عرف الموقف من القضية الفلسطينية لدى العديد من المثقفين والكتاب الفرنسيين تنوعا وانقساما أدى، تبعا لذلك، إلى بروز موقفين اثنين متعارضين: الموقف الأول عبّر عنه مثقفو وكتاب اليمين الفرنسي أو من ذوي الديانة اليهودية، مثل جماعة أو ما يسمى «الفلاسفة الجدد» في السبعينيات، والذين ترجمت مواقفهم كتابات أندري غْلُوكسْمان وبرْنارد هنري ليفي وأَلاَنْ فنكلكْرُوتْ وغيرهم. وقد كان واضحا لدى هؤلاء موقف المعاداة التامة للقضية الفلسطينية والدفاع المستميت عن السياسة الإسرائيلية، مهما بلغت درجة شراستها وعدوانيتها، بل إن مواقفهم اتسمت، أحيانا كثيرة، بالابتزاز انطلاقا من الإحساس بالذنب والوعي الشقي الأوربي إزاء الإبادة العرقية لليهود من طرف هتلر. أما الموقف الثاني فهو الذي تبناه وعبّر عنه مثقفو وفلاسفة اليسار الفرنسي، الذين دافعوا عن الفلسطينيين على اعتبار أن قضيتهم ظلم تاريخي طال شعبا بأكمله طُرِد من أرض أجداده... كثيرة هي الأسماء هنا، ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى الدور التضامني الإنساني لكاتب هائل ومتميز من قامة جان جوني، الذي صاغ تجربة معايشة للقضية في كتابه «الأسير العاشق»، والإشارة أيضا إلى جيل دولوز، الذي لم يعتر موقفه أي وهن أو ضعف وظل دوما مساندا للقضية بكل الوضوح السياسي المفترَض. موقف جيل دولوز من القضية نما أولا في أحضان ماي 68 وعبْر الصداقة الوثيقة مع المثقف والمفكر الفلسطيني إلياس صنبر والمجاورة الدائمة لمجلة «الدراسات الفلسطينية»، في نسختها الفرنسية. لقد كتب دولوز نصين اثنين مسانَدةً للقضية ومحللَيْن لثوابتها، جاء الأول على شكل حوار مع إلياس صنبر، بمناسبة صدور العدد الأول من مجلة «الدراسات الفلسطينية» بالفرنسية سنة 1981، ونشر في جريدة «ليبراسيون» سنة 1982، بعنوان «هنود فلسطين»، والثاني كتبه دولوز بعنوان «عظمة ياسر عرفات» ونُشِر في العدد العاشر من المجلة الفلسطينية ذاتها. يُعرّف دولوز القضية الفلسطينية بأنها مجموعة المظالم التي اقتُرِفت في حق الشعب الفلسطيني، والتي ما زال يتحملها إلى حد الآن. هذه المظالم هي أعمال العنف والكثير من السلوكات والمواقف غير المنطقية والاستنتاجات الخاطئة والضمانات الزائفة التي تزعم تعويض هذا الشعب أو إنصافها. لم يكن رد فعل عرفات إزاء هذه الوعود الكاذبة غير قوله «عار.. عار» (shame.shame) خصوصا إبان مذبحة صبرا وشتيلا... يقولون إن الأمر لا يتعلق بإبادة عرقية ولكنه يتضمن جرائم قتل مرعبة ورهيبة منذ بداية القضية. لم يمارَس الإرهاب الصهيوني ضد القوات الإنجليزية فقط، بل ضد القرى العربية أيضا، التي كان يجب محوها والقضاء عليها، مثل «دير ياسين». ويتعلق الأمر بنفي وجود الشعب الفلسطيني كلية. الغريب أن المحتلين هم أنفسهم أولئك الذين مورس عليهم أكبر نموذج للإبادة العرقية في التاريخ، الذي حولته الحركة الصهيونية إلى شر مطلق. لكن تحويل أكبر إبادة عرقية في التاريخ إلى شر مطلق هو مجرد رؤية دينية وصوفية وليست، أبدا، رؤية تاريخية. لا يوقف هذا التحويل الشر بل ينشره ويُسقِطه على أبرياء آخرين ويفرض عليهم تحمل وزر ما ارتكبه آخرون من جرائم، بطرق سياسية «باردة». يبدو الموقف غريبا حين تطلب الحركة الصهيونية، ثم دولة إسرائيل بعدها، من الفلسطينيين الاعتراف بهم، رغم أنها تنفي حق هؤلاء في العيش فوق أرضهم وتمحو وجودهم كشعب، حين يتم الحديث عن عرب فلسطين فقط لا عن الفلسطينيين، كما لو أن وجودهم فوق هذه الأرض كان خطأ... تملك إسرائيل الحق في نفي انتمائهم وفرض الأمر الواقع عليهم، وانطلاقا من هنا بالذات تبدأ في نسج خيوط تخيل سياسي يمتد، شيئا فشيئا، ليثقل باتهاماته ويحاصر كل المدافعين عن القضية الفلسطينية. ينهض هذا التخيل السياسي على نعت كل من يحتج على الشروط المجحفة التي تفرضها الدولة الصهيونية على الفلسطينيين والشروط السيئة التي تحيط بها حياتهم اليومية واتهامه بمعاداة السامية، تكمن البؤرة الناظمة لهذه العملية في السياسة الباردة التي تنهجها إسرائيل تجاه الفلسطينيين. يقوم جيل دولوز بنوع من التفكيك الأركيولوجي للقضية الفلسطينية والوقوف عند ميكانيزماتها ومحدداتها، ما وراء الوقائع والمعطيات السياسية المباشرة، وصولا إلى القول إن الهدف الخفي لإسرائيل هو إفراغ الأرض الفلسطينية أو التأكيد على أنها كانت، باستمرار، أرضا خلاء منذورة للصهاينة. يشير جيل دولوز، في حواره مع إلياس صنبر، الذي عنوانه «هنود فلسطين»، بمناسبة صدور العدد الأول من النسخة الفرنسية من « مجلة الدراسات الفلسطينية»، إلى أن شيئا ما صار أكثر نضجا في الجانب الفلسطيني وإلى أن نبرة جديدة ظهرت لتؤكد تجاوز هذا الجانب للحالة الأولى من الأزمة، كما لو أن الفلسطينيين بلغوا منطقة اليقين والوضوح و»الحق»، التي تشير إلى ظهور وعي جديد. إنه الوعي الذي قد يسمح لهم بالحديث بطريقة جديدة لا تكون عدوانية ولا دفاعية، بل ندّا لند مع العالم كله. يرى دولوز أن هناك سمتين اثنتين تميزان النبرة المغايرة التي أفرزها ظهور هذه المجلة: السمة الأولى هي التركيز على المشاكل الفلسطينية التي تهم العالم العربي، عموما، والثانية هي تقديم تحليلات سوسيو سياسية عميقة ومنح القارئ الفرنسي إمكانية الاطلاع على المتن الأدبي والتاريخي العربي والمتنوع. يرصد دولوز كيف أن الكثير من الدراسات حللت وذكّرت بالطريقة الجديدة التي طُرد بها الفلسطينيون من مناطقهم، لأن هذا الأمر هام جدا، خصوصا أنهم لم يعيشوا وضعية محتلين بل مطرودين، ثم إفراغ الأرض منهم، تماما مثل الهنود الحمر. ينتقل الفيلسوف على تحليل ذلك من خلال الوقوف عند الحركتين المختلفتين اللتين تكونان الرأسمالية، يتعلق الأمر في الأولى بالإبقاء على الشعب فوق أرضه وتشغيله واستغلاله لمراكمة فائض الإنتاج، وهو ما ينتج، تبعا لذلك، المستعمرات. أما الحركة الثانية فهي عكس ذلك، إذ يتعلق الأمر بإفراغ الأرض من شعبها، للقفز خطوة إلى الأمام، حتى ولو تطلب الأمر إحضار يد عاملة من الخارج. هنا بالذات، يتجسد التطابق بين تاريخ الصهيونية وإسرائيل وتاريخ أمريكا، إذ يتعلق الأمر، في الحالتين كلتاهما، بكيفية خلق الفراغ وبكيفية إفراغ شعب بأكمله. يشير دولوز إلى أن ياسر عرفات وضع حدا لهذه المقارنة في أحد حواراته، حين قال إن هناك عالما عربيا، بينما لم يستطع الهنود الحمر إيجاد أي قاعدة أو أساس أو قوة خارج الأرض التي طُرِدوا منها. يتعلق الأمر، فعلا، باحتلال لا يكتسي المعنى الذي اتخذته الكلمة في أوربا في القرن ال19، إذ لا يتم استغلال سكان البلاد بل تهجيرهم، أما أولئك الذي يمكثون فلا يتحولون إلى يد عاملة مرتبطة بأرض ما، بل إلى يد عاملة مؤقتة منفصلة، كما لو أن الأمر يخص مهاجرين موضوعين داخل غيتو. منذ البداية، تعلق الأمر بشراء أراض، شريطة أن تكون فارغة من ساكنيها أو قابلة للإفراغ، بل إن الأمر ذهب بعيدا في إطار مصادرة أملاك الغائبين. إنها إبادة عرقية لا تتوخى المحو الجسدي بل الإفراغ الجغرافي، فما دام الفلسطينيون مجرد عرب، يلزمهم الذهاب للذوبان في العمق العربي. إن الفلسطينيين، بالنظر إلى مجموعة من المعطيات، هم، في نظر جيل دولوز، الهنود الحمر الجدد، هنود إسرائيل... تنهض هذه السياسة، في العمق، على معطى مرتبط بحركية الرأسمالية نفسها، من خلال الدفع دوما بالحدود إلى مناطق أبعد تماما، كما جسد ذلك الفعل الرأسمالي الأمريكي أو الحلم الأمريكي الذي استثمرته إسرائيل مجددا، عبر الحلم بإسرائيل الكبرى على أرض عربية وعلى ظهر العرب. كيف تمكن الشعب الفلسطيني، إذن، من الاستمرار في المقاومة، كيف تحول هذا الشعب المنتظم في عشائر إلى أمة مسلحة؟ وكيف بنى منطقة تمثله وتجسده خارج أرضه ودولته؟ هنا بالذات يحضر ما سماه دولوز عظمة ياسر عرفات، إذ كان من الضروري وجود شخصية تاريخية كبيرة كعرفات، قد يقال عنها، من وجهة نظر غربية، إنها طالعة من إحدى مسرحيات شكسبير. إذا كانت العبارة الإسرائيلية تقول: «نحن لسنا شعبا كالشعوب الأخرى»، فإن الفلسطينيين أجابوا بالصرخة الأولى التي تضمنها العدد الأول من «مجلة الدراسات الفلسطينية»، حين أكدوا أنهم مجرد شعب كالشعوب الأخرى وأنهم لا يريدون سوى أن يكونوا كذلك، إنها صرخة ذات معنى متعدد، إنها نداء أو تذكير بحقيقة قائمة. حين تفرض إسرائيل على الآخرين أن تعامَل كشعب فوق العادة، فإنها -كدولة- تظل أسيرة وضعية التبعية الاقتصادية والمالية للغرب، لذا يلح الفلسطينيون على مطلبهم المغاير، وهو أن يصيروا ما هم حقيقة، أي شعبا «عاديا» جدا. إنهم يسايرون المعنى التاريخي ويتماهَوْن مع حقل ممكناته، بعيدا عن التاريخ القيامي الذي تماهى معه الطرف الآخر. يدحض دولوز الدعوة الإسرائيلية الموجهة للفلسطينيين للذوبان في العمق العربي، عبر التأكيد على أنهم شعب متميز، مختلف عن العرب الآخرين، كاختلاف الأوربيين عن بعضهم البعض، لذا فإنه لا يمكنهم أن ينتظروا من الدول العربية غير مساعدات غامضة، قد تنقلب إلى ردود أفعال على درجة كبيرة من الشراسة والعنف، حين يصير النموذج الفلسطيني مصدر خطر بالنسبة إليهم. لقد عبَر الفلسطينيون دوائر التاريخ الجحيمية، مثل إفلاس الحلول كلما صارت قريبة أو ممكنة، وانقلاب التحالفات إلى عداوات يؤدون ثمنها، والوعود المعلنة على الملأ، والتي سرعان ما تتم خيانتها، لكن مقاومتهم ظلت تتغذى، حتى في أحلك الظروف والسياقات، على كل هذه التجارب المريرة. إذا ما حدث أن فقد الشعب الفلسطيني هويته، يقول دولوز، فسيترك المكان لإرهاب مزدوج باسم الدولة تارة، والدين، تارة أخرى، وسيسمح هذا الفقدان بانتشاره وتصير كل إمكانية للحل السلمي مع إسرائيل مستحيلة. إن اندثار منظمة التحرير الفلسطينية قد لا تجسد، من منظور جيل دولوز، في مقاله عن «عظمة ياسر عرفات» سوى انتصار للقوى العمياء الداعية إلى الحرب، والتي تتجاهل، كلية، مسألة استمرارية الشعب الفلسطيني وبقاءه على قيد الحياة...