أحسن قولة تجسد حالة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هي أنه «أمريكي من المحافظين الجدد بجواز سفر فرنسي». ولو أن ساركوزي كان رئيسا للجمهورية الفرنسية في عهد جورج بوش الابن، أثناء الإعداد لغزو العراق، لوافق على دعم الحلفاء بجيشه الفرنسي، فقط لكي يرضي غرور إسرائيل وشهيتها المفتوحة لرؤية الدماء والأشلاء. وهي الشهية التي تزكيها فتوى الحاخام اليهودي «يسحاق شابيرا» التي أجاز فيها قتل الإسرائيليين، سواء كانوا جنودا أو مجرد مواطنين عاديين، كل من هو غير يهودي من أجل ضمان أمن إسرائيل، حتى ولو تعلق الأمر بالرضع من الأطفال. وقد استغربت رابطة علماء فلسطين صمت الأممالمتحدة واليونيسيف والفاتيكان وكل منظمات العالم المتحضر عن هذه الفتوى الهمجية. ورأينا بالأمس، في المقابل، الرئيس الفرنسي يحضن، بمدخل قصر «الإليزيه»، رئيسَ الوزراء الإسرائيلي نتانياهو بحرارة كبيرة. ولماذا سيستهجن العالم المتحضر هذه الفتوى التي تجيز قتل الأطفال الرضع الفلسطينيين مادام العالم بأسره رأى كيف مزقت القنابل الفسفورية أشلاء هؤلاء الأطفال خلال العدوان الأخير على غزة بدون انتظار صدور هذه الفتوى. عندما كان يحدث عدوان على الفلسطينيين من طرف الإسرائيليين كان الإعلام الفرنسي يتعامل بنوع من التعاطف مع الفلسطينيين. أما خلال العدوان الأخير على غزة، وفي ظل إعلام متحيز بالكامل إلى الغطرسة الإسرائيلية في ظل حكم ساركوزي، فقد تم اعتبار ما قامت به إسرائيل من قتل للأطفال والمدنيين دفاعا مشروعا عن النفس. وهو الإعلام نفسه الذي هاجم بشدة «فرانسوا بايرو» عندما صرح في إحدى البرامج بأن إسرائيل لا تدخل ضمن أولويات حملته الانتخابية. فسفهت الصحافة الفرنسية التابعة للوبي الصهيوني الإسرائيلي أحلام بايرو «الرئاسية» ولعبت دورا كبيرا في تراجع شعبيته، عبر مؤسسات استطلاع الرأي التي تتحكم في نتائجها، أياما قليلة قبل الاقتراع. أما منافسة الرئيس الفرنسي الاشتراكية «سيغولين روايال»، فقد دفعت غاليا ثمن تصريحها الذي قالت فيها إن حزب الله ليس منظمة إرهابية. فشنت عليها صحافة اللوبي الصهيوني الإسرائيلي حملة شرسة اقتحمت عليها بيتها وبعثرت قمصان نومها بحثا عن أسرار صغيرة للنشر. فنجحت الحملة في تفويت حلم الرئاسة على «سيغولين» بعدما أطلقت عليها كلاب الحزب الاشتراكي لتنهش لحمها من داخل الحزب، كما نجحت الحملة المنظمة في فصل «سيغولين» عن رفيقها «فرانسوا هولاند» بعد سنوات طويلة من التعايش على طريقة «الكونكيبيناج»، أي بدون عقد زواج. تلك الطريقة التي حكت «نادية لارغيت» أنها تعيشها مع نور الدين الصايل في أحد أعداد مجلة «فام أكتيال». أما «دومينيك دوفيلبان» فقد تكفلت بإزاحته عن مضمار السباق نحو الرئاسة قضية «كليرستريم» التي تظهر على ملفاتها بصمات جهاز الموساد الإسرائيلي، عقابا له على رفضه، خلال حكومة شيراك، إرسال قوات عسكرية لغزو العراق مع الغازين. وهكذا، خلا الجو لساركوزي الذي استعمل، خلال حملته الانتخابية، معجما متناغما مع الإيديولوجيا الصهيونية، مما جلب عليه تعاطف الجالية الإسرائيلية بفرنسا التي تعتبر أهم جالية في العالم. هكذا، نفهم بشكل أفضل ما قاله زميل ساركوزي في الحزب، «كريسيان إستوري» خلال الحملة الانتخابية من كون «ساركوزي هو المرشح الطبيعي لليهود». الشيء نفسه وقع مع باراك أوباما الذي فهم أن دخوله إلى البيت الأبيض رهين بوقوفه فوق منصة «الإيباك» أمام مئات اليهود واعترافه بالطابع اليهودي لدولة إسرائيل وبالقدس عاصمة أبدية لليهود، وبتقديم الدعم المطلوب إلى إسرائيل، ماليا وتسليحا ودبلوماسيا. وهو الشيء الذي نفذه باراك بالحرف ونال عنه تصفيقات الحاضرين وأيضا أصوات اللوبي الصهيوني في أمريكا. هكذا، نفهم أن وصول نيكولا ساركوزي إلى منصب الرئاسة بفرنسا لم يكن صدفة، بل حظي بأعلى قدر من الرعاية من طرف إسرائيل وأذرعها الضاربة فوق التراب الفرنسي، ونقصد c.r.i.f المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، إضافة إلى أذرعه الممتدة في الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والحقوقي. هذا المجلس الصهيوني المستأمن على تحويل فرنسا إلى مقاطعة تابعة لإسرائيل، والذي عندما قال رئيسه خلال سنوات الثمانينيات، «تيو كلين»، إنه لا يريد أن يكون بمثابة سفير تل أبيب في باريس، شن ضده اللوبي الصهيوني حملة إعلامية كاسحة، انتهت باعتباره «متعاونا» مع الفلسطينيين. وقد فهم «الإليزيه» الدرس جيدا، ولذلك عندما أصبح رئيس المجلس التمثيلي ليهود فرنسا هو «ريشار براسكيي»، لم يتجرأ ساركوزي على التفوه بكلمة واحدة عندما صرح هذا الأخير لوسائل الإعلام، في عز الهجمة الإسرائيلية على غزة، بأن 95 في المائة من يهود فرنسا يساندون الجيش الإسرائيلي، وظل يعتبر الجالية اليهودية في فرنسا جالية إسرائيلية. بل العكس هو الذي وقع، فقد ظل ساركوزي يستقبل «ريشار براسكيي» بالأحضان في كل مناسبة يلتقي به خلالها. ورغم أن ساركوزي فعل كل شيء من أجل منع طبع ونشر وتوزيع كتاب «ساركوزي، إسرائيل واليهود» في فرنسا، بلد الحريات، مما اضطر كاتبه «بول إريك بلانري» إلى اللجوء إلى مطابع بلجيكا، فإن حكاية الحب العاصف التي تجمع بين الرئيس الفرنسي وجذوره الإسرائيلية لم تعد خافية على أحد. لكي نفهم الاستقبال الدافئ الذي خص به ساركوزي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، قبل أمس، يجب أن نعود إلى شجرة أنساب ساركوزي حيث جذوره اليهودية الضاربة في الأراضي الهنغارية. فساركوزي -الذي أخذ الجنسية الفرنسية بواسطة قانون «JUS SOLI» أي «حق الأرض»، لأنه ولد فوق التراب الفرنسي من أم تنحدر من عائلة يهودية طرد أجدادها من إسبانيا قبل أن تستقر في أوربا، ومن أب ينحدر من عائلة يهودية هنغارية تعرضت للنفي بعد دخول الجيش الأحمر سنة 1944 لهنغاريا- يعتبر نفسه فرنسيا أكثر من أبناء المهاجرين العرب الذين ولدوا فوق التراب الفرنسي قبله بعشرات السنين. كما أنه يعتبر نفسه إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين الذين يعيشون في تل أبيب. ومنذ وصوله إلى قصر «الإليزيه»، أصبح ممنوعا صدور كتب تنتقد الكيان العبري، كما أصبح ممنوعا، تحت طائلة الاتهام بمعاداة السامية، انتقاد إسرائيل وسياستها