حمّل الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، العلماء والنخبة الدينية مسؤولية الوقوف في وجه خطاب التطرف والعنف، مبرزا أن العلماء "هم السد المنيع ضد هذا الخطر بالتوعية بقواطع الشريعة والتربية على قيمها المركزية، وهي السلام والمحبة والخير". وقال بن بيه، في كلمة خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر حول مواجهة التطرف والإرهاب، ينظمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، بالتعاون مع الحكومة الموريتانية، في العاصمة نواكشوط، إن خطاب التطرف والعنف يهدد الأوطان بترويجه للمفاهيم الخاطئة وقيَم الصراع والمغالبة وإذكاء الانتماءات الضيقة، داعيا العلماء إلى مواجهة هذا الخطاب. مواجهة خطاب التطرف والعنف، الذي ما فتئت رقعته تتسع، مُلحقا أضرارا جسيمة بالمسلمين وبصورة الإسلام، تقتضي شراكة بين العلماء والحكومات، كما يرى بن بيه، إضافة إلى التواصل والتفاهم بين العلماء والشباب، وهم الفئة الأكثر استهدافا من مروّجي خطاب التطرف والعنف، للوقوف في وجه المخاطر والتحديات التي تطرحها هذه المعضلة. وفيما تتزايد وتيرة تصاعد خطاب التطرف والعنف، قال بن بيه إن الرد على التطرف وتعزيز السّلم ووقف الاحتراب الذي أرهق الأوطان وأساء إلى الأديان أمور يفرضها الواقع، وينبغي على العلماء أن ينهضوا بأدائها، وأن تكون دعوتهم واحدة "لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام". وحثّ بن بيه علماء القارة الإفريقية على نشر المحبة والسلام، قائلا: "ذلك هو واجبنا الديني ومسؤوليتنا الإنسانية، فنبينا نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين، وهو الذي أمر بإفشاء السلام"، مبيّنا أن السلام ليس المقصود به اللفظ فقط، "بل السلام هو الأخلاق وأسباب المحبة". وإذا كانت القارة الإفريقية قد اكتوت، ولازالت تكتوي، بلظى الإرهاب الذي وقوده التطرف، فإن هذه القارة تملك من التجارب الإنسانية الفضلى ما يجعلها قادرة على إحلال السلام والمحبة محلَّ الإرهاب المدمر؛ ذلك أن مجتمعات إفريقيا، يقول بن بيه، "تقدم النموذج الحي على الرواية الإسلامية الأصيلة من خلال عقدها الاجتماعي القائم على مبادئ التعايش والوئام، والمؤسَّس على التسامح والسماحة". واستحضَر بن بيه في هذا السياق "جلسات الحكمة تحت ظل شجر الدّوم "الباوْباب" الإفريقي لتدبير الاختلاف بين المزارعين والرعاة، التي جسّدت بحق نموذجا حضاريا ناجحا لتحكيم العقل ومنطق المصلحة والأخوة على منطق المغالبة والقوة؛ وهي تفعيل ثقافي ملموس لمبدأ الصلح الإسلامي الذي وضع له الإسلام فقها كاملا ومتكاملا لحل النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة". وفي وقت تتهم الأطراف المعادية للإسلام هذا الدين بكونه مشتلا للفكر المتطرف، فنّد بن بيه هذه المزاعم، وقال إن الإسلام يحفل بأحكام ونصوص ثمّة حاجة إلى تفعيلها، اليوم، في ظل التحدي المصيري الذي يمثله خطاب التطرف والعنف، والذي يهدد سكينة المجتمعات وأمنها، مستعرضا عددا من الأحكام والمبادئ مثل الصلح الإسلامي، الذي وضع له الإسلام فقها كاملا ومتكاملا. ويقوم تصوّر رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، لمواجهة الفكر المتطرف، على جعل المواجهة علمية تروم تفكيك الخطاب وتقويضه، وليس الاكتفاء بالإدانة العامة فقط، مبيّنا أن تحقيق هذه الغاية يقتضي "القيام بعملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية لكشف نصوص السلم المنسيّة ومقاصده المعطّلة، من خلال استنفار النّصوص وإثارة التراث للبرهنة على الدعوى التي نقدمها، وهي أنّ الإسلام دين سلام وأن السلم بوصفه مقصدا شرعيا هو أوثق ضمانا للحقوق وحفظ الضروريات الخمس من الحرب والفتنة". وزاد المتحدث ذاته: "كما يلزم الكشف عن الإخلال المنهجي كاجتزاء النصوص والإعراض عن الكليات وتغليب الجزئيات وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، وبين منظومة الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد وإغفال السياقات والغفلة عن سنن الله عز وجل". ويرى بن بيه أن مواجهة الفكر المتطرف لا يمكن أن تثمر نتائج إيجابية إلا إذا تمت على أرض الواقع؛ وذلك بالوعي بطبيعة العصر، وتابع موضحا: "نلاحظ لدى الكثير منا قصورا في إدراك الواقع، فكثيرون لازالوا يرون العالم كما كان في عصور ماضية، في عصر الإمبراطوريات، عصر التمايز والعيش المنفصل، ويتجاهلون ما استجدّ من أسباب التمازج والعيش المتّصل". وأضاف بن بيه: "إننا بحاجة إلى بناء رؤية جديدة للعالم تقوم على حقائق الوضع القائم اليوم؛ فقد توصلت البشرية إلى مواثيق أممية وقوانين دولية تُؤطّر بها العلاقات، وابتكرت نُظما وأساليب لترتيب العيش المشترك والتعددية الدينية والعرقية، أضف إلى ذلك وجود الأسلحة الفتاكة المبيدة للبشرية. ذلك هو الواقع اليوم، الذي صار يفرض تأويلا جديدا وتنزيلا متجدّدا، فالواقع شريك أساسي في الاستنباط وفهم النصوص وتطبيقها". ودعا المتحدث العلماء إلى "العناية بموضوع تأصيل مفهوم المواطنة السعيدة انطلاقا من صحيفة المدينةالمنورة المشهورة بوصفها خيارا يرشحه الزمن وترجحه القيم للتعامل مع كلي العصر وتفعيل المشترك الإنساني، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة".