يتميز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمة، والدقة في اختيار موضعها ، فإن قدم كلمة على أخرى فلحكمة لغوية وبلاغية تليق بالسياق العام - من ذلك مثلا قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " الإسراء 88 وقوله عز وجل : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا " الرحمن 33 لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن ، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته والإنس في هذا المجال هم المقدمون ، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان ، فإتيان ذلك من قبلهم أولى ، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في السماء للاستماع ، كما قال تعالى على لسانهم : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9 فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس
- ومن مواضع التقديم والتأخير ذات الأسرار البلاغية والحكم البيانية أيضا قوله تعالى: " يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه " المعارج 11 14 فنلاحظ تقديم البنين ثم الصاحبة ثم الأخ ثم العشيرة ولكن نجد آية في سورة عبس تقول : " فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس 33 37 فبدأ بالأخ ثم الأم ثم الأب ثم الصاحبة وأخيرا الولد ، فالمقام هنا مقام فرار ، والإنسان عندما يفر ويريد أن يخلو لنفسه فإنه يفر من الأباعد أولا ، ثم ينتهي بأقرب الناس إليه ، فيكونون آخر من يفر منهم ، وواضح أن الابن ألصق الناس ، ثم الزوجة ، ثم الأم والأب ، وأخيرا الأخ فرتبهم ترتيبا تصاعديا بحسب عمق المنزلة وشدة القرب وقدم الأم على الأب لأن الأم أكثر حاجة إلى المساعدة ، فالفرار منها أولى ، أما الأب فمظنة النصر والتأييد فهو أقرب من الأم لذلك أخّر
أما سورة المعارج فإنها تصف مشهدا من مشاهد العذاب يوم القيامة ، حين يرى الإنسان مصيره وما أعد له ، عندها يتمنى أن لو استطاع أن يجعل أحدا مكانه حتى لو كان أقرب الناس إليه وألصقهم به ، لذلك عكس الترتيب فقدم الابن ثم الزوجة ثم الأخ ثم العشيرة وأهل الأرض كافة كيف لا وهو ( مجرم ) بوصف الآية ، فلا يعنيه أن ينال آخرون من الأبرياء العذاب دونه حتى لو كانوا أبناءه ، فهو في حالة هلع وجزع تدفعه أن يضحي بغيره في سبيل نجاته مهما كان قربهم منه قال تعالى بعد هذه الآيات : " إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا " المعارج 19 20 ولا شك أن هذا يوحي بشدة العذاب وعظمة الهول وسوء العاقبة مما يدفعه إلى التفكير بنفسه فقط هذا وقد سبق في السورة قوله : " ولا يسأل حميم حميما " المعارج 10 والحميم هو القريب ، فبدأ بأقرب القرابة وهو الأبناء وانتهى بالأباعد على عكس ما ورد في سورة عبس
- موضع آخر للتقديم والتأخير في آية واحدة من سورة الجمعة ، وهي قوله تعالى : "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين " ففي البدء قدم التجارة على اللهو ، لأن التجارة هي السبب الحقيقي في انفضاضهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالآية نزلت في واقعة حدثت عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الجمعة ، فقدمت عير للتجارة إلى المدينة ، فانصرف الناس إليها ، وتركوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا وكان من عاداتهم أن يتقدم الدف والطبل تلك العير فهو من اللهو ، ولكنه ليس مقصودا لذاته ، بل هو تبع للتجارة التي هي مقصدهم الأصلي
ولعل هذا هو السبب أيضا في إفراد الضمير وعودته على التجارة في قوله " انفضوا إليها " ولم يقل إليهما ، وأعيد الضمير على التجارة أيضا للتأكيد على ذم الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان لتجارة وهي ذات منفعة لهم لا سيما وأنهم كانوا في فترة جوع وغلاء سعر ، فكيف بغيرها من توافه الأمور ، فأنت إن خصصت النافع بذم أو نهي ، فما دونه أولى في الترك ، وأدخل في الذم أما في الجزء الثاني من الآية فقد قدم اللهو ، لأنه يتحدث عن أمر عام بأن ما عند الله خير ، فناسب تقديم اللهو لأنه أعم ، فاللهو يفعله أكثر الناس حتى الفقراء منهم / ، أما التجارة فهي لبعض الناس ولأن المعتاد أن نبدأ بالأدنى عند المفاضلة واللهو أدنى من التجارة ، ففي الأخيرة شيء من كسب ونفع لا يوجدان في اللهو ، ثم إن المقام مقام ذم ، ولا شك أن اللهو أظهر في المذمة وناسب تأخير التجارة لتكون ألصق بخاتمة الآية " والله خير الرازقين " فهي مصدر الرزق
لطيفة تفسيرية :
قد يخطر على الذهن سؤال : لم أعاد حرف الجر ( من ) في قوله : " خير من اللهو ومن التجارة " ؟ والجواب أن الإعادة للتأكيد على أن الذم واقع على كل واحد منهما منفردا ، إضافة إلى اشتراكهما ، فلا يظنن ظان أن ما عند الله خير منهما في حالة واحدة هي اجتماعهما ، أما لو انفرد أحدهما كالتجارة مثلا فقد يختلف الحكم . فالواو كما نعلم تفيد الجمع والاشتراك ، فقد يفهم منها ذلك ، أما مع إعادة الجار فالأمر واضح بشمول الذم لاجتماعهما ، ولكل منهما منفردا ، وبخيرية ما عند الله وأفضليته على اللهو منفردا وعلى التجارة منفردة وعليهما مجتمعين .
والله اعلم
يتميز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمة، والدقة في اختيار موضعها ، فإن قدم كلمة على أخرى فلحكمة لغوية وبلاغية تليق بالسياق العام
- من ذلك مثلا قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " الإسراء 88 وقوله عز وجل : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا " الرحمن 33 لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن ، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته والإنس في هذا المجال هم المقدمون ، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان ، فإتيان ذلك من قبلهم أولى ، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في السماء للاستماع ، كما قال تعالى على لسانهم : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9 فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس
- ومن مواضع التقديم والتأخير ذات الأسرار البلاغية والحكم البيانية أيضا قوله تعالى: " يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه " المعارج 11 14 فنلاحظ تقديم البنين ثم الصاحبة ثم الأخ ثم العشيرة ولكن نجد آية في سورة عبس تقول : " فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس 33 37 فبدأ بالأخ ثم الأم ثم الأب ثم الصاحبة وأخيرا الولد ، فالمقام هنا مقام فرار ، والإنسان عندما يفر ويريد أن يخلو لنفسه فإنه يفر من الأباعد أولا ، ثم ينتهي بأقرب الناس إليه ، فيكونون آخر من يفر منهم ، وواضح أن الابن ألصق الناس ، ثم الزوجة ، ثم الأم والأب ، وأخيرا الأخ فرتبهم ترتيبا تصاعديا بحسب عمق المنزلة وشدة القرب وقدم الأم على الأب لأن الأم أكثر حاجة إلى المساعدة ، فالفرار منها أولى ، أما الأب فمظنة النصر والتأييد فهو أقرب من الأم لذلك أخّر
أما سورة المعارج فإنها تصف مشهدا من مشاهد العذاب يوم القيامة ، حين يرى الإنسان مصيره وما أعد له ، عندها يتمنى أن لو استطاع أن يجعل أحدا مكانه حتى لو كان أقرب الناس إليه وألصقهم به ، لذلك عكس الترتيب فقدم الابن ثم الزوجة ثم الأخ ثم العشيرة وأهل الأرض كافة كيف لا وهو ( مجرم ) بوصف الآية ، فلا يعنيه أن ينال آخرون من الأبرياء العذاب دونه حتى لو كانوا أبناءه ، فهو في حالة هلع وجزع تدفعه أن يضحي بغيره في سبيل نجاته مهما كان قربهم منه قال تعالى بعد هذه الآيات : " إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا " المعارج 19 20 ولا شك أن هذا يوحي بشدة العذاب وعظمة الهول وسوء العاقبة مما يدفعه إلى التفكير بنفسه فقط هذا وقد سبق في السورة قوله : " ولا يسأل حميم حميما " المعارج 10 والحميم هو القريب ، فبدأ بأقرب القرابة وهو الأبناء وانتهى بالأباعد على عكس ما ورد في سورة عبس
- موضع آخر للتقديم والتأخير في آية واحدة من سورة الجمعة ، وهي قوله تعالى : "وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين " ففي البدء قدم التجارة على اللهو ، لأن التجارة هي السبب الحقيقي في انفضاضهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فالآية نزلت في واقعة حدثت عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب الجمعة ، فقدمت عير للتجارة إلى المدينة ، فانصرف الناس إليها ، وتركوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا وكان من عاداتهم أن يتقدم الدف والطبل تلك العير فهو من اللهو ، ولكنه ليس مقصودا لذاته ، بل هو تبع للتجارة التي هي مقصدهم الأصلي
ولعل هذا هو السبب أيضا في إفراد الضمير وعودته على التجارة في قوله " انفضوا إليها " ولم يقل إليهما ، وأعيد الضمير على التجارة أيضا للتأكيد على ذم الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لو كان لتجارة وهي ذات منفعة لهم لا سيما وأنهم كانوا في فترة جوع وغلاء سعر ، فكيف بغيرها من توافه الأمور ، فأنت إن خصصت النافع بذم أو نهي ، فما دونه أولى في الترك ، وأدخل في الذم أما في الجزء الثاني من الآية فقد قدم اللهو ، لأنه يتحدث عن أمر عام بأن ما عند الله خير ، فناسب تقديم اللهو لأنه أعم ، فاللهو يفعله أكثر الناس حتى الفقراء منهم / ، أما التجارة فهي لبعض الناس ولأن المعتاد أن نبدأ بالأدنى عند المفاضلة واللهو أدنى من التجارة ، ففي الأخيرة شيء من كسب ونفع لا يوجدان في اللهو ، ثم إن المقام مقام ذم ، ولا شك أن اللهو أظهر في المذمة وناسب تأخير التجارة لتكون ألصق بخاتمة الآية " والله خير الرازقين " فهي مصدر الرزق
لطيفة تفسيرية :
قد يخطر على الذهن سؤال : لم أعاد حرف الجر ( من ) في قوله : " خير من اللهو ومن التجارة " ؟ والجواب أن الإعادة للتأكيد على أن الذم واقع على كل واحد منهما منفردا ، إضافة إلى اشتراكهما ، فلا يظنن ظان أن ما عند الله خير منهما في حالة واحدة هي اجتماعهما ، أما لو انفرد أحدهما كالتجارة مثلا فقد يختلف الحكم . فالواو كما نعلم تفيد الجمع والاشتراك ، فقد يفهم منها ذلك ، أما مع إعادة الجار فالأمر واضح بشمول الذم لاجتماعهما ، ولكل منهما منفردا ، وبخيرية ما عند الله وأفضليته على اللهو منفردا وعلى التجارة منفردة وعليهما مجتمعين .