العنصرية في وسائل الإعلام العمومي الفرنسي. وأطلق العنان في البرامج الحوارية لكل المدافعين عن الأفكار الصهيونية: بيرنار هنري ليفي، ألان فنكيلروت، أندريه غلوكسمان، وكل الآخرين. فيما فتحت نار جهنم على الساخر «ديودوني» والمفكر طارق رمضان، وجرجرت أمام القضاء الكاتب «إدغار موران» بتهمة معاداة السامية بسبب مقال في «لوموند» تحت عنوان «إسرائيل، فلسطين: السرطان»، مثلما ستتم جرجرة «دانييل مارمي» بنفس التهمة: معاداة السامية. مع أن الأكاديمية الفرنسية، التي تحرص بصرامه علمية على معاني الكلمات، تعرف مصطلح «السامية» بكونه مصطلحا يشمل اليهود والمسلمين، أي الشعبين اللذين ينحدران من صلب سام ابن نوح. لكن الآلة الإعلامية الصهيونية اختطفت هذا الأصل العرقي وحولته إلى أصل تجاري خاص باليهود. أما المسلمون فيمكن، في فرنسا كما في غيرها من الدول الأوربية، أن تكون معاديا لهم دون أن يتهمك أحد بمعاداة السامية. إعجاب ساركوزي بالنموذج الإسرائيلي لم يتوقف فقط عند مديحه للديمقراطية الوحيدة الموجودة في الشرق الأوسط، بل إنه ذهب، عندما كان وزيرا للداخلية، إلى حد دعوة رجال شرطة إسرائيليين إلى فرنسا واستضافتهم هناك لكي يشرحوا لزملائهم الفرنسيين أنسب طريقة للقضاء على القلاقل في الضواحي الباريسية. فساركوزي في قرارة نفسه يخلط بين الضواحي الباريسية والضاحية الفلسطينيةالمحتلة. ولذلك، راهن كثيرا على تخويف الفرنسيين من الخطر الذي يعيش بين ظهرانيهم في الضواحي، والمشكل أساسا من أبناء الجاليات العربية والإسلامية. فكان أول شيء قام به عندما تسلم حقيبة الداخلية هو مطالبة أجهزته السرية بإنجاز تقرير مفصل حول الجرائم التي يتورط فيها أبناء الضواحي من أجل تبرير حملته ضدهم. وعندما جاءت نتائج التقرير عادية وكشفت أن عدد الجرائم التي يتورط فيها أبناء الضواحي لا تختلف كثيرا عن عدد الجرائم التي يتورط فيها الفرنسيون العاديون، تم إقبار التقرير إلى الأبد. وهاهو اليوم يطلق حوارا حول ما أسماه «الهوية الوطنية» بحثا عن أصوات اليمين المتطرف في الانتخابات الجهوية، والتي أضاعها بسبب انفجار فضيحة وزيره الشاذ «فريديريك ميتران» الذي اعترف بممارسته الجنس في مواخير بانكوك، وبسبب دفاعه المستميت عن المخرج البولوني «بولانسكي» الذي تطارده العدالة الأمريكية منذ 34 سنة بسبب اغتصابه لقاصر. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل ساركوزي، الذي نال الجنسية الفرنسية قبل 54 سنة بفضل ولادته فوق التراب الفرنسي، يعتبر نفسه أكثر فرنسية من أبناء الأجيال الثاني والثالث والرابع من الجاليات العربية والإسلامية الذين ولدوا قبله فوق التراب الفرنسي. هل الهنغاريون الذين ينحدر من نسلهم ساركوزي هم من دافع عن فرنسا خلال حروبها أم المغاربيون والأفارقة الذين يخطط اليوم لطردهم، والذين عندما كانوا يحاربون ضد النازية والفاشية إلى جانب فرنسا كان اليهود يخططون للسطو على فلسطين وتصفية سكانها بالمجازر المنظمة. لذلك، فالسؤال الذي يجب أن يجيب عنه ساركوزي اليوم هو «من يكون ساركوزي؟» قبل أن يطرح سؤال: «من يكون الفرنسي؟».