الليل ، كلما مد أطنابه وأصماني بسهمه.. حاولت، دون جدوى، أن أتصالح معه، ولكنه يصر من جهته، كل مرة، أن يتحداني، فينام " على جفوني"، ويجفوني.. نصحني الأطباء الذين زرتهم بالرياضة، وبشرب كوب حليب ساخن كما الأطفال، وطرد الوساوس قبل النوم.. " هراء، من يجرؤ أن يطرد وساوس الحوب في زمن العولمة، واليوتوب..." التيه في بلاد الناس تكفّل بالرياضة ، أما الحليب ( يا للسائل الأبيض ) فلقد حرّج الزمن عليّ أن أكتفي بما رضعته من أمي، وللحق أقول ، لم أجربه كرها ًفيه ، عاديته منذ كنت طفلا، لم أعرف له طعما في بيت لم يشرب أهله غير الشاي، استأنسنا به كملك متوج، لا على المائدة، هذه نعدمها،إنما فوق حصير متآكل... هو وجبتنا الرئيسة في الغذاء والعشاء... وأحيانا كان يغيب أياما ، فتعوضه أمي بحكايات عن " ثامزا"، وبدل أن تسترق النوم من أجفاننا تضيف، بما ترويه فوق الجوع والدمع يرفض من عينيها، ذلك الجزع الذي ظل يسكننا إلى اليوم.. اليوم كبرتُ ( لست أدري كيف حصل ذلك مع هذا "الخبز الحافي")، وأنا على كل حال دابة ، كبقية الدواب،رزقها على الله، كبرت رغما عن الجوع، والفاقة، والمرض ومع ذلك تدبرت أمري، ولم أتسول خبز يومي من أحد، رغم أن سهم الخطوب رشقني بمصميات،بدل أن ترديني قتيلا تآلفت معها وتعايشت كما المريض مع داء مزمن ..ولم يحزَّ في قلبي سوى شيء واحد هو أني لا أفك الحرف، واليوم حين أرى أقراني يستعملون هواتف نقالة، ويحركونها بين أناملهم، ويتكلمون، ويتلون القرآن في المسجد ويضحكون بصوت مرتفع ، أتساءل ما جدوى أن أعيش لمجرد أن أتنفس... أحيانا كثيرة أقارن نفسي بالبغل الذي كنا نملكه، قبل أن يبيعه أبي مضطرا، هو صحيح كان يحرن ، لكنه بغل ، وأنا مثله، وفوق ذلك ، أنا عكسه تماما، أنقاد لأسيادي، ألبي طلباتهم، أشتغل عندهم دون أن تصدر عني كلمة ( أف)، تصريحا أو تعريضا.. يمارسون علي ألوانا شتى من التعذيب، وينزلون بي ، في سادية ماتعة، قهرا يجبرني على أن أشتغل ساعات طوال لا أستريح فيها إلا لماما ... في الليل أتعب، ولا أحد يرثي لحالي، أجل أتعب كثيرا، وحين لا أنام رغم تعبي، أفكر كثيرا في وضع حد لهذا الكابوس... "يا الله ،ما أبطأ قدوم الصباح على منتظره .. وأنت أيتها النفس اهدأي ، فمن أجلك أشرب حتى الثمالة،ليلي مربوط كأنه يجر من ذيله.. أظل أسامر نفسي، أدخن، أسكر... حتى ينشر الصبح راياته... فأنتشر، وأبحث عن لقمتي..." لياليَّ نابغية ، أستمرئ فيها سهادي، وأنتظر ما لا أعرف... لذلك أفكر الآن بجد أن أغادر هذا الزمن، وأمضي... أنا فضلة في هذا الزمن.. أميّ، وجاهل.. لا زوج، ولا أولاد، لا في العير ولا في النفير، وأمثالي - لست أدري كم نحن- قمين أن يرحلوا، أن ينتحروا... أجل، هذا هو.. علي أن أنتحر... سجلوا عني هذا ..لقد عزمت، وتوكلت... منتحر جديد قادم إليكم أيها المنتحرون فانتظرونِ.. لكن قبلاً علي أن أهيئ لموتي، سأزف نفسي للهاوية.. أنزل إليها كدلو، أصعد إليها كإشاعة ،سأحبو نحوها على أربع .. لا يهم.. أن يسحقني الألم الذي سيؤدي إلى الموت هو الأهم..." وفي الليل ، كل ليل، ينخرني الأرق كما الأرضة مع الخشب وأنا أفكر في الموت، فتجد فكرة الانتحار في رأسي الثقيلة مرتعها ، ومثل الحمى تزورني كلما وقب غاسقي، وتنكُت في رأسي الفارغ .... لقد بدأت الآن أخطط لنهايتي الوشيكة، ولن أسألكم- أيها المنتحرون- كيف صارت الأمور معكم.. لِمَ العجلة.. دعوني بدلا من ذلك أستمتع بسهادي..فحين لا أنام أفكر بشكل جيد... أمامي الآن حبلي .. ها أنا أفتله على شكل طاقيْن، سأشكل منه أشروطة سألفها حول عنقي غدا، وربما بعد غد.. لكن لحظة.. لا بد لي من الخمر،عليّ أن أسكر أولا حتى إذا غادرت سيقول الشامتون : " الخمرة دارت في رأسه، وفعلها " الزايخ "...، وستقول فئة أخرى: « اللعنة، مات كافرا"، والثالثة، والرابعة... الجميع سيدلون بدلوهم في الدّلاء... لكن هؤلاء أين هم الآن؟ ولم يكثرون فقط في الفضائح؟ مشكلتي الكبرى أني ضُل بن ضل، فمن سيكتشف جثتي .. ومن سيشيع خبر انتحاري... ومن سيبكيني...؟. أسئلة، أسئلة، أسئلة، وليلي طويل، بلا آخر.. واها،ً أيتها النفس ،يا لهفي عليك " إذا أدلجوا عني وأصبحتُ ثاويا " اكتشاف الجثة ستتولاها رائحتي النتنة ... والبكاء ليس مشكلا...سأبكي نفسي، أشيعها، أبكيها قبل أن أسلم روحي... دموعي تجف الآن ولا تهمي تحت الطلب، لقد نزف البكاء دموع عيني في كل ليل لا أنام فيه، لذلك سأدع دموعي تحرن الآن لتمارس علي سلطتها... فلو يدرون كم بكيت وأبكي في صمت... داخلي نهر من دموع سنين عمري، وفرتها لليوم الأسود، ولي منها من الفائض ما يمكنني من أن أعير لغيري عيني ليبكي بها لو أراد.. وحتى إذا فكروا في تشريح جثتي سيرتكبون خطأ عمرهم.. أجلاف يكونون.. إنهم حتما سيغرقون في محيط من الدمع... وهذا لوحده يكفنيي، فلا داعي إذا في البكاء.... وماذا عن القبر يا فهيم؟ سأحفره بنفسي، وسأوصي سيدي الذي يستغلني أن يحشرني، وإن خاف على سمعته فليكن وقت ذلك ليلا.. سيقبل إذا أخبرته بأني ، مقابل هذه العملية ، سأشتغل أضعاف ما يأمرني به، ودون مقابل.. إنه يكنز الدينار، ويعبد الدولار، ومستعد أن يحالف الشيطان، فكيف بمنتحر يبغي فقط أن يهيل عليه التراب وهو يحشره.... هذا أمر محسوم... بقي أن أختار يومي... لكن علي أن أنام قليلا حتى تصفو نفسي، وأمنح لذهني راحته... أتمدد ، أستلقي على ظهري، أغمض عيني... ولكني لا أنام.. لا أنام.. لا أنام.. " أيها الراقدون ، طوبى لكم ،ليلكم موصول بنهار ترقدون ولا ترثون لحالي، ولياليّ نابغية، بلا آخر.. تمتعوا بعالمكم... أما أنا فسأغادر،.. غدا ، سأنتحر... يا لهف نفسي على غد... وغدا حين تكتشفون جثتي، لا تقرأوا الفاتحة علي، إنما على أرواحكم..".