هو رأس الحصان يستسلم لأعشاب النّوم. بأيّ حزن أسأل عينيه، هذا المساء: لماذا ترفضان الحلم؟ *** صحيحٌ: للعالم الرّاهن، هو أيضاً، أذنان. لكن، هل تُتقنانِ، حَقّاً، فَنَّ الإصغاء؟ *** كرنفالٌ دائمٌ للسلاحفِ، احتفاءً بالأرانب، كرنفالٌ دائمٌ للأرانبِ، احتفاءً بالسّلاحف: ساحةُ الكرنفال مدينةٌ توصف بأنّها عربية. *** عرفت ذلك الشاعر الذي رسم صورةً للقمر فيما كان يؤدي صلاة العشاء. وسمعتُ العشاء نفسه يسأله: لماذا لم تنجح في رسمِ الصّورة؟ *** بدأت كلماتٌ كثيرة في معجم اللغة العربية تهجر بيوتها التي تسكنها بالوراثة. وهي الآن تتزاحم للسّكَن في أماكنَ أخرى – في الخنادقِ والآبار الجافة، في المقابر والصّحارى، في المغاورِ والأنقاَض. بعض الشعراء يرصدون الأوراق التي تتطايرُ من ذكريات هذه الكلمات المهاجرة. يجمعونها ورقةً ورقةً. يترجمونها حيناً. يؤولونها أحياناً. وغالباً، يَتطايَرون معها.