«كل شيء فيها يقودني نحو العشق والتناغم والرغبة والتوحد والفناء» (الرواية، ص.150) «عندما نختلف على شيء ما، يلزمنا أن نتعانق بقوة» (الرواية، ص.217) «التمتع! هل جُبل هذا المصير من أجل الإنسان؟ آه، لو كنت ذقت ولو مرة واحدة في حياتي كل متع الحب في امتلائها، فأنا لا أتصور أن وجودي الضعيف سيكون قادرا على الاكتفاء بها، إذ سأكون قد مت على الفور!» (جون جاك روسو). استهلال هل هي محض مصادفة؟ عندما دنوت من نهاية «عرق الآلهة»(1)، وبالضبط في اللحظة التي غادرت فيها حنايا فندق دانييلي الكائن ب «ريفا ديجلي شييافوني بمدينة فينيزيا الإيطالية» تاركة وراءها شمسان، بعد أن منحته جسدها، في حالة ذهول وتساؤل، يتلوى على السرير كوحش جريح، راودتني فكرة إعادة قراءة الرواية من الأول لمعرفة أسباب وصل وفصل العلاقة، بين حنايا وشمسان، بعد زمن من الحنين إلى جسدها. كنت حينها في حانة «أرسين لوبين» بشارع جارانتي بنك بإستانبول، أرتشف ال «راكي» (نوع من الباستيس المحلي، ويطلق عليه أيضا «أصلان سوتي» أي شراب الأسد) في بداية المساء (الحرارة في الخارج، لكن الحانة دافئة بفضل التهوية).. جاء النادل ووضع على مائدتي طبقين يحتويان على: سلطة تركية، صلصة الثوم والطماطم، شرائح الخيار والنقانق، بلح البحر، و... وفجأة، لمحت امرأة تجلس وراء المائدة المقابلة لي، تمسك بأنامل يدها اليمنى ساقا سامقة لكأس مليئة بالنبيذ. بدا لي أن ملامحها ليست غريبة عني، خاصة ملابسها: «فستان حريري أبيض، من ماركة «كينزو» تتخلله بعض النقوش الفيروزية التجريدية الأنيقة... شعرها الكستنائي الفاتح، حديث التسريحة كأنها خرجت للتو من صالون كوافير...». أكيد أنني أعرفها (ربما)، ولكن متى وأين شاهدتها أو التقيتها؟ ولست أدري لماذا، حينما تطلعت بوجهها جهتي، خيل لي أني أرى ملامح وجه امرأة أخرى في محياها؟! وجهان في وجه واحد، والثغر كذلك واحد. كن يا شمسان فردوس وحنايا شمسان: شمس تشرق من قلب المحيط الهندي لتغرب في حضن المحيط الأطلسي، وشمس تشرق من قلب المحيط الأطلسي لتغرب في حضن المحيط الهندي. شمسان تلتقيان افتراضيا في «بقعة جغرافية ميثولوجية تتوحد فيها أمواج الأول الدافئة (المحيط الهندي) مع أمواج الثاني الباردة (المحيط الأطلسي)». شمسان يتقاربان حينا ويتباعدان حينا آخر، وحين يلتقيان يصاب الكون بالهذيان من شدة انصهار الروح بالجسد. الكاف والنون في أول لقاء بينهما. لقاء يستحيل عرضه مرة أخرى على شاشة الطبيعة أو شاشة الكمبيوتر.. ومع ذلك ها هو بقوة حضور الشعر يتجلى، ذلك لأنه «ليس ثمة شيء حقيقي في الكون إلا الشعر، كل ما عداه صنيعة الخيال»(ص.99). الشعر يصل ويفصل بين المتشابهات والمتناقضات، ولكنه يعيد الوصل بعد الفصل. العلم كذلك يصل ويفصل. أليس هو الحد الآخر للشعر؟ المسافة بينهما مليئة باللزوجة والثقب الماصة للخطوات، وعبورك إلى هذا الحد أو ذاك يضعك أمام حالة طوارئ دائمة يفرزها الدماغ: «مليارات الأنفاق والسراديب والممرات والقنوات التي تعبرها ملايين المليارات من النمل بسرعة جنونية»(ص.45). ولأن شمسان في اللغة العربية مثنى «شمس» (المجرة النارية التي تسبح في فضاء الكون)، ولأن شمس اسم يطلق على بعض أفراد جنس الإناث من البشر، فإنه في الرواية يلبس، إضافة لهذه المعاني، الحالة المدنية والعاطفية للبطل الذي يموت لذة في جسد فردوس ويحمل بركانا قابلا للانفجار في أي لحظة في جسد حنايا. هذا الحب الكائن في شمسان/ البطل لفردوس وحنايا هو سر (ربما) هذا الاسم الذي اختاره والد البطل لابنه: «أتساءل أحيانا لماذا سماني والدي: شمسان، اسم الجبال البركانية القابعة في شواطئ خليج عدن...»(ص.146). العرق تتهلل الروح فرحا حين يُرعشها رحيق النبيذ، وتزداد انتشاء حين يتفصد الجسد عرقا وطربا بهما (الروح والنبيذ). هذه الروح سارية في «عرق الآلهة» منذ إطلالة فجر الحكي إلى مستهل غسقه، ومن ثمة إلى دخوله في غفوة الصحو تارة، ويقظة السكر تارة أخرى. نبيذ سانت إستيف، نبيذ بومرول، نبيذ سانت جوليان، رحيق خمر السانسير ومذاق الزبيب في قطعة الشوكولاطة، الشامبانيا، أبيوم سان لوران، رائحة جسدها الذي هدهده حراك الرحلة... ترتشف الشفاه العرق المتعدد الأسماء، ترضعه من أثداء نساء يخترقن حجب الغيب، تتجرعه ليس كما تتجرع الماء. رضاب يلمع، تعكسه مرآة مصقولة بألوان الغسق. «ها هي في أحضاني، كائن من الموسيقى والعطر. عرق الآلهة. (لعل هذا أفضل تعريف لها)...»(ص.152). في «عرق الآلهة» تزول الفوارق بين فردوس (الزوجة/ الشاعرة) وحنايا (العشيقة/ العالمة)، فكلتاهما حد للأخرى، وكلتاهما تتحرك باتجاه الأخرى، وشمسان (عاشقهما) يمارس بينهما، جيئة وذهابا، فعل الحضور وفعل الغياب. هو عرقهما، وهما حوضه الذي يغتسل فيه. مع فردوس يكون الاغتسال بلغة الجسد، ومع حنايا يقتصر الاغتسال على لغة الروح مع إرجاء اتحاد الجسد بالجسد إلى حين. يتفصد شمسان مع فردوس عرقا، فهما في السرير يصبحان كتلة سحرية واحدة، يصلان إلى الأورغازم: «السرير بالنسبة إليه (م) ا لحظة خشوع للاحتفال بالحواس، قصيدة عضوية حرة، لغة بيولوجية ترفد لغة الروح، تهيج دورتها الدموية...» (ص.16). ويتفصد شمسان عرقا مع حنايا بفعل اشتباك شفاههما، يتنافسان في التقبيل والمص وارتشاف الريق وموسقة اللسانين والارتواء حتى الثمالة.. الثغر هو منبع ريقهما وعرقهما الإلهي.. يمارسان في حضرته طقس إراقة الخمر إكراما لجمال الحياة المرعب.. ويعي شمسان، في هذه اللحظة بالذات، أنه شبيه بفرعون مصر القديمة العارف بأن السفر إلى الإلهة أوزيريس شاق جدا، يحتاج إلى المزيد من إراقة الخمر لكسب القوة والشجاعة واللذة. الآلهة «في عيني حنايا الإله يختفي في الرياضيات. الكون ماكينة رياضيات. الفضاء، الزمن، الضوء، المادة، الحركة، القوة، الروح... كلها كائنات رياضية تموسقها أنغام رقمية إلهية... في عيني فردوس الإله يتجلى في «السر الذي لا تستطيع أي معادلة رياضية ترجمته أو التعبير عنه»: الجمال... تسأل فردوس: أية معادلة رياضية تستطيع ترجمة جمال ابتسامة طفل، سكرة قبلة العشق، سحر خرير الشلالات والينابيع الجبلية، موسيقى الغروب في سماء صحراوية عميقة الزرقة؟» (ص.26). فردوس تنهل حياة إلهها من الشعر، وحنايا تؤثث دماغ إلهها بالعلم، وشمسان يروح ويجيء بينهما منتشيا بكل ملذات الدنيا، واقعيا وافتراضيا. وعبر هذا الثلاثي تنكشف بعض أسرار الحياة البائدة والحياة الافتراضية. إنه عمل برنامج اسمه «الفيلسوف، كاشف الأسرار»، يكون طرفا المد والجزر فيه: السارد/ البطل شمسان ومعشوقته حنايا/ فردوس، وتبقى الروح عالقة بين هذين الطرفين... ويتذكر شمسان «والشعراء يتبعهم الغاوون»، وتسري فيه «رغبة هائلة عنيفة لفردوس»، ويتوحدان معا برقة وضراوة. جسد فردوس بالنسبة لشمسان، أثناء الضم والتوحد، إله لا يماثله إلا ثغر حنايا: «عيناي، أنا، لا تتوقفان عن تصويب النظر نحو ثغرها وهي تقرأ. نظراتي تلتهمه بصمت. كم أعشقه! أقضي أحيانا، ونحن ندردش في السرير أو المطعم، وقتا طويلا أحدق بدون وعي في جمال شفتيه الورديتين، في بهاء أسنانه البيضاء الناصعة البديعة الانتظام والشكل، في انسياب صوته ذي الرنين العسلي...» (ص.76). الآلهة في «عرق الآلهة» نوعان: لامرئية كان سبب بزوغها «القلق الوجودي والرعب أمام الدمار والموت»، وصار الإنسان يملأ بها كل الثقوب المعرفية؛ ومرئية تتمثل في روح وجسد المعشوق: كل عضو يأخذ مرتبة إله، ويتماهى معه المعشوق الفاعل أو المعشوق المنفعل لدرجة تصل إلى الأكل والشرب، على حد تعبير الشاعر «ولو خلط السم المذاب بريقها (أو ريقه) وأسقيت منه نهلة لبريت». والآلهة أيضا حسب برنامج الحياة الاصطناعية في الرواية «أصنام تؤثث كل بقاع العوالم الافتراضية، تملأ الأرض، تختلف من إقليم لإقليم. تمثال الإله في بعض البقاع أم ضخمة بثديين هائلين يتناثر حولها الأطفال مثل الجراد. تمثاله في بقاع مجاورة أب قوي، ذكره أبدي الانتصاب...» (ص.206). وتماثيله في حياتنا الافتراضية أصبحت هي أيضا افتراضية تمارس عنفا مضاعفا رهيبا على الجسد وعلى الروح، ذلك لأنه أخذ أشكالا أبعد من المرئي واللامرئي، لقد صار مشحونا في الكبسولات ومضغوطا في الأقراص المدمجة، والأشكال الأخرى الآتية في الطريق. غشاء البكارة «بوبو»، الاسم اليوناني للحياة والتمثل النيتشوي لها كامرأة: «حياة كسطح، ظاهر لا يحيل إلى أي واقع أكثر عمقا، لكنه يحاكي العمق: وراء طلاء صباغة نجد طلاء آخر للصباغة، وراء كهف هناك كهف آخر (غار). لا سطح ولا عمق، وحده «منطق» غشاء البكارة يسمح بمباشرة هذا العمق...»(2). هكذا كانت حنايا في بداية الحكي إلى حدود انتهائه في «عرق الآلهة»، منغلقة لا تمنح شمسان إلا القبل الحارة والضارية، وحين تتأجج رغبة الجسدين يطفو السر الكامن في عمق حنايا على السطح ليمنع اتحاد العاشقين. هذا المنع الصادر من حنايا تجاه الولوج لتحقيق انصهار الضدين هو ما جعل السرد ينحرف ليفسح المجال للاحتفاء بالثغر أثناء القبلة: «في بدء البدء كانت القبلة (...) في بدء البدء كان الثغر، استنشاق الآخر، تذوق نسغه، شرب شهقاته، تنفس همساته، التهام جسده... (...) القبلة: عشق يحترم مبدأ «التماثل الهندسي»، إدغام جسدي كامل التطابق، كلا العاشقين مرسل ومستلم في الآن نفسه. تمتص لسانها وتمتص لسانك بنفس العذوبة والنهم والعطاء والتكافؤ والتناغم والشبق الدائم...» (ص. 56). منع ولوج حنايا لشمسان إليها كان في الحقيقة خاضعا لمنطق الإرجاء، ذلك لأن القبلة العنيفة والضارية بين رجل وامرأة (عاشقين) لا يمكنها إلا أن تحقق مبتغاها، خاصة إذا تكررت. القبلة جسر يصل ويفصل، يصل بين ضفتين ويفصل بينهما في الوقت نفسه. الماء.. ! أجل الماء.. العنصر/ الطبيعة الذي له خاصية الوصل بين الضفتين، بين الشفاه. الماء هو الفسحة حيث تتبلور أنواع من الشق وأماكن نفسية (3) تقاوم الترسبات التي تدفع حنايا لكبح جماح شهوة شمسان كلما هم بها أثناء القبل الضارية في لقاءاتهما بباريس وميونيخ وروما ومدن أوروبية أخرى. كان لابد من الماء لتطفو الكتلة السحرية التي تكمن في أعماق حنايا.. لذلك كان اللقاء الأخير بين العاشقين في مدينة فينيزيا (البندقية، الاسم الذي لا يطيقه شمسان لأنه يحيل على السلاح). فينيزيا مدينة العشق والشعر والفن.. مدينة تحيا وتتنفس بالماء وفي الماء.. في فينيزيا ستنهار تلك الجملة الكابحة لتمتع العاشقين بجسديهما معا.. الجملة التي تتلفظ بها حنايا كلما هم بها شمسان («لو سمحت!») (4).. والتي تعني غادر من فضلك غرفتي فورا انتهى أمرها في حضن الماء، في فينيزيا. ما كان يرجأ إلى حين بسبب «خريطة الطريق» و»الأسلاك الشائكة» التي كانت حنايا تحيط بها جسدها أمام رغبة شمسان في الولوج إليها، أصبح قابلا للتحقق. كان فعل الإرجاء (5) يؤجل فعل تشتت اللذة الكامن في حنايا (أو ما يمكن أن أطلق عليه الكتلة السحرية).... «بقعة دم على السرير»(ص.154)، هذا ما لاحظه شمسان بعد شلال الرغبة الذي رفض أن يتوقف في تلك الليلة الفينيزية المتضمخة برائحة العشق: قبل وعناق وولوج وانتقام من الماضي وانتصار على «عاصمة الكبت والجلافة»، وعدم الاغتسال من آثار العشق لمواصلته من جديد. «بقعة دم على السرير» أثارت دهشة شمسان وأعادت إلى ذهنه حكايات وأوهام غشاء البكارة (6) . «بقعة دم على السرير»: علامة مزدوجة حققت الاتحاد وأنهت العلاقة في الوقت نفسه. ها نحن، إذن، مرة أخرى أمام سر غشاء البكارة، حيث لا وجود لعمق ولا وجود لسطح أيضا. فن السفر العلاقة لا تكون إلا بالسفر في اتجاه الآخر.. والآخر يكون دائما مسكونا بالحنين إلى آخره.. هذا هو قدر الكائنات مهما كان جنسها، أنثى، ذكرا أو خنثى... وقدر شمسان كامن في آخره المزدوج (فردوس: الرغبة المحققة، وحنايا: الرغبة المؤجلة). متى تخالج الواحد منا فكرة السفر؟ عند اتخاذنا القرار بالذهاب إلى مكان ما؟ عندما نحزم حقائبنا ونأخذ ما يلزمنا من حاجيات؟ لا أعتقد أن هذا هو الدافع للسفر، ذلك لأن هناك لحظة مميزة، موسومة، تاريخ عيد ميلاد، حركة موقعة للبدء: ما أن ندير المفتاح في قفل الباب، ونغلق المنزل تاركينه وراءنا.. في هذه اللحظة بالذات يفتتح السفر أبوابه ...(7) . منذ البداية يخترق السفر «عرق الآلهة».. سفر ما بين حبين، سفر في الأمكنة والأزمنة، سفر في الواقعي والافتراضي، سفر في الذاكرة والنسيان، «سفر بأعلى من سرعة الضوء لرؤية الماضي في صيغته الأصلية(!) لرؤية ما حدث يوما في ضواحي البدايات!» (ص. 130 ). وعلى عكس العصر الراهن الذي يتم فيه التخلي شيئا فشيئا عن الذاكرة، نجد الأمر يختلف تماما في «عرق الآلهة»، لأنها (أي الرواية) تحفر في أخاديد الذاكرة من خلال هذا السفر المتعدد عبر ممارسة الحب المزدوج. يكشف السفر في «عرق الآلهة» ما توارى من الحياة الماضية وما يجري في الحياة الافتراضية، يضعه أمام ناظري شمسان بالأرقام وبأدق التفاصيل الصغيرة، الظاهرة منها والباطنة. ها هي (الحياة) تبلل رمل الشواطئ الشاهدة على هدوء وعنف العشق والشبق. ها هي بكل جزيئياتها تظهر على شاشة الكمبيوتر منذ أول الخلق، وبداية العلاقة بين الجسد والروح، وصراع الإنسان مع قوى الطبيعة، وخوفه منها، والتغلب عليها، وانهزامه أمامها، وبداية ابتكار الأوهام، وتربع الآلهة على عرش الكون، واستقالتها، وإعادة تنصيبها من جديد في وضعيات وأشكال أخرى متشابهة مع سابقاتها أحيانا ومختلفة عنها أحيانا أخرى... كاشف الأسرار يضع شمسان أمام الأزل والعدم، أمام العشق الجنوني للسفر مع فردوس ومع حنايا، وأمام جغرافيا بشرة الجسد الأنثوي. في السفر باتجاه الآخر (آخرنا) نكتشف هوية الأنا في العمق وفي الصميم، في الفرح وفي الألم، في النور وفي العتمة. ذلك لأن «مركز الهوية هو جسد وبدن المسافر: حساباته، كليتاه، مرضه، تعبه، استحماماته، مشروباته، غذاؤه، نومه.. وحول كل هذه الأشياء ينتظم العالم، يمنح نفسه للمشاهدة، يتمظهر وينحكي...»(8). السفر، في «عرق الآلهة» كان دائما باتجاه الأمام حتى وإن كان في الماضي أو في الذاكرة. هذا هو قدر شمسان الذي تركته حنايا مسافرا في ثنايا يومياتها، وخرجت هي مسافرة بجسدها الذي فك عنه قيود الماضي وