لقد شكلت الفلسفة عبر تاريخها علاقة متوترة بين السياسي والمبدئي، بين المناورات والثبات، وتحملت مسؤوليتها متجاهلة الآني والمباشر، لأنها كانت تضع الإنسانية كأفق لها. لقد حاول أفلاطون أن ينصِّب الفلاسفة مكان السياسيين، إلا أن السياسة أبعدتهم عن فضائها، لأنهم عاجزون عن متابعة السياسة في كل التواءاتها، والتي تسعى إلى إقبار فضائلها ومواضيعها المفضلة، لذلك استكان الفلاسفة إلى تأملاتهم العقلانية، التي أسفرت عن نظريات في الدولة، وفي تثبيت أسس المجتمع الفاضل، رغم جحود هذا الفضل للفلاسفة، واتهام الفيلسوف بالثرثرة. عبر هذا التاريخ الطويل -تختفي- الفلسفة ثم لا تلبث أن تنقشع غمتها لتتابع طريقها التنويري. بقدر ما تكون دولة مُمعنة في التصدي لأي نقيض لها، إلا وتترتب عن ذلك آثار سلبية على الفلسفة، لتصبح هذه الأخيرة مؤشرا على غياب العقل أو حضوره، وميزانا معبرا عن ازدهار دولة أو تخلفها، ولنا في تاريخنا الإسلامي، شواهد عديدة على محاصرة العقل، ولجمه، وترسيخ قصوره عن إدراك الحقائق المطلقة –الغزالي وكتاب التهافت، وفتواه المحرمة لممارسة الفلسفة وتكفير الفلاسفة-.. بعد هذا المسار الطويل، والمؤلم للفلسفة، نجد أنفسنا الآن أمام محاولة يائسة وبائسة من أجل استعادة دورها، بعد أن اقتنع خصومها عن صدق أو تزلف، بضرورة ما تنشره داخل أفراد المجتمع من عقلانية وتنوير وتجفيف لمنابع الظلام. ورغم تفاؤلنا بنبل هذه المقاصد، وقد أمضيت العمر تنظيرا وممارسة في الاشتغال الفلسفي، لأستخلص درسا صادما مضمونه رغبة خصوم الفلسفة في تطويقها وكبح جماحها، لكن هذه المرة من طرف سدنتها الجدد، أعداؤها من الداخل، وهم خليط من أدعياء بيداغوجيين ومؤطرين تربويين وسماسرة ديداكتيكيين، وكل من يندرج في زمرة "بولسة الفلسفة"، الذين يتسللون لنسفها، تحت شعارات التكوين المستمر والأيام التكوينية لفائدة مدرسي الفلسفة، ويقومون بقتلها وتقطيعها إربا بتقنيات تجزيئية، ناهيك عن انفضاح النوايا المبيتة والمقاصد المبطنة والمفضوحة بسوء تحضير هذه التكوينات والندوات وارتجاليتها، وعدم مد السادة الأساتذة بمواضيع ومطبوعات التيمات المعدة سلفا للنقاش، بمبررات واهية، وذرائع غير مقنعة مثل عدم توفر ميزانية مخصصة لطبع الأوراق، وبمجرد إنهاء الخطب العصماء لسدنة الديداكتيك تظهر أوراق مطبوعة زاخرة بالأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة، توزع على المدرسين كهدايا مسمومة/ مما يتناقض وروح الفلسفة، التي ترفض الجاهز والمسبق. والهدف هو استدعاء أساتذة الفلسفة، لتأثيث المشهد الديداكتيكي، وسلوكا كهذا لا يمكن إلا وصفه بالمكر والخداع والتخفي وراء أوهام دونكيشوتية تكشف هيمنة الهاجس الأمني في ذهنية المؤطرين التربويين الذي يسمون "مفتشي الفلسفة" وهي تسمية تحمل من العار والخجل الكثير، وتذكرنا بمحاكم التفتيش التي قامت ضد الحرية، والحرية هي رئة الفلسفة، والخلفية المركزية هي الترهيب، عبر تضخيم أهمية الوثائق كدفتر النصوص والجذاذات، وهذا هراء لا ينم عن أي عقل فلسفي، ويتم إلغاء أهمية المتعلم الذي يجب أن يتربع عرش ومدار الدرس الفلسفي، لصالح وثائق ميتة. أعداء الفلسفة من الداخل يريدون إنعاش الفلسفة بقتلها، من خلال محاصرتها وإعادتها إلى رشدها بمنعها عن التطفل والتدخل فيما لا يعنيها، غير أن ما لا يعنيها هو موضوعها بالذات، وهنا يكمن تطفلها! من خلال إلقاء نظرة عن هذه التكوينات، فإن ما سيثير انتباه المهتم هو زخم التوجيهات الأمنية التي لا تكاد تخلو أية "وصاية" منها، وكأن أزمة تدريس الفلسفة تختزل مشكلاتها في غياب توجيهات ووصايا، ينبغي ضبط مضمونها ومحتواها في ورقة تقنية، تسمى "الجذاذة". هذه الأخيرة مقدسة لدى سدنة الديداكتيك، والفلسفة يا سادة ترفض التقديس. هذا الخطاب التقنوي هو الذي حول العقل الخصب إلى عقل عقيم ومحنط ودوغمائي، عقل أصبح يشتغل داخل الفلسفة ضد الفلسفة. سيما وأن بعض منظري وخبراء وعلماء "الجذاذة" يفصلونها على مقاس عقولهم المبدعة، وتبدأ التعليمات: جذاذة للمفاهيم، جذاذة المضمون، جذاذة، الحجاج، جذاذة الجذاذة.. وهكذا ينحل لغز أزمة تدريس الفلسفة، بهذه العصا السحرية، ويستعيد درس الفلسفة زخمه وحيويته المفقودتين وتنقشع الغمة، ويصبح التلاميذ بالفعل يتقطرون فلسفة.. وهم في قمة اليقظة.. يؤمنون بقيم التسامح، ونبذ العنف، واحترام الاختلاف! لا يعرف هؤلاء السدنة أن الجذاذة ليست إلا تقنية واحدة ضمن تقنيات متعددة، بل إنها مجرد وسيلة من بين عدة وسائل أخرى، وأن الفلسفة بطبيعتها هي انفتاح على حقول معرفية متعددة، أكبر من أن تختزل داخل سياج يحول الدرس الفلسفي إلى شظايا لا رابط بينها باسم ديداكتيك الفلسفة. ديداكتيك الفلسفة تدّعي تقديم درس فلسفي "خالص" بالاستنجاد بتقنية الجذاذة، ولكن هل يمكن الحديث عن فلسفة خالصة؟ وأين توجد؟؟ إن الفلسفة تنتعش بما ليست هي، وتاريخها يقدم لنا دليلا على ما ندعيه، فهي تتدخل بشغب طفولي في كل المعارف وكل الحقول والتخصصات، منفتحة على كل معرفة وفكر، لتمارس عليهما فعلها التأملي النقدي، فبدون نيوتن مثلا لا يوجد كانط. لم تعرف الفلسفة طوال زمانها حدودا دقيقة بينها وبين ما ليس فلسفة، من هنا لا وجود لفلسفة "خالصة" اللهم إذا كانت توجد في عقول سدنة ديداكتيك الفلسفة. وما عليهم إلا ان يقوموا بتنويرنا ويدلونا على مكانها لعلنا نعيد النظر في أقوالنا وأفكارنا، ويبدو لي أن زعما كهذا هو مجرد وهم مضلل. كل ما سبق يدعونا أيضا إلى التساؤل حول هذه الديداكتيك، التي أصبحت عرشا يتربع نصائح الممارسة الفلسفية الصفية. إن الفلسفة عندما تتخذ من ذاتها موضوعا للتأمل، فإن هذا التأمل ذاته فلسفة، -إلا أن ديداكتيك الفلسفة له موضوعه الخاص به والذي ليس فلسفة- ولكنه تعليم الفلسفة. لقد تأمل الفلاسفة في أنظمتهم الفكرية وفي سبل نشرها، إلا أن هذا لا ينبغي أن يخلط مع تعليم الفلسفة، هذا الأخير - ديداكتيك الفلسفة- له ما يفكر فيه: نشاط التلاميذ والعلاقة بين نشاط الأستاذ ونشاط المتعلمين وغيرها من التدبير التعلمية.. إن ديداكتيك الفلسفة يفترض التساؤل حول كيفية تحفيز التلاميذ على البحث حول مسألة ما، وضعية ما، حتى يتمكنوا من صياغة المشكل، وليس عبر شحنهم بشظايا أفكار ميتة، من خلال تقنية كسدت وبارت، العجوز "الجذاذة"! هذا يعني أن على الأستاذ أن يلوذ مؤقتا بالصمت، ليتابع ما يقوم به التلاميذ، وهذا سر نجاح الدرس الفلسفي في الدول المتقدمة، حيث أصبحت ورشات الفلسفة تقدم لأطفال الحضانة، بغية تربية المواطن منذ نعومة أظافره على العقل والعقلانية.. إن ما نخلص إليه بصدد هذه الورقة البحثية حول ديداكتيك الفلسفة، بأنها ليس تعليما للفلسفة، بل تعليما لأوهامها، ولأصنامها الجامدة، ولنستيعد أقوال نيتشه المطالبة بتكسير الأصنام، تحريرا للفلسفة. أختم بقولة المفكر Cousinet أثناء فحصه في إحدى مقالاته لما يسميه "الوهم البيداغوجي" حيث يقول: "كلما تعلمنا أقل، فإننا نتعلم أكثر، لأن أي تعلم يعني أن نتلقى معلومات، وأن نتعلم يعني البحث عنها". فأين نحن من كل هذا؟! وما موقعنا داخل هذه العلاقة؟ وهل أصنامنا هذه كفيلة بإنقاذ مريدي الفلسفة من جهلهم؟ -قديما تبرأ سقراط من معرفة السوفسطائيين- يقول: "أنا لا أمتلك معرفتكم، ولا أمتلك الجهل الثاوي في معرفتكم" يقصد معرفة السوفسطائيين، ولعل هذا ما يفعله سوفسطائيونا المعاصرون. لقد تخوف الفيلسوف ابن رشد من أفول الفلسفة في العالم الإسلامي، لكنه تسلح بالأمل، وما يعيشه مجتمعنا المغربي اليوم من أزمات كثيرة، سيما فلذات أكبادنا، من ظواهر الانتحار، العنف، اللاتسامح.. كلها تجعل الحاجة إلى فلسفة حقيقية ماسّة جدا، وليس الحل في إفراغ الفلسفة من وظائفها بدعوى إنعاشها.