أعرف أنك لن تقرئي هذه الكلمات، وأعرف أن لا أحد قادر على أن يوصلها إليك كما أريدها أن تصل حتى ولو حاول. هي كلمات أحملها معي وكأنني أحمل الدهر كله .. آه كم يثقلني هذا الحمل، فهل أملك ما يكفي من الشجاعة لأقولها لك؟ أنت لا تحتملين ضجيج الكلمات، أعرف هذا جيدا وأعرف أنك كنت تتحدثين إلي، إلينا، في صمت. تطور الصمت بيننا حتى أضحى لغة بديعة، جميلة لكنها لغة لا تحتمل صيغ المجاز العقيمة. لغة الصمت بيننا كانت بالجرعات وكأنها وصفة لترياق نادر يستخدم عند الضرورة القصوى، نستعين به حينما نبحث عن سبب ما للحياة. هل كان هناك ما يدعونا إلى أن نحيى كما حيينا؟ كنت حاضرة وكان هناك شيء ما غائب يمنعك من التعبير عنه بالكلمات. ربما لم يكن صدر الكلمات يتسع لما يتماوج في صدرك. معك اكتشفت مبكرا أن الكلمات تقتل الروح، تخنق المشاعر والأحاسيس. الكلمات انتحار مؤجل. قدري أن أحمل معي وزر كلمات وددت لو سمعتها وأنت في وشاح صمتك الصوفي. كم أحب أن أرى وقعها على وجهك الذي جعدته السنون. قد تسرحين بنظراتك نحو ذلك المدى المجهول، كما كنت تفعلين دوما، أو ترسلين بسمة في اتجاه الريح. إلى أين سيحمل الريح العابر فوق جراحنا بسمتك؟ إلى مكان بعيد، هذا ما استخلصته من لغتنا الصامتة حينما بدأت أفك ألغازها. ذلك البعيد الذي سكننا جميعا، طبع وجودنا معا ووجود من كان يجمعنا بهم حزن كبير. كنا سواسية في الحزن. لطالما رأيتك تبكين دون أن تنزل دمعة واحدة من عينيك المتعبتين، وهذا ما تعلمته منك أيضا. فأنا لا تدمعني الأوجاع ولا الصدمات، وإذا ما فاجأتني دمعة على خدي فاعلمي أنني في قمة السعادة. حتى في الليالي الطويلة الموشحة بالبرد وقلة الفرح، تكتفين بحكي قصة تلك التائهة في العتمة، والتي قادتها غريزة البقاء للبحث عن بارقة ضوء. وحينما لاح لها ضوء خافت في أفق بعيد، توجهت نحوه لتكتشف بعد مسيرة متعبة أن مكان انبعاث الضوء هو مأوى «الغولة»! هذا الوحش الأسطوري كم كان يخيفني، فأنام كالحجر اليتيم، كأنني أنا العائد من رحلة العتمة. أنام أنا وتعودين أنت لصمتك الأزلي. كانت هذه طريقتك في إنهاء الكلام. عمر الكلمات عندك كعمر الفراشة، لا ترى نور الحياة إلا لتتزين استعدادا للموت. دورة الحياة عندها لا تتعدى أسابيع. أمي، أتدرين كم كانت صدمتي كبيرة حينما علمت بأنك دخلت عقدك التاسع؟ لم أكن مستعدا لتلقي هذه الصدمة. كنت أعتقد أنك قتلت لغة السنين كما قتلت لغة الكلمات. أبلغني أخي بأن رجليك تخذلانك الآن. لعل الزمن تغول فوق ظهرك. أتدرين ما قاله لي أخي؟ قال لي: لا داعي إلى أن تسألها عن السبب، فجوابها معروف: «لا شيء». فبما أنك لن تقولي شيئا، فدعيني أقول لك بعضا مما أود قوله لك.. أنا أحبك، أحبك في صمتك، أحبك في سكناتك، أحب عينيك الحزينتين. ها أنا أعترف لك اليوم. أمي، لا بد أنك سمعت بشيء اسمه اليوم العالمي للمرأة، وقد لا تعرفين شيئا عن هذا اليوم ولا ترغبين في أن تعرفي لماذا اتفق العالم كله على هذا اليوم بالذات. أنا أيضا لا يهمني. ما يهمني اليوم حقا هو أن تعلمي كم أنا جبان.. جبان من لا يعترف بحبه إلا متأخرا. أتذكرين يا أمي حينما كنت تبحثين عن أي شيء في البيت لتضعيه في محفظتي وأنا ذاهب إلى المدرسة؟ كنت في العاشرة من عمري حينما دخلت أول مرة باب المدرسة. قلت لي، والكلمات عندك عزيزة: المدرسة هي طوق النجاة. لم تستخدمي هذه الكلمات بالحرف. وحينما تغربتُ في رحلة طويلة، كنت تسألينني في آخر كل سنة نفس السؤال: هل نجحت؟ ثم تعقبين على جوابي بكلمة واحدة: «مليح». أمي، اسمحي لي لأنني تجرأت على أن أتقاسم هذه الكلمات مع كل الناس إلا أنت، اسمحي لي لأنني كسرت قاعدة اللغة عندك. فإذا اعترفت اليوم فقط بحبي لك في هذه الكلمات، فتأكدي أني لم أكن لأحيى لو لم أكن أقرأ في عينك نفس الكلمات.