عندما استوت الطائرة في السماء كنت أحس أن عالم الوطن، عالم الرعب مازال يسكنني. ظننت أنني لن أتخلص منه. شرارة الأمل و الترقب تزداد في نفسي شيئا فشيئا. بدأ جسدي يضعف وكدت أنهار من شدة الفرح. غريب هذا الأمر ،عندما يصبح الإنسان مسكونا بهواجس متناقضة. قلت، سأترك كل شيء. لقد بنيت جدارا من الفولاذ ولن أرى بعد اليوم لغة الحرمان من الأمومة و العائلة وأشياء عديدة...لكن سرعان ما سقطت في فخ شريط الحب و الألم. بدأت أحس وكأنها تقبلني تلك الغائبة الحاضرة التي كانت دائما تدفىء وجنتاي كل صباح. قبالتي، أحد المسافرين يصوب سهام نظراته المفزعة اتجاهي.رجل ضخم، في الأربعين من عمره، لحيته أطول من ساقي وتبدو عليه علامات البؤس. لقد ذكرني بقامة أبي عندما يرتدي سلهام جدي البني. نظرت إلى شكله جيدا عندما انحنى كي يقبل طفلته. يظهر وكأنه وحيدا. لا يتكلم مع أحد. يجلس قرب امرأة تبدو وكأنها زوجته. كم من زوجة لا يتحدث معها زوجها إلا عندما يريد أن يرمي حيواناته في بطنها السفلي.يا للغرابة.هذا الرجل ترتسم على تجاعيد وجهه روح الانهزامية. لقد ذكرني بشريط المحنة و القهر، أيام كان أبي يقدم لي الجريدة كل صباح كي يعلمني كيف أداعب الحروف العربية. كنت حينها أقرأ دون أن أفهم... أنصت إلى صوت نشاز ينبعث من فم الأم التي ولدتني. مازالت الطائرة تحلق في أجواءها. بدت لي الأشياء مبهمة، ربما سنظل في هذه الفضاءات الفارغة إلى الأبد. بدأت أومأ برأسي باتجاه نافدة الطائرة، ثم رحت أراقب السماء عسى أن أجد نجوما تسعفني كي أستعيد يومياتي الفرحة. رحت بعيدا، عندما كنت أتبول في ثيابي كل صباح، خائفا من كلام المعلم الذي يطلب منا ترديد ثلاثيته المقدسة: قرد، بقرة، برتقال أكثر من مئة مرة إلى آخر فصول حرقة الحياة. توقفت عند كل ساعة ودقيقة قضيتها مع محماد. صديق أمازيغي لا يحس بالانتشاء إلا وهو ينصت إلى أغاني عبدا لحليم. كم كان يحب تلك الأغنية التي تتحدث عن الجنة، لحظتها يقول: إن الجنة متخيلة، وكل شيء موجود على الأرض، فمن لم يجد لقمة العيش فهو في جهنم الحمراء، أما من ولد وفي فمه ملعقة من ذهب فهو في الجنة ينعم أمام مرأى المسحوقين مثلي.يحكي محماد أن النساء المتزوجات بقريته الواقعة في الجنوب، لا يعرفن الخيانة. كنت أحب معرفة دلالة هذه الأقوال. عندما أسأله يجيبني ضاحكا: أنت فضولي و لن تنام اليوم إلا بعدما تعرف كل شيء! اعتصمت داخل غرفته الصغيرة حيث أزوره كل ليلة يوم سبت، وبعد إلحاح طويل نطق محماد: نساء قريتنا المتزوجات لا يضاجعن رجالا آخرين مهما طال غياب أزواجهن، والسبب يرجع إلى ممارستهن للجنس مع نساء أخريات يطلق عليهن إسم الحكاكات لتوفرهن على بظر كبير ويشبهن الرجل.هذا علم جديد. فالبديل الجنسي قد توجد وصفته عند السحاقيات. هكذا كانت حكم محماد الليلية.استرجعت لحظة حضوري داخل الطائرة وقلت، أنا لم أتخلص من أشياء عديدة تركتها ورائي كمحماد و حكايات العجزة بالحومة وأوجاع الخمار و كل زملائه من أطفال الشوارع الذين يحتلون المواقع الجميلة ببلدتي. اليوم على الأقل أنا قريب من الضباب، أتجه صوب فضاء كله ورد و حب و جمال: تلك هي كندا كما يتحدثون عنها. بلد كله نشوة وامتلاء. عشقي للحلم خلصني من كابوس تلك الأرض الملوثة و صراخ موسى بائع الحليب و حديث الطاهرة عن زوجها مبروك الذي يضربها كل ليلة حتى تنتفخ عيناها وأشياء أخرى. وأخيرا، بدأت أتصور الجمال وليطمئن قلبي الملدوغ بسم الساحرات، والمغمور بحسرة لا حد لها. بدأت أضحك لوحدي قرب النافدة التي لا تطل إلا على العدم.بدأت أحصي كثل الضباب التي تهرب مني كلما حاولت الاقتراب منها. يجب علي في كل الأحوال أن أنتبه إلى هؤلاء الناس الجالسين قربي حتى لا يدب في نفوسهم الشك ويعتبرونني أحمقا. وجوه مصفرة و شاحبة توجد على يساري وأخرى على يميني كانت جامدة و خائفة تشبه جلها وجه عمي المختار. رجل طاعن في السن، يجلس قرب بيته كل صباح كي يحصي أعداد الذين خرجوا لقبر الحياة. بيته مزركش بكل الكلمات الفاضحة التي يدونها أطفال الحومة على حائطه انتقاما منه. كنت أمر بجانب بيت عمي المختار رفقة صديقي موحى لنكتشف معا العبارات الجديدة التي دونها أطفال الحومة ليلا. كل العبارات لا تخرج عما يو جد أسفل البطن. كلمات مضحكة ودالة تعري عن عورة المقهورين وأولاد الشوارع. لم أكن على وعي بمعاني وأبعاد الحروف، لكني كنت أفهم مقاصد الكتابة عن المحرك الذي لا يتحرك... تمنينا لو نظل بجانب بيت عمي المختار حتى نستطلع المزيد مما يكتبه أولاد الدرب. عمي المختار رجل متقاعد، هجرته زوجته منذ عقد من الزمن و لا أحد يدري أسباب ذلك. لا يقوى على النظر في وجوه النساء. يكره بائعات الهوى حتى النخاع وخصوصا عائشة. امرأة طيبة تسكن في قاع الدرب. كانت بائعة للهوى وتحولت إلى قوادة بعدما اشتعل رأسها شيبا وهجرها كل الرجال. عندما تخرج لشراء الخبز من ذلك السوسي الكهل، ينهرها عمي المختار بعدما يبصق هائجا: الصباح لله ما هو صباحك...كانت تجيبه عائشة المسكينة: مالك يا المختار، أنا غادي نمشي من هاذ الحومة و اش مضايقاك. أنا ما قلت حتى حاجة...اتكأت عائشة على كتف عمي المختار فاقتربت من رأسه ثم همست في أذنه: لا تنس، القحوب ماشي عيب، على الأقل كشف لي عن حقيقة الرجال مثلك...كنت هائما في قصة المختار و عائشة القوادة لكن سرعان ما أيقظني صوت إحدى المضيفات الوسيمات و هي تطالب الجميع بشد الأحزمة. قلت، لم يعد لي جسد أشد عليه شيئا معينا. كنت أرتعش من شدة الخوف. كنت أستعد لخطر محتمل. بواطني تكاد تنفجر من شدة الخوف. ركوب الطائرة ليس كركوب حافلات بوصفيحة المتآكلة والتي كانت تحمل الآدميين كقطعان من الغنم. يقولون أن الموت في حوادث الطائرات أسهل و أسرع منه على السرير حيث العذاب تلو العذاب قبل أن تخرج الروح. بدأت أفهم أن الناس ليسوا سواسية. الصراع الطبقي موجود حتى في ردم الجثث تحت التراب. آه يا رفيقي، أين أنت حتى أسمع مقولتك: الحازقين هم عبارة عن موتى يمشون على الأرض بالرغم من الروح التي تسري في أجسادهم. أحيانا عندما أتأمل الموت أفكر في نفسي و في كل أولئك الذين هزمته تجاعيد الحياة. يا لها من لعنة! حملت رواية غرامية كانت قد أهدتها لي إحدى ملهماتي منذ سنوات. وضعتها بين أصابعي، رغبت في نسيان لعنة الموت و التمسك بفردوس كندي بدأت أدشن خطوطه الكبرى. ترددت كثيرا قبل أن تهزمني مثانتي. دخلت المرحاض أكثر من خمس مرات، وفي كل مرة ألاحظ بولي وقد تغير لونه، لم يعد كما كان نتنا و فيه رائحة النفط الذي تعم أرجاء بلدتي المتسخة. عندما خرجت مرات من المرحاض، كانوا ينظرون إلي باستغراب وخاصة ذلك الملعون الذي لم يكلم زوجته طيلة الرحلة وكأنها لا توجد. لو كنت مكانها لرفضت أن أعيش معه ولو دقيقة واحدة. كم من امرأة لا تنتفض ولا تصرخ في وجه زوجها لأنها تخاف من صورتها أمام الناس كمطلقة. ليس هناك لا حب و لا هم يحزنون. حاول التقرب مني أكثر من مرة. أظهرت اللامبالاة، وفي الأخير تجرأ وقال لي: أظن أن الأخ ذاهب إلى كندا أم إلى أمريكا... كندا حتى أنا يا أخي. لقد تخلصنا من أولاد الحرام و أعداء الله. وهل هناك بالفعل من هم في خانة أعداء الله ؟ أعتقد أن الله يحب كل البشر لأنه هو خالقهم! لا يا أخي. الله لا يحب الكثيرين بسبب تصرفاته الخبيثة. أبي يقول هاذ شي مكتوب و حتى محمد عبدالوهاب يغني: اللي مكتوب على الجبين لازم تشوفو العين. حتى هاد المغني عدو الله! أظن لم يبق من أحباب الله إلا القليل من عباده، وهل هذا هو العدل ؟حاولت تغيير الموضوع لأنني منهوك القوى و أريد أن أتأمل مصيري. أريد أن أحلم في هدوء وأنا أتوسط هذه الطائرة وأمامي مضيفات لا يتوقفن عن الابتسامة. خاطبني صاحبنا ثانية بأسئلته الغبية حتى فكرت أنني أمام استنطاق بوليسي: هل أنت مهاجر أم مجرد طالب ؟ أنا راحل كي أرى الفردوس... قالو لي بأن النساء بكندا يعرضون أنفسهم على الرجال. سوف لن أكلف نفسي عناء البحث. إنهم يحبون العرب بيني و بينك النساء الكنديات يفتقدن إلى رجال تميزهم الفحولة.لم يعجبه كلامي. نظر إلي من فوق نظاراته بحقد ثم قال لي: يبدو لي أنك أنت كذلك عدو الله.استرسلت في قراءة روايتي. كنت مازلت في صفحاتها الأولى عند فصل يوضح فيه الكاتب الفرق بين الحب المادي و الحب الروحي.لم أكن أرغب في سماع أسئلة من هذا النوع. بدت لي الرحلة طويلة. لم أتوقف عن إسترجاع شريط الأمس. جيران يصرخون ليلا ونهارا، شباب يتخاصمون و لا أسمع سوى تبادل الشتم بعبارة ولد القحبة حتى اعتقدت يوما أن كل نساء الحومة قحبات. عائشة التي هجرها علال بعدما هددها بالاتصال بالبوليس. امباركة المعطوبة، حمودة صاحب الألحان الجميلة وكل المنبوذين الذين لم ينصفهم تاريخ الغبن.لن أنسى صوفيا التي مات أبوها وطردتها أمها بعدما تزوجت رجلا آخر . صوفيا انهارت وظلت في مستشفى المجانين حتى ماتت. فجأة وقفت هذا الشريط المدمي حتى أتفرغ لما ينتظرني في عالم الغد. لم يبق إلا ساعة واحدة وتهبط الطائرة بمطار مونتريال. وأنا بين أحضان الحلم بالرقة وذرات الجمال الذي تسقط كالحرير على رؤوس أتت من بلدان الجنوب الساخن، قلت مع نفسي: على الأقل تخلصت من بلاد المحتقرين والمخبرين. لقد ابتعدت من أولئك الذين يشترون أصوات الأغبياء في الانتخابات المزورة.تذكرت رفيقي عبدالسلام الذي كان يكرر دوما عبارته المشهورة: لا خير في وطن أغلب سكانه من البصاصين و لا عقي الأحذية.هبطت الطائرة على أرضية المطار، الأمسية الأولى في بلاد الضباب. البرد يقطع الأنوف. لم أجد أحدا من أفراد الأسرة التي توقعت أنها ستستقبلني. قطعت مسافة ساعتين بالحافلة. وأخيرا كنت هناك. اتصلت بالأب أحمد، فجاء ليرميني وحوائجي في سيارته. يعمل كسائق طاكسي ولا يعرف نعمة النعاس. زوجته تنظف الأواني في إحدى المقاهي، أما الأولاد فإنهم في المدرسة. لم أصدق أنني وحدي، بين أسوار تحيط بها الثلوج من كل جانب.طرحت السؤال بسذاجة تامة: كيف وصل هذا القوم إلى هذه الأرض المهجورة ؟ خرجت لأنفض غبار البليدة من فوق رأسي.انتابني شعور بالارتياب وكأنني في عالم لا أقدر على فك ألغازه. حاولت أن ألمس ركام الثلج فكادت يدي أن تنفصل عن جسدي. قضيت أسبوعا مع هذه العائلة الغريبة. ذلك الصباح، سمعت صوتا خافتا يناديني. كان أحمد يشير بأصابعه من داخل سيارته التي يعول بها أسرته. لقد جاء ليأخدني إلى الغرفة التي عثر عليها كي أسكن فيها مقابل 200دولار. غرفة توجد تحت الأرض سموها un et demi ، ذكرتني بحكايات السجون المغربية .فيلا صاحب الغرفة فخمة و محاطة بالزخرف من كل مكان.كان ينظر إلي ذلك الصباح بنظرة فيها الكثير من الحيطة. سألني: ما اسمك ؟ محمد ... أوكي . ستؤدي 200 دولار كل شهر وعليك أن تلتزم الصمت. هنا كل شيء تمام.كدت أقول له: وهل قرأت على جبيني شيء يدفعك إلى ذكر هذه الكلمات السامة. كنت أعرف أن لعنة الحادي عشر من سبتمبر تطاردني. علي السكوت حتى آخر فصل من فصول الحكاية. أجبت الموسيو برنار : نعم أنا موافق على كل شيء. تذكرت من كان يقول لي يوما ذلك المثال المشؤوم: ما عند الميت ما يدير قدام غسالو هل أنا أصبحت كالجثة أمام القباقب (LES QUEBECOIS)؟ دخلت إلى غرفتي الجديدة . كانت ضيقة ورائحة الرطوبة تنبعث من أركانها. داكنة و تجاور غرف أخرى وكأنني في أحد مستشفيات الوطن. في حقيقة الأمر، لم تكن تصلح هذه الغرفة حتى لكلب المسيو برنار الذي يتمتع بقاعة كبيرة فوق غرفتي. يا لها من سخرية القدر. تمنيت أن أكون كلبا حتى أنام مرتاحا. تمددت على السرير، جد متعب و جسدي النحيف لا يقوى على الوقوف. قلت لصاحبي أحمد الذي كان ينتظر ردي الأخير حول هذه الغرفة: جميل. أشكرك...على الأقل هذه الدار...يمكن أن تذهب الآن لإتمام يوم عملك.علامات الفرح كانت تتدلى من عينيه الغائرتين. لقد أعجبه هذا الصندوق العجيب لأنه سيحتضن حماقاتي بأرض الغربة و يخلصه من كلام زوجته التي لم تكن ترغب في بقائي داخل منزلها.لم أستجيب لنزواتها المقلوبة. تنظر إلي بطريقة غريبة. يظهر وكأنها تريد أن تخطف شيئا أملكه. لا أدري...نظرات زائغة فيها الكثير من معاني الحميمية. عندما يخرج با أحمد ،كانت ترتدي فستانها الليلي وتبدأ في إطلاق قهقهاتها حتى تظهر أسنانها المخربة. كنت أغادر المكان حتى لا توقظ هوسي وأرتكب أخطاء مازلت أعشق مداعبتها. ودعني با أحمد وعلامات الفرحة ترتسم على وجنتيه. لقد حقق نصرا سيوفر عليه تعب حديث الوسادة وتداعياته مع زوجته...أنا الآن في غرفتي، داخل علبة تخنق أنفاسي. أحس بالرعب، بدأت أنظر إلى كل جوانب المكان. وقفت أكثر من مرة دموعي التي تريد أن تتدلى كواد من الدماء. خرجت لأطوف حول المكان. لم أجد سوى ثلاث غرف مجاورة للحفرة التي تحتضني. تسكن بجواري كيبيكية من أصول افريقية، يبدو أنها تشكو من مرض لا تريد الإفصاح عنه وبجانبها يقطن مهندس دولة كندي ساخط على وضعيته، يشتم كل ساعة رئيس الحكومة و الملكة وشاب آخر يدعى ميخائيل، علته غير مفهومة.يخاف من الماء ويأكل بدون توقف. شراهة لا نظير لها. يغادر غرفته طيلة النهار ولا يعود إلى ليلا. يكرر جملة واحدة أسمعها عند عودته أكثر من أربعين مرة: Ma mère me manque !سألته عن سر هذه الحسرة. لم يرد عن سؤالي. أعدت السؤال مرات عديدة بصيغ جديدة: أين تسكن أمك ؟ غير بعيدة من هذا المكان، إنها تقطن في الحي المجاور لنا. لماذا لا تزورها وتقبلها يوميا، هذا سيساعدك على ملأ الفراغ. لو كنت مكانك لما تركت أمي لحظة واحدة دون أن أقبل يديها ورأسها بل أنام على صدرها. لو كانت أمي هنا لقبلتها ألف مرة، يا للخسارة...! أنا لا أستطيع. أمي بعيدة عني كما تبعد الأرض عن السماء. إنها تعيش مع عشيقها الذي يكرهني. يقول إنني أكسر كل شيء أجده أمامي عندما أدخل بيته... ولماذا هذا العنف يا صديقين كن هادئا حتى تتمتع بلحظات مع أمك ؟ لا أستحمل رؤية أمي وهي تنام مع هذا الخنزير. أعرفه جيدا. لقد ترك زوجته وأطفاله من أجلها. شرد عائلته قبل أن يمزق عواطفي. إنه حيوان...في ليلة من ليالي العزلة القاتلة قررت أن أخرج مع ميخائيل. كنت أرغب في محاورته. اعتقدت أنه يملك معنى مفقودا. تجولت معه في كل الأحياء المجاورة ليدخلني بعدها إلى مرقص عجيب يدعى Chez Jacques. خاطبته ضاحكا: هل هناك من نساء جميلات في هذا المرقص العجيب ؟ هذا مكان يمكن أن تلتقي فيه مع من تحب...فكرت في مكان للعشاق و محبي الهوى المفقود هناك، أيام بار طنجة و الخليفة أحمد واللائحة طويلة.عندما دخلنا إلى هذا المكان الهادئ، كان صاحبنا متخشعا وكأنه يفتح أبواب الكنيسة. رأيت البارمان وهو ينظر إلي باستغراب.امرأة ورجل غزا الشيب رأسيهما، كانوا بجانب الكونطوار يشربان البيرة بمتعة عالية. وسط القاعة هناك ثلة من العجزة الذين أتوا كي يقهروا شبح الموت. جلست قرب امرأة كانت تتنهد كثيرا وهي تشرب كأسها شبه الفارغ. ناداني البارمان: هل تريد أن تشرب شيئا ؟ نعم...فقط كوكا كولا .وأنا أتحدث مع البارمان كانت العجوز تقترب مني ثم قالت لي بصوت يشبه صوت جارتنا الضاوية التي ضربها زوجها بمطرقة حتى لفظت أنفاسها: لماذا أتيت إلى هنا ؟سؤال غريب لم يطرح لي من قبل هناك، في بلاد المنافقين الذين لا يطرحون السؤال على شخص حتى يطمعون في شيء عنده..حياتهم كلها مصالح!أجبتها مترددا: لا أعرف... نعم أربد أن أستريح... وكيف ستستريح وأنت رفقة المتقاعدين و العجزة. هذا البار لا يدخله الشباب الوسيم مثلك. بدأت روح الهلع تتربص بي. أحسست بقشعريرة تسري في بدني و قلت لها: لكن إلى أين سأتجه الآن ؟لم تبالي بكلامي و كأنها لا تسمع. شربت ما تبقى من كأس البيرة الكبير. لحظات ، ثم أجابت بصوت جد خافت: أبحث عن حانة أخرى يدخلها الشباب. هناك مرقص ليلي يوجد وراء هذه الحانة و يدعى بوكارد.لم أكن أعلم أن هذا المرقص يلقبونه عرب مدينة كيبيك بالبقرة. لم أفهم معنى هذا اللقب الغريب في بلد الغرباء. عندما سألت أحد المترددين على هذا الفضاء قال لي بالحرف الواحد:اللي بغا البزازل ديال القحاب لليلة واحدة، فهذا هو المكان...لقد أراد أن يشبه ثدي المرأة بضرع البقرة !آه، عندما نحرم من ثدي الأم وقبلة اليد...تحدث الفواجع. دخلت المكان، وجدته مطوقا برجال الأمن الداخلي. سألت نفسي: هل أنا بمخفر للشرطة؟ علمت بعدها أن هؤلاء يحرسون النساء من وحشية الرجال. كل الرجال يطوفون كالثعالب حول مؤخرات النساء. ينظرون و أفواههم مفتوحة، أعينهم جاحظة تتحرك بنفس الوتيرة التي تتحرك بها نساء فعل الزمن فعلته في أجسادهن.آه ،من عالم الهوى وحب كيبيك المفقود و غربتي عن الحق. فهمت جدا أن من يريد أن يعوض القبلات الشاردة أو حب ضائع تركه بوطنه ما عليه إلا أن يلجأ إلى هذا المرقص الليلي. الكل هناك يبحث عن فريسته. الجنس محرك لهذا العالم...إنه لا يرحم كالإعصار.داخل مرقص البقرة سمعت أغاني ساحرة، ضحكات و قهقهات لا تنتهي و حب للمجون في أحلى صوره. من يتبع هذا المنوال يصاب بالذهول. ليس من السهل مطاردة الأجساد الليلية و بائعات الهوى. الكثير من الرجال الذين يرفضون هذه المغامرات الشيقة فيظهرون تقواهم، لأنهم لا يقدرون على تحدي الجبال. أن نضحي بخصوبتنا من أجل وردة محكومة بالاحتضار، معناه أن نلعب على الحبلين كالبهلوان. كنت هناك، في مكان صاخب، أتكأ على كرسي طويل و عريض بجانب أفخاذ بنات عاريات، أشاهد عالما يتجاوز ما سمعته عن بلاط هارون الرشيد. كنت لا أتكلم إلا لغة الرموز. قضيت ساعات دون أن ألمس جسد ترامت أطرافه علي أو أن أقبل فم امرأة مطلي بأحمر الشفاه وسال لعابه على قميصي.عدت من حيث أتيت إلى تلك الحفرة المظلمة والتي أصبت فيها بأرق دام شهورا عديدة عشت خلالها مغامرات أغرب من الخيال.محمد نبيل صحافي و كاتب مقيم بألمانيا