إن بعض الحوادث تكون أحيانا منبّها قويا وصادما يجعلنا نقرأ القرآن الكريم قراءة تدبرية واعية وليس مجرد قراءة ترديدية عابرة... وفي هذا السياق ونحن نتأمل ما أحدثه فينا –وفي الإنسانية جمعاء- فيروس كورونا الخبيث، نقف عند بعض الآيات الكريمات ليس من باب إثبات صدقيتها وإعجازها، فهي بطبيعة الحال صادقة ومعجزة في ذاتها ولا تحتاج إلى إثبات، ولكن من باب ربط المعنى القرآني بالسياق الزماني الذي نعيشه، ل{يزداد الذين آمنوا إيمانا}، وليستيقن الذين في قلوبهم مرض أو ليقتنع الذين في عقولهم ريب أو شكوك. فمن أحوال الإنسان الجديرة بالتأمل في زمن كورونا والتي جاء ذكرها في آي القرآن: حال الضعف الإنساني، والمشار إليها في الآية الكريمة: {وخلق الإنسان ضعيفا}، فهذه الآية تتحدث عن صفة وجودية ومتأصلة في الإنسان –مطلق الإنسان في أي زمان وفي أي مكان وعلى أي مذهب أو دين كان- ولا يمكن أن ينفك عنها أبدا؛ وقد ظهر جليا لكافة البشر في القرن الواحد والعشرين مدى ضعف هذا الكائن الذي غزا الفضاء ويستعد للسفر بل والإقامة في كواكب أخرى غير الأرض، والذي يعتقد أنه قد هزم كل أسباب الضعف البشري !! وأنه أصبح يمتلك كل أسباب القوة التي تجعله "سيدا مطلقا للكون" كما تروّج لذلك كثير من الفلسفات المعاصرة خاصة الغربية منها وبناتها الناقلة عنها !! لكن الفيروس المجهري كشف أن هذا "الإنسان" ضعيف وضعيف جدا أمام مخلوقات الخالق سبحانه وتعالى الظاهرة والخفية، والتي لا يستطيع هذا الإنسان الضعيف ترويضها وإخضاعها وقهرها إلا بتسخير منه سبحانه... وكما ظهر الضعف على مستوى الأفراد فقد بدا جليا على مستوى الدول التي كنا ننظر إليها على أنها "قوية في كل شيء"، حيث ظهرت هشاشتها في بنيتها البشرية (الشيخوخة) وبنياتها الصحية وفي إجراءاتها الاستباقية وفي تدابيرها الاحترازية لمواجهة هذا المخلوق اللامرئي... حال الهلع والفزع البشري، والتي ورد ذكرها في قوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا}، وهذه صفة وجودية رأيناها وعشنا أجواءها مع هذا الوباء أيضا، حيث ظهر الإنسان خائفا ومضطربا وهلعا وفزعا وباكيا ووجلا... في كل بلدان العالم وبدون استثناء، سواء في تلك التي يقال عنها إنها متقدمة في كل الميادين الصحية والطبية والصناعية والحضارية عموما، أو تلك المتواضعة في ذلك أو حتى التي تعاني نقصا فظيعا في كل شيء... وسواء في تلك البلدان التي لازال فيها الإنسان مرتبطا بالسماء أو فيه بقية ارتباط بها، أو تلك التي أعلن فيها هذا الإنسان "موت الإله" منذ زمن بعيد !! حال الفرار أو البحث عن الخلاص، والتي نجد معناها في قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}، فهذه الآية وإن كانت تتعلق بالحديث عن أهوال يوم القيامة وكيف يسعى كل إنسان إلى خلاصه الفردي في ذلك اليوم العظيم ولو بالفرار من الأقارب والأحبة؛ فإن أهوال هذا الفيروس ذكّرنا ببعض من معاني ذلك اليوم الموعود، حيث رأينا كيف أصبح الإنسان يفر (يُعزل) من أخيه الإنسان المصاب ولا يقترب منه وإن كان من أقرب مقربيه وأغلى أحبته.. خوفا من أن يصاب بالعدوى الفيروسية؛ بل ورأينا كيف فرّت دول المعمور من بعضها البعض حيث أغلقت حدودها البرية والبحرية والجوية في وجه الجيران قبل الأباعد وفي وجه الأصدقاء قبل الأعداء، وأغلقتها دول كانت تسمح بحرية تنقل الأشخاص والبضائع كما هو الشأن بالنسبة لدول الاتحاد الأوربي، حيث سقطت كل أواصر التعاون والتعاضد التي كانت قائمة بين هذه الدول بسبب الفرار من كوفيد 19 وتُركت كل بلد ومواطنيها تواجه "خلاصها أو حتفها" وحيدة، لأن لكل دولة يومئذ شأن يغنيها عن غيرها.. وفي ذلك عبرة لمن أراد أن يعتبر... فاعتبروا يا أولي الألباب واعتبروا يا أولي الأبصار. حال الاعتراف بالعجز وعدم القدرة، إذ أنه مام هذه الأحوال المبثوثة في وحي رب العالمين والتي كشف عنها هذا الوباء وأكد صدقيتها، فإن الإنسان لا يملك إلا أن يدعو بقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} الواردة في آخر سورة البقرة، فهذا فيروس صغير بل ومتناهي الصغر أثبت للإنسان أنه "لا طاقة لنا به"، ولم "يستطع" العالم بأسره تَحمُّله ولا مُواجهته... ولذلك يصبح لهذا الدعاء معنى واقعيا وحقيقيا في حياة الإنسان، وأصبح الصدح به في أدعية الناس صادقا، سواء كانوا مؤمنين بذلك أو مجرد "مجربين" !!