ليست المرة الأولى التي يحتدم فيها الجدل ويتم التراشق بالاتهامات التي تصل حد التخوين ما بين المؤيدين والمعارضين للقاءات التي تتم بين مسؤولين فلسطينيين وجهات إسرائيلية رسمية وغير رسمية، وآخرها ما جرى بعد لقاء في تل أبيب حمل شعار "برلمان السلام" ولقاءات أخرى تمت في رام الله بين أعضاء من لجنة التواصل الفلسطينية مع إسرائيليين. فهل من جدوى لهذا التواصل؟ وهل تجاوزت اللجنة الخطوط الحمر؟ وهل يمكن للفلسطينيين قطع التواصل مع الإسرائيليين؟ من المعلوم أن لجنة التواصل شكلتها منظمة التحرير عام 2012 ويترأسها محمد المدني، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وقد حددت مهمتها في "التواصل مع المجتمع الإسرائيلي بهدف نقل الموقف الفلسطيني له"، وسبق أن قالت: "يجب التفريق بين التطبيع مع الاحتلال وأدواته وهو أمر مرفوضٌ ومدانٌ فلسطينيا، وبين العمل على الجبهة الإسرائيلية الداخلية من خلال الحوار والتواصل والنقاش مع المجتمع الإسرائيلي وشرائحه المتعددة". وفي سياق تبرير عمل اللجنة، سبق لمحمد المدني أن قال: "إننا كفلسطينيين لن نخسر شيئا إذا تحدّثنا مع الإسرائيليين، لكنّنا لن نكسب شيئًا إنْ لم نفعل ذلك". وبالنسبة إلى اللقاءات الأخيرة، قالت اللجنة في بيان صدر على موقع وفا: "إن منظمة التحرير الفلسطينية ببرنامجها الوطني هي المظلة الشرعية للجنة التواصل مع المجتمع الاسرائيلي... وكل نشاط تقوم به اللجنة يندرج ضمن هذا الدور ومهمته نقل الموقف الفلسطيني الرسمي والرؤية الفلسطينية الشاملة إلى الجانب الإسرائيلي بكل مكوناته، وليس تماهياً بأي شكل من الأشكال مع الاحتلال أو تطبيعاً معه". كان مناط الانتقاد الذي وصل إلى درجة التخوين لأعضاء لجنة التواصل الذين شاركوا في هذه اللقاءات، أن هكذا لقاءات: 1. تنقل صورة مضلِلة عن المجتمع الإسرائيلي وتُظهر للعالم كأن هناك إسرائيليين يريدون السلام ويمكن المراهنة عليهم لاستمرار عملية التسوية السياسية وتحقيق السلام، بينما من يتم اللقاء معهم أشخاص هامشيون غير مؤثرين في المجتمع الإسرائيلي ولا على صانعي القرار في الدولة. 2. في ظل العالم المفتوح لا يحتاج الإسرائيليون للقاءات مع وفود فلسطينية حتى يطَّلِعوا على الموقف الفلسطيني، وكأن الإعلام الفلسطيني عاجز عن القيام بهذه المهمة. 3. إنها لقاءات تندرج في سياق "التطبيع" مع إسرائيل، فكيف نُدين دولاً عربية لأنها تُطبع مع إسرائيل بينما فلسطينيون يجلسون مع إسرائيليين علناً في إسرائيل أو في مناطق السلطة؟ 4. تتعارض مع الجهود التي تبذلها جماعة "BDS" لمقاطعة إسرائيل دولياً، فكيف نطلب من العالم أن يقاطع إسرائيل بينما تحدث لقاءات بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ 5. تتعارض مع قرارات وتصريحات رسمية لمسؤولين فلسطينيين تدعو إلى وقف الاتصالات مع إسرائيل وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة معها. 6. إن هذه اللقاءات الرسمية تكسر حالة العداء مع إسرائيل وتشجع فلسطينيين آخرين على التواصل مباشرة مع الإسرائيليين، سواء تعلق الأمر بالتجار ورجال الأعمال أو مَن يعمل لخدمة أجندة سياسية موازية للسلطة أو تتطلع للحلول محلها. دون تجاهل وجاهة بعض هذه المبررات التي يطرحها الرافضون لمثل هكذا لقاءات، وخصوصاً بعد الكشف عن صفقة القرن وسياسة نتنياهو العدوانية وحالة الغضب الشعبي على الاحتلال، فإن الموضوع أكثر تعقيداً، ويجب التعامل معه بحذر وبدرجة عالية من الموضوعية والعقلانية وبعيداً عن المواقف المسبقة تجاه أشخاص في لجنة التواصل غير مرضي عنهم شعبيا، أو موقف مسبق من السلطة نفسها التي تقف وراء هذه اللقاءات وكل أشكال التنسيق مع الإسرائيليين. من جهة أخرى، يجب عدم الخلط ما بين مسألة التطبيع بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية من جانب، ومسألة التواصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين داخل فلسطينالمحتلة من جانب آخر. سيكون من الإجحاف مقارنة التطبيع العربي مع إسرائيل مع التواصل والعلاقات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. الدول العربية غير مضطرة للتطبيع مع إسرائيل لأنها غير محتاجة لها وكل ما يمكن أن تحصل عليه من إسرائيل يمكن أن تحصل عليه من الدول الأخرى، بما فيها الدول الغربية والولايات المتحدة، وبالتالي فإن للتطبيع العربي هدفاً سياسياً يسيء للفلسطينيين دون أن يحقق مصلحة فعلية للشعوب العربية، ومع ذلك فالعرب يطبعون علناً وسرا مع الإسرائيليين وزمن المقاطعة قد ولى وغالبية الدول الإسلامية لها علاقات رسمية مع إسرائيل. فكرة التواصل مع الإسرائيليين ليست جديدة وهي سابقة بكثير لتشكيل لجنة التواصل عام 2012، حيث تعود إلى بداية السبعينات من القرن الماضي عندما طرح الفكرة ودافع عنها الرئيس الحالي محمود عباس الذي كان وما زال يؤمن بالسلام والتسوية السياسية وأهمية التواصل مع الإسرائيليين المعادين للصهيونية-وعلى خلفية هذه الاتصالات تم اغتيال عدد من الفلسطينيين المكلَفين بالاتصالات على يد جماعات فلسطينية معارضة-وقد تبنى المجلس الوطني الفلسطيني عام 1977 رسمياً مبدأ التواصل مع الإسرائيليين غير الصهاينة، إلا أنه مع بداية عملية التسوية السياسية في مؤتمر مدريد 1991 وتصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام نفسه على قرار يلغي قراراً سابقاً صدر عام 1975 باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية، زالت الحدود ما بين الإسرائيليين الصهاينة وغير الصهاينة وأصبحت الاتصالات مع الجميع. وكان من المنطقي أن يحدث الاتصال والتواصل ما دامت منظمة التحرير قَبِلت مبدأ التسوية السياسية ووقعت اتفاقية أوسلو، ومن يرفع شعار السلام والتسوية السياسية يجب أن يكون مستعداً للجلوس مع الطرف الآخر الذي سيصنع معه السلام، سواء في إطار حل الدولتين أو الدولة الواحدة التي يدعو إليها البعض. هامش الاختيار عند الفلسطينيين في التواصل مع الإسرائيليين أو عدمه ليس كبيرا ولا مريحا، لأن هناك تدَاخُلا بينهم وبين الإسرائيليين داخل فلسطين؛ تداخُل تفرضه الجغرافيا والاقتصاد والاتفاقات الموقعة وواقع الاحتلال، وما دام هناك التزام رسمي من منظمة التحرير باتفاقية أوسلو وباستمرار السلطة وبالعملية السياسية، سيكون من نافلة القول الحديث عن قطع العلاقة كلياً مع إسرائيل الدولة والمجتمع. هذا ناهيك عن وجود مليون وثمانمائة ألف فلسطيني داخل الخط الأخضر يحملون الجنسية الإسرائيلية ويجب التواصل معهم، وهذا لا يمكن أن يحدث دون درجة من التنسيق مع السلطات الإسرائيلية. فدعونا نفكر بعقلانية حول إمكانية قطع كل أشكال الاتصال والتواصل بين السلطة وإسرائيل، وما هي التداعيات التي ستترتب عن ذلك؟ وهل النظام السياسي الفلسطيني في وضعه الراهن والمنقسم على ذاته مهيأ للتعامل مع حالة انهيار السلطة والقطيعة التامة مع إسرائيل؟ وهل يمكن وقف التواصل مع شرائح من المجتمع الإسرائيلي بينما يستمر التنسيق الأمني والاقتصادي ويستمر التزام السلطة بالاتفاقات الموقعة؟ بعيداً عن المناكفات الحزبية السياسية وعن الرغائية الشخصية حتى وإن كانت مُحملة بأرقى المشاعر الوطنية، إن كان لا بد من قطع كل علاقة مع الإسرائيليين يجب أن يكون ذلك في إطار قرار وطني استراتيجي يشمل الجميع في الضفة وغزة والشتات، ذلك أن الانتقال من حالة سلطة الحكم الذاتي إلى حالة التحرر الوطني أو إلى تغيير وظيفة السلطة لتصبح سلطة سيادية للدولة الفلسطينية، يتطلب تهيئة الإطار أو الأطر الوطنية التي ستملأ الفراغ الذي قد ينتُج عن الغاء "سلطة أوسلو" وكل ما يرتبط بها من مؤسسات ووزارات وكل أشكال التواصل والتنسيق مع الإسرائيليين، وهذا يشمل أيضا الوضع في غزة لأن الهدنة أو التفاهمات بين فصائل المقاومة في غزة وإسرائيل هي أيضا تواصل وتنسيق أمني واقتصادي حتى وإن كان غير مباشر. بصراحة نقول، حتى في حالة وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع إسرائيل ووقف التنسيق الأمني، وهو ما لا نتوقعه قريباً، فإن هناك ضرورة لاستمرار التواصل المجتمعي مع الإسرائيليين، وخصوصاً مع القوى اليسارية والمحبة للسلام حتى وإن كان عددها محدوداً. ولأن الصراع مع إسرائيل ليس عسكرياً فقط، يجب انتهاج استراتيجية وطنية متعددة المسارات: تعزيز الوحدة الوطنية، توحيد الخطاب الإعلامي، مقاومة بكل أشكالها الممكنة، عمل سياسي ودبلوماسي، ومحاولة التأثير على المجتمع الإسرائيلي من الداخل أحد هذه المسارات، مع حُسن اختيار الشخصيات المُكلَفة بالتواصل والشخصيات الإسرائيلية التي يتم التواصل معها. وأخيرا، يبدو أن العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستبقى محكومة بمعادلة يمكن تسميتها "الصراع المفتوح والتواصل المحتوم". [email protected]