في ظل الوباء الخبيث الذي يجتاح العالم، وفي ظل ما يمكن أن يترتب عنه من اضطرابات نفسية، تأتي ضرورة مقاربة تداعيات هذا الوباء وتأثيراته السلبية على السلامة والصحة النفسية للأفراد والجماعات، ومن أبرز هذه التداعيات والآثار السلبية نجد الارتفاع المهول في منسوب القلق النفسي. الأمر الذي يستلزم منا مقاربة هذا الأخير وفقا لنظرة شمولية ومن منظور متكامل، يأخذ بعين الاعتبار المعايير العلمية والدقيقة الصادرة عن مختلف النظريات العلمية المؤطرة لهذا المفهوم " القلق l'anxiété " والدلائل التشخيصية والتصنيفية التي قدمت وصفا إكلينيكيا ودقيقا له، والتي تشترط حضور العَرض المميز والمدة الزمنية، كمعيارين أساسيين لوجود قلق باثولوجي (مرضي) يستوفي أعراض معينة ومدة زمنية محددة. وبناء عليه إلى أي حد يمكن اعتبار ما يعيشه الأفراد اليوم من ردود أفعال نتيجة لهذا الوباء، ردود أفعال مرضية ؟ ألا يمكن أن تكون ردود أفعال عادية وواقعية؟ وهل يمكن اعتبار القلق النفسي المترتب عن تفشي واستفحال الوباء قلقا مرضيا وسلبيا ؟ أم أنه قلق صحي وإيجابي ؟ وما هي الحدود الفاصلة بين القلق المرضي والقلق الصحي؟ وكيف يمكن التمييز بينهما ؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يستلزم منا أولا أن نفرق بين القلق كحالة والقلق كسمة، وذلك من خلال الاستناد على الوصف التشخيصي للقلق، والذي صاغت الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) تعريفا يعتبر من أكثر التعاريف استخداما، ووصفته بأنه " خوف أو توتر أو ضيق ينبع من توقع خطر ما، ويكون مصدره مجهولا إلى درجة كبيرة، كما يعد مصدره كذلك غير واضح، ويُصاحب بعدة تغيرات فيزيولوجية (خفقان القلب أو تسارع في ضرباته ،الشعور بألم في الصدر، ضيق وتسارع في التنفس ، الشعور بانسداد في مجرى الهواء، جفاف الفم ، ألم في المعدة ، الغثيان ، الإسهال ، ألم في العضلات "خصوصا في العنق والأكتاف والظهر" وصعوبات في النوم...)، ومعرفية (ضعف التركيز، تسارع في الأفكار أو اختفاء الأفكار من الذهن فجأة، صعوبات في التذكر وصعوبات في اتخاذ القرار...)، ثم سلوكية (تجنب الناس أو تجنب مواقف معينة، ثم بعض السلوكات القهرية...)، وعليه فالقلق كحالة ؛ يمكن اعتباره انفعالا ذاتيا مؤقتا أقرب ما يكون إلى حالة الخوف الطبيعي، يشعر بها كل الناس في مواقف التهديد، مما يؤدي إلى تنشيط جهازهم العصبي المستقل ويحفزهم على مواجهة مصدر التهديد، وتختلف شدته تبعا لما يشعر به كل فرد من درجة خطورة الموقف الذي يواجهه، ويندثر باندثار مصدر الخطورة والتهديد. أما القلق كسمة فهو استعداد سلوكي مكتسب في معظمه وثابت نسبيا في استهداف موضوع القلق، وما يميز القلق على الخوف هو كون الأول يتوجس من مشكلة مؤقتة، والثاني هو رد فعل تجاه خطر آني "راهني"، وبالتالي يرتكز القلق على مبدأ "التوقع" في مقابل الخوف الذي يرتكز على مبدأ "الراهن"، ومن وثم يمكن افتراض أن غالبية المصابين بفيروس كورونا يعانون في الراهن من تخوف ويعانون كذلك من القلق نتيجة لضبابية وعدم وضوح مدى فعالية التدخل العلاجي للتخلص والشفاء من الفيروس، بينما الأفراد الآخرين غير المصابين يمرون بقلق عادي، وذلك من خلال تركيز تفكيرهم على احتمال إصابتهم بالفيروس وعلى عدد الأرواح التي قد تهلك والمدة الزمنية التي قد يستغرقها حتى يتم القضاء عليه، وهذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: هل يعتبر القلق الذي يميز الأفراد غير المصابين هو رد فعل عادي؟ وإلى أي حد قد يساهم هذا القلق في نجاح المسار الوقائي من هذا الوباء؟ إن الاستناد على مختلف المقاربات التأطيرية للقلق ؛ تدفعنا للقول أنه لا يمكن اعتباره دائما رد فعل سلبي، خاصة عندما يكون معتدلا ومبررا كما هو الشأن اليوم في القلق الناتج عن وباء COVID-19 المستجد، لكونه قد يساعد في تحقيق التوافق السليم ويساهم في الانتباه إلى المخاطر المستقبلية والتخطيط لها، من خلال تجنيد القدرة على الاستعداد والمساعدة على تفادي المواقف الخطرة المحتملة، وهذا ما يدفعنا إلى القول أن هذا القلق هو قلق موضوعي وواقعي، فبحسب التوجه الوجودي يعتبر القلق خاصية إنسانية أساسية، وأنه ليس بالضرورة باثولوجية ومرضية، لأنه يمكن أن يكون قوة دافعية عارمة تحفز على النمو والإزدهار، لأنه ناتج عن الوعي بالمسؤولية، وفي نفس السياق يمكن اعتباره كذلك بحسب (ليندروفيلد ،lundervold ) هو قلق موضوعي واقعي أو حقيقي، قد يلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الفرد والجماعة، وذلك لما له من وظائف دافعية وتوجيهية للسلوك، فهو يساعد الفرد على تحديد المشكلات واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها، ويمده بالقدر اللازم من التحفيز لتحرير الطاقة النفسية اللازمة وتكريسها وتركيزها لمواجهة المشكلات وتجنب المخاطر. فبدون هذا القلق أي القلق الموضوعي والواقعي لا يمكن أن تتوفر لدى الفرد الدافعية اللازمة لمحاربة انتشار وباء كورونا المستجد والوقاية منه، وكذلك لن يتسن لكل من الأطباء والمختصين في محاربة هذا الوباء، وكل المكونات المساهمة في ذلك، العمل لساعات طويلة من أجل تحقيق طموحها المركزي والأساسي والمتمثل في التصدي لانتشار هذا الوباء والقضاء عليه. وبالتالي وبناء على ما سبق وأمام استفحال أزمة اليوم؛ يمكن القول أننا بحاجة ملحة لقلق موضوعي وواقعي ومعتدل، بأبعاد خفيفة تقصي كل الطقوس القهرية والتمثلات اللامنطقية، وهو ما يمكن أن يساهم في إنجاح المهام الوقائية والعلاجية والتدخلية والعملية... لمحاربة هذا الوباء وتجاوز تداعياته. لكن ومن وجهة نظر أخرى، هل يمكن أن يتحول هذا القلق الموضوعي الواقعي إلى قلق مرضي ؟ وإن كان الأمر كذلك فكيف يمكن التصدي له ؟ إن زيادة درجة الوعي بظاهرة معينة بحسب ( ساب ، Sapp ( قد يؤدي إلى قلق مرضي (باثولوجي) وهو ما اعتبره اضطرابا قد يستمر بصورة وبصيغة مرضية معيقة، تعبر بشكل واضح عن معاناة نفسية يشعر الفرد من خلالها بفقدان السيطرة بالرغم من كل أشكال التدابير الوقائية، خاصة عندما تكون الصلة وثيقة بالاستناد على المعطيات المزيفة وغير الدقيقة، والتي يكون مصدرها غالبا بعيدا كل البعد عن ما يقوله أهل الاختصاص، وهذا ما يؤدي إلى الشعور بقلق مفرط والشعور بتهديد متوقع والشك غير المبرر، ثم العجز وترقب شر مجهول وكذلك استجابة مسرفة لمواقف لا تتضمن خطرا حقيقيا، وقد يُصاحب ذلك عادة أعراض جسمية ونفسية تتعلق بالهلع والشعور بالضيق، وغير بعيد عن هذا الطرح وفي نفس السياق، يرى أصحاب الاتجاه المعرفي أن الحوادث والمشكلات ليست هي التي تسبب القلق أو الإجهاد، ولكن تفسير الفرد لهذه الحوادث هو الذي يقود إلى تلك المشكلات، إذ يقر أصحاب النظريات المعرفية أن القلق يستمر عبر تقدير خاطئ أو في غير محله قد يؤدي إلى إدراك الخطر، بالإضافة إلى التحليل غير المعقول والأنماط الخاطئة في التفكير؛ إذ يرى (أرون بيك ،Aaron beck ) أن القلق المرضي ينشأ عن الإفراط في تقدير الخطر عبر واحد أو أكثر من الأبعاد التالية : التقدير المفرط للتغيرات الناتجة عن حادث ينطوي على الخوف. التقدير المفرط لحدث يتسم بالشدة والعنف وينطوي على الخوف . التقليل من قدرة الفرد على التغلب على الخطر ومواجهته. التقليل من قدرة الأفراد الآخرين على تقديم المساعدة. وفي نفس السياق يقر (أرون بيك ،Aaron beck ) أن الأفكار المثيرة للقلق تأتي عبر واحد أو أكثر من الأنواع الأربعة العامة من التفكير الخاطئ وهي كالتالي : التفكير المأساوي: حيث تكون الكارثة هي المحصلة التي يمكن التنبؤ بها عندما يتوقع الشخص القلق والخطر أو مواجهة المشكلات. التفكير المبالغ فيه (التضخيم): إذ يرى الفرد في هذا النوع من التفكير أن أي أخطاء بسيطة أو نواقص تصبح فشلا مطلقا أو أخطاء مميتة. التفكير المفرط في التعميم: في هذا النوع تترجم أي تجربة صعبة إلى قانون عام متحكم في مجمل وجدان الفرد. التفكير السلبي: فيه يتم التغاضي عن كل النجاحات والمصادر الشخصية ومواطن القوة. ولتجنب الانغماس في القلق المرضي والمفرط، وكل الانعكاسات النفسية التي قد تكون نتيجة لهذا الوباء، يجب أن يخضع الإنسان إلى الاستعمال المعقلن لمختلف مواقع التواصل الإجتماعي والتقليل منها، والإعتماد على المعلومة الدقيقة في مقابل التغاضي عن الإعلام المضلل، ثم التأكد من صحة الأخبار وتجنب الأخبار المزيفة والتموقع بصفة مستمرة في متابعة الأخبار، وتجنب كذلك تناول موضوع هذا الوباء بصيغة ساخرة وهزلية، وينصح كذلك من وجهة نظر (سولفين،(Suliven بتدعيم وتغدية الروابط الإجتماعية بالأفراد الآخرين الذين يرتبط بهم الفرد وجدانيا واجتماعيا (عبرالإستعانة بتقنيات ووسائل الاتصال الصوتية والمرئية عن بعد) هذه التغدية قد تؤدي إلى التغلب على الشعور بالقلق، وكذلك ينصح بممارسة العديد من تمارين الإسترخاء والتأمل... في الأخير تجدر الإشارة أن القلق الموضوعي الواقعي والذي يستند على ركيزة الحاضر بعناصره المؤمنة، يؤدي إلى تحقيق وتحصيل الدافعية في الإنجاز وضخ طاقة إيجابية لمواجهة جائحة اليوم، وذلك في مقابل أن الانشغال المستمر بالمستقبل بنمط تفكير سلبي وبخلفية تضليلية قد يساهم في قلق مرضي، إذ يعتبر هذا الأخير وعلى حساب قول (بيرليز ، Perls) أحد رواد الاتجاه الجشطلتي هو "الهوة والفجوة التي توجد بين "الآن" "والحينئذ" أي بين الحاضر والمستقبل المبهم، فإذا كان الشخص منغمسا في الآنية بطرق ابتكارية وعقلانية سوية، فلا يمكن أن يكون قلقا، لأن الإثارة الإيجابية ستتدفق فورا عبر أنشطته التلقائية. *باحث في علم النفس الإكلينيكي