الشك، اللذة، الألم.. هناك من يظن أن أرواح الموتى سافرت إلى العالم الآخر دون رجعة. كثير من أرواح الموتى من طينة طيبة.. أرواح الموتى لا تموت.. النبضة الأولى انبثقت من تلاقي مجهولين في خط الحياة وولادة كائن جديد ألقي بلهفة الحب ولوعة العشق المقدس في أول مأوى آمن له. حضن الأم دافئ كأول لبن وأول قبلة وأول ضمة وأول اتحاد باك مرتعش معك يا روح الكون الزاهر الطاهر المشعشعة أنواره هنا وهناك.. من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد، لكن عشقي لك يا أماه صارخ حد الشهادة والاستشهاد، فلأصرخ ملء قلبي وروحي لعلك تقرأني أيها العالم. إذا كانت تلك الاشياء التي مررت بها في مسار حياتي وشكلت ملامح حياتي الماضية تبدو عصية التعبير صعبة الكتابة فهل ذاك معناه أن لا أكتب؟ كيف أستطيع أن أبقى وفيا لروحك أيها الماضي الحاضر وأحكيك أيتها الأم في قلب الواقع، في صميم ما حدث، لكن مع استدعاء الخيال الداعم للحكي؟ فالكون دون خيال بئيس وفقير حد الموت. هل كنت أكتوي من حيث لا أدري وأشتعل بنيران الكون؟ عبثا أحاول الغوص في ذكريات حياتي و استرجاعها أمام عيني كشريط سينمائي.. انها تتفجر في اللاوعي كرؤيا سريالية، كرؤيا ممنوعة، صادمة، قاهرة فتختزل آلاف الصور والاستيهامات التي حفلت بها حياة كاملة في حلم واحد. أسمع أنغاما رقيقة ولا أعرف المصدر، نايات و ترانيم الحزين العاشق المتأمل تمزق بياض الغرفة، لكن العازف مجهول، متوار عن الأنظار.. تدفعني أياد قوية إلى الأمام لكني لا أعرف من الدافع وأين الوجهة وما ثمن الرحلة في هذي البيداء الشاسعة.. تصيح أصوات مجهولة في داخلي أن قم فورا لمكتبك واحمل القلم واكتب دون أن يهمك من يقرأ، فما ستدبجه لن يضيع أبدا، لأنه ثمة دائما قارئ لكل كتاب ينفعه ذات يوم ويرشده إلى طريق جديد، ولو بعد حين.. عبثا أحاول، لكني لن أركن لليأس. قصتي يجب أن تروى وخلقت لأحكيها لك، في هذا المجرى الوجودي النابض بالأحلام قبل أن نولد. من أين أبدأ؟ ما جدوى أن أكتب لك هذه الاعترافات السائلة من معين الروح الذي لا ينضب؟ ما جدوى ذلك ولم يعد أحد في زماننا، تقريبا.. لم يعد أحد يقرأ؟ في أي غيب كنت أتيه منطلقا مع تيار متلاطم من الأرواح الهلامية، الشفافة، المنفلتة من إسار الزمكان قبل أن ألتقي بك؟ هل كنت أشتعل ولا أحترق؟ هل كنت أحيا ولا أحتضر؟ هل كنت أبحر في أعماق المحيط وليس بين يدي عنوان أو بوصلة أو خارطة طريق؟ هل كنت ثائرا، فائر الحمم، لكن دون هدف؟ نعم، إني أنبض بالحياة وإذا كان لها أن تبدأ فقد بدأت، وإذا كان لها أن تروى فأنا الراوي وأنت المستمع... يقول الراوي: كلنا معنيون بمساعدة الآخرين وارشادهم إلى تنمية ذواتهم. كلنا ننتمي الى هذا الكون الشاسع ومطالبون بدفع الآخرين إلى اكتشاف واستثمار النور الذي يتألق داخلهم. إن هذه المساعدة هي ما يخلق المعنى بالنسبة لكل شخص يريد لمروره السريع على هذا الكوكب أن يكون ذا مغزى.. بعبارة أخرى، أن يترك بصمة له في الحياة. وفي هذا السياق نستطيع أن نجزم أن التربية الراشدة هي قوة هائلة من قوى التحرير، كما أن الفشل في التربية هو القهر والظلم بعينه... ويسترسل الراوي: "ماتت أمي السعدية منذ 30 سنة، لكنها حاضرة معي.. لكن روحها تحوم فوقي وتمنحني كل يوم قدرا عظيما من البركة.. كل يوم.. لا أبالغ.. كل يوم.. هناك من يظن أن أرواح الموتى سافرت إلى عالم آخر دون رجعة. هناك من يتخيل أن من مات فقد غاب عن هذا العالم وغادره إلى الأبد، وهذا غير صحيح، لأن اجتيازنا السريع لهذي الحياة الأرضية بداية الرحلة نحو ملكوت الخلود.. خلود الروح بين يدي خالقها وبارئها من العدم.. هناك من يعتقد أيضا أن تقبل الموت بسهولة لا يكون إلا في متناول النفوس القوية المؤمنة، وأنا أريد أن أضيف رأيا في غاية الأهمية: تقبل الموت رحلة تحتاج للتأمل، لأن التقبل في أرقى معانيه كامن في قدرتنا جميعا على قيادة عواطفنا وسلوكاتنا وردود أفعالنا، ومن هذا المنطلق فإن أغلب الرسائل التي يحيل إليها موت قريب وعزيز في لحظة حاضرة لن تفهم وتفك شفراتها فكا إلا في المستقبل. هناك من يظن أن أرواح الموتى ولت إلى برزخ مجهول.. أنا أعتقد إلى درجة اليقين أن أرواح من غادرونا، خاصة إذا كانوا من نبتة طيبة.. هذه الأرواح ترفرف فوق رؤوسنا وتراقبنا في هدوء، مثل الشاهد الصامت لكل ما يقع ويصطخب في مسرح الحياة.. أمي.. لالة ديالي.. ذكراك مقدسة.. أين أنت؟ أنت هناك وهنا، في أعمق أعماق قلبي، ومنك تعلمت حب التعلم والكتابة منذ الصغر. كنت الابن الوحيد، والأخ الأصغر لثلاث بنات يكبرنني سنا. كم جميل ذاك التفرد بالذكورة في المملكة السحرية للإناث.. ها هو الوافد الجديد يفرغ في قالب التهذيب، ويتعلم التحكم في نظمه المختلفة. ها هو ذا يخطو الخطوات الأولى، ويتعلم المشي والكلام، ويشب عن الطوق، ويستعان على ذلك بالمكافأة والزجر، ولا بأس بقليل من الضرب، وتلوح هنا الطفولة كطيف خالد من أطياف السعادة، ويلوح الزمن أيضا سرمديا دون بداية نهاية، بل دون حد. هل قضى فتح الله يوم طيبا في المدرسة؟ أ لم يزعجه هناك أحد؟ هل فهم وأنجز بهدوء تمارينه المنزلية؟ هل أكمل فتح الله طعامه؟ إنه يغط في نوم عميق.. ولكن هل فتح الله مغطى جيدا؟ البرد قارس.. يجب أن نشتري له غدا المزيد من الملابس الصوفية... آه من الذكريات.. الابن الغالي..عملة من ذهب.. أخو البنات.. ها ها ها كانت أمي تقول لي دائما: أنت الابن الأصغر وأخو البنات، لكني أريدك أن تدرس وتشتغل في الوقت نفسه.. أريدك رجلا أفتخر به يقتدي به الآخرون.. تفهمني؟ أريدك رجلا يتعلم ويكسب المال من عرق جبينه.. وكان لأمي ما أرادت، حرفيا، وعملت الصيف في بيع الحلوى على عربة خشبية من صنع يديها الكريمتين، أما في باقي الفصول فكان العمل يقوم على بيع لعب الأطفال أيام السبت والأحد.. ذكريات وذكريات حلو طعمها كالشهد.. آه من السحر اللامنتهي للذكريات. أمي.. أنت هناك وهنا، في أعمق أعماق قلبي، ومنك تعلمت العمل والاجتهاد.. من أمومتك اللامشروطة وحبك الطاهر الفياض صار ذاك الغصن شجرة حبلى بالثمار.. منك تعلمت يا أملي أن الأمل يولد في كثير من الأوقات عندما يكون كل شيء تقريبا غارقا في اليأس. منك تعلمت يا أمي أن العقل والحياء هما رأس المال الأول، وأنه لا يحسن أن يتجر بهما، لأن علما لا يعمل به، وعقلا لا ينتفع به، وحياة لا تلهم الآخرين، كمنزل لا يسكن وطعام لا يستساغ وكنز لا يعرف فيقدر. الماضي فات، ولكنه لم يمت وهو حاضر فينا بقوة الذكريات، وأنا أتذكر الأمس مثل اليوم.. كنت راقدا في المستشفى ملفوفا في الجبس، وفهمت من وشوشة الأطباء أن حادثة السير التي تعرضت لها على متن سيارتي في الطريق السريع تكاد تكون مميتة، وأني سأعيش في أحسن الأحوال لأيام أو لأسابيع قليلة قادمة. لا... يا إلهي! ساعدني، أرجوك.. إني أضع رضا والدي في أكف الدعاء.. إني أضع بركة أمي وحبي الخالد لها في أكف الاستجابة. إلهي، استجب لي واجعل بركة أمي البلسم الشافي، اجعلها إكسير الحياة... ومرت الأيام، ومرت الأسابيع.. ومرت الأعوام، وعاش فتح الله 55 سنة أخرى، متحديا حسابات وتكهنات الأطباء.. بركة الأم.. الحب سر الأسرار.. الحب يصنع المستحيل.. وها هو فتح الله اليوم يربو على السبعين ويمسك بكل همة القلم الذهبي الجميل الذي أهديته إياه يا لالة السعدية في عيد ميلاده الخامس ويخط بيمينه هذي السطور وعيناه تبكيان من ألم وأمل اللقاء... كثير وكثير من أرواح الموتى من طينة طيبة.. أرواح الموتى لا تموت.. *خبير التواصل والتنمية الذاتية