كانت آخر مرة رأيت فيها سعيد قبل شتاء هذا العام تعود إلى 6 شهور أي منتصف يونيو من عام 1998 ، و منذ نهاية ديسمبر العام نفسه استحال علي أن التقي بسعيد، و لم أجد له أثرا في أي مكان، فهل لأنه انتقل إلى مملكة الأموات ؟؟!! و لم أكن أعلم و سعيد يخط بيمينه هذه الأسطر أنه بين الحياة و الممات أحيانا شبر أو أقل، و أن أخي الأصغر سيكمل اليوم ما بدأته بالأمس، و أن سلام الروح يكمن في عودتها إلى بارئها، و أن الحياة استحقت أن تكون دنيا لأنها في أحايين كثيرة يؤدي التمسك بها إلى المكوث في أسفل سافلين. لم كل هذا التشاؤم ؟ لم كل هذي السوداوية ؟ هل أنا حي؟ هل أنا ميت ؟ هل أسمع صوت الرصاص أم أني أتخيل ؟ هل يراد قتلي أم أن سعيدا هو المستهدف ؟ و لم لا نكون معا هدفا مزدوجا لقاتل واحد ؟ ما الحد بين الوهم و الواقع ؟ ما الفيصل بين الحقيقة و الخيال ؟ اسمي العربي، 32 سنة، منذ طفولتي و أنا أسكن بالعرائش، أذكر ذاك جيدا . و لكن أين أنا ؟ ما لهذا المكان مظلما موحشا مقفرا، و ما لي فيه وحيدا شريدا ؟ أين أنا ؟ ميت أنا أم حي ؟ يا إلهي ! أين أنا ؟ قطعت شارع محمد الخامس و يداي مدسوستان في جيبي، بصري عند مستوى الأفق. ملامحي ترسم كل اللامبالاة. كانت السماء فوقي قطعة قماش محدبة، ينتهي طرفها عند أبعد نقطة. أشجار النخيل حولي تنتظم في ألفة و تناسق. بدأت اقترب من البحر. القرص الساحر الأحمر على أهبة الغوص في مياهه الزرقاء. حولت مسيري في هذه اللحظة، لأتوغل في شبكة من الدروب و المسالك الضيقة. تبينت بحاستي السادسة أنها ستمطر، فأسرعت على غير المعتاد. سرت بمحاذاة الأسوار التاريخية للمدينة القديمة، أخيرا وصلت. تنهدت بصوت مسموع. طرقت الباب فانفتح عن أمي و على شفتيها ظل ابتسامة. هويت برأسي أقبل يدها، فناولتني إياها بامتنان. دلفت إلى الداخل، جلست فوق فراش متهرئ، خلعت حذائي، تربعت و أسندت رأسي إلى الجدار. تنفست بعمق. التعب يتغلغل إلى كل جزء من جسدي فيزيد مفاصلي المفككة تفككا. معه تتملكني رغبة جامحة في الارتماء على الأرض و افتراش الحصير. أطبقت كتل الظلام على البيت، أشعلت الأنوار في الحين، تفحصت للمرة الألف قطع الأثاث المهملة. مسحت حجرات البيت بنظرات مسكينة : حجرة استقبال ضيقة و مستطيلة تتفرع عنها غرفة نوم و مطبخ بمساحة أضيق. هنا تتجلى القسوة في أوضح صورها. في السقف تعشش العناكب، و على الجدران تسكن البقع. كل شيء هنا ينطق بالكآبة و الصمت و البؤس. فكرت في فتح إحدى النوافذ تجديدا للهواء الفاسد، لكن تراجعت إذ تناهى إلى أذني صوت العاصفة : الريح تعوي في شكوى متصلة، و الأمطار تجلد الأزقة بوحشية لا مثيل لها. دعتني أمي للعشاء فاعتذرت بأن لا شهية لي للأكل. كنت أعلم مسبقا أنه ثمة خبز و زيتون و براد شاي. عشاء كل يوم، طعام مألوف حد السأم. في الصيف الماضي، حدثت ببيتنا أشياء كثيرة : تزوجت أختاي كريمة و عائشة في ليلة واحدة، أسعفهما الحظ في اقتناص زوجين على قدر لا بأس به من الثراء.كريمة لم ترغب في إتمام دراستها العليا، فرضيت بالزواج بعد 3 شهور فقط من خطوبتها. عزمت بقرار لا رجعة فيه على أن تتفرغ لشؤون زوجها و بيتها. بدت لي ليلة الزفاف نجمة متألقة، ترقص بجرأة و توزع القبل ذات اليمين و ذات الشمال و هي في درجة من النشوة عالية. أما عائشة أختي العزيزة، فقد انعقد قرانها في لمح البصر، غير أنها اشترطت على زوجها الوقوف إلى جانبها لإكمال دراستها الجامعية، فوافق الرجل الطيب على الفور. بقي أخي سعيد. يا له من مجنون ! لم يحضر زفاف كريمة و عائشة، و خلف وراءه عيونا كلها استفهام و وجوها كلها استغراب. بحثنا عنه في كل مكان نعرفه و في بعض الأماكن المجهولة. أين هو ؟ لا أثر له. بلا جدوى. انقطعت عنا أخباره لما ينيف عن 6 شهور، و علمنا بعد حين، من بطاقة بريدية توصلنا بها، أنه تسلل كمهاجر سري لإسبانيا، و أنه بعد جهد جهيد نجح في الحصول على عمل موسمي يقتات به انتظارا لما هو أفضل. آه من الذكريات و سلطان الماضي حين تنثال صوره على الخاطر فيخاله المرء سيولا جرافة. آه من أمس مضى و لم يعد. أويت إلى فراشي و انكمشت تحت غطاء سميك يحميني من زمهرير ديسمبر، و ما أدراك ما زمهرير ديسمبر في شتاء هذا العام الذي لن أنساه. 1998 ، العرائش ، و ذاكرة تنوء بالفشل، و البرد ، و الوحدة ، و الانتظارات و علقم الهزائم. مرة جديدة أفيق على حقيقة مخيفة، أسمع ناقوس الخطر يزلزل كياني، يبث في حماسا صارخا و ثورة بلا تخوم. أفيق على يوم آخر من حياة الملايين العاطلين أمثالي، تتراءى لي الوجوه عابسة، و الوجوه فاترة. القلوب خائفة من المجهول، خائفة يستعمرها اليأس. السماء حين تزدحم بقطع السحاب تصير مكفهرة، تجري الرياح، و ينزل المطر. يوم جديد، و يعم صفاء و نقاء بعد كدر، و تشرق شمس الله على دنيا طاهرة. أنا سماء ملأى بالسحب، و لا مطر، و لا قطر، و لا هم يحزنون. استياء عارم حل بالبيت. كلمات أسف تسقطها سمعي، عبارات مواساة من كل الأفواه. قاومت و تجلدت و تظاهرت بالشجاعة و رباطة الجأش. الانكسار في داخلي استحال حافزا و بعضا من الرجاء. جربت أن أهرب من الأوهام فاحترفت الكتابة. السخط و الغضب و الرفض أحاسيس تأججت في عروقي، فمزقت عذرية الورق، و ولد من ذا و ذاك كلام و بوح و عناق للألم و الأمل. بقيت على حالي، اكتب و أفرغ الشحن 7 سنوات متوالية، غير أني في السنوات الثلاث الأخيرة أحسست بالشعلة الحمراء الكامنة في أعصابي تنطفئ. بدأت أرى الغد محتجبا خلف كتلة من السديم، و رغم كل هذا، واصلت الكتابة. فرغت من حلاقة وجهي، ارتديت ملابسي على عجل، و خرجت من البيت دون أن أسد رمقي بلقمة واحدة. أنعشت وجهي الحليق نسمات الصباح الباكر. اشتريت جريدة، و قصدت مقهى "بدر" المطل على بلكون اتلانتيكو. طلبت لنفسي فنجان قهوة سوداء، و قتلت الوقت بما تيسر ملؤه على شبكة الكلمات المسهمة، و انتقلت بعد ذاك إلى حل الكلمات المتقاطعة. بقيت بعض المربعات فارغة. هل تعلم هذه المربعات أني أكثر فراغا منها ؟ و إذا علمت فماذا سيحصل ؟ حولت اهتمامي إلى مطالعة الأبراج. كان ميزاني يهمس في قرارة أذني : " أنت إنسان مزهار ، تنتظرك اليوم مفاجأة سارة ! ". بعد نصف ساعة غادرت المقهى عائدا إلى البيت، و حين هممت بعبور الشارع، كادت سيارة مجنونة لسائق أكثر جنونا تصدمني فترديني قتيلا. علمت بفراسة لا تخيب أني سأصبح عما قريب عرضة لمحاولات قتل من هذا القبيل، و فعلا فذاك ما كان فيما استجد من أيام، و السبب الرئيس أني متمسك بطباعة رواية سياسية حادة اللهجة كنت قد انتهيت للتو من كتابتها، و قدمتها لعدد من دور النشر رفضت بالإجماع فكرة نشرها، و استقبلت علاوة على ذلك، عددا مهولا من المكالمات الهاتفية من أشخاص مجهولي الهوية يهددونني بالقتل في حال إصراري على طباعة عملي الروائي. وصلت إلى البيت، و تناهى إلى مسامعي تمازج أصوات و ضحك و فرح، و كانت مفاجأة... هاأنذا ارتمي في أحضان سعيد، و ها هي ذي دموع أمي تنهمر مدرارة من شدة الفرح. سعيد، أيها الشرير، ها أنت تخبرنا أنك تزوجت باسبانية تكبرك 10 أعوام، - زواج المصلحة أيها الانتهازي، ها ها ها...- و أنك وجدت عملا أفضل، و أنك أيها المجنون في حدود سنوات قليلة ستحصل على الجنسية. أيها اللعين ! الآن انتهينا من العشاء في بيتنا الفقير من كل شيء إلا الحب و بهجة اللقاء بك بعض طول غياب. أيها الأخ الأصغر، هل نتمشى سويعة على طول بلكون اتلانتيكو رغم أن الوقت متأخر ؟ هل نستنشق بعضا من هواء الليل الرطب ؟ - صافي آ خويا العربي، ما يكون غير خاطرك آ الغزال... - يالاه نخرجوا دابا ! كنت و سعيد شبحين يمشيان بين فلول الظلام، و كان القمر فوقنا شلالا من الضوء، كان ساحرا في بهائه، و لكنه لم يكن كاملا ليلتذاك، فالكمال للواحد الأحد. في قلب الليل و الصمت المسربل للمكان، كنت أحسني في مقبرة للموتى... نعم ! الموت يتعقبني من جديد، و ها هو أزيز رصاصة طائشة يخترق مسامعي. يا إلهي ! الغوث ! قبضت على يد سعيد بكل ما أملك من قوة، و ركضنا نحن الاثنين بجنون، و وقع خطوات رهيبة يأتينا من الخلف. ركضنا، و ركضنا، و ركضنا حتى احتبست أنفاسنا، و كنا في سباق بين الحياة و الموت. و فجأة، تسمرت في مكاني، و تجمد الدم في رأسي و شراييني. كانتا رصاصتين قاتلتين لم تخطئا الهدف. رصاصتان ؟؟ !! رباه ! هل قتلوا سعيد أيضا ؟! يا ربي ! يا ربي ! يا ربي !... إنا لله و إنا إليه راجعون... رحمك الله يا أخي العربي. أبكيك، و أبكيك، و في قلبي لوعة و حرقة، و من عيني يسيل طوفان دموع. " يس و القرآن الحكيم، انك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم" إني اقرأ ما تيسر من "يس" على روحك أيها الفقيد العزيز. أبلغك سلام دار بيرنار الباريسية للنشر التي ترجمت روايتك للفرنسية و طبعت منها مئات الآلاف من النسخ و ضمنت توزيعها و بيعها على نطاق واسع بعد أن سلب لبها جمال و صدق و روعة عملك. نحن الآن في مستهل 2000، و لقد صرت على الأقل هنا، في فرنسا التي تحترم الأدب و الإبداع و حرية الفكر... صرت كاتبا مشهورا. لا تحزن آ خويا العربي... فليس هناك ما يستحق الحزن على هذه الحياة الكلبة. حتى إسبانيا تركتها، و كارمن زوجتي أيضا تركتها، و أنا الآن، أقيم و أعمل مؤقتا ببوردو ، في انتظار المجهول... و أنا اقرأ عليك، هنا، في ذات المكان الذي لقيت فيه حتفك ، اقرأ آخر فصل من روايتك، في زاوية قصية من بلكون اتلانتيكو، و قرص الشمس الحزين يغوص في مشهد بحري أكثر حزنا... أود أن أؤكد لك أنك ماخسرت مثقال ذرة من هذي الحياة الفانية. لقد انتقلت إلى دار الحق من دار الباطل... [email protected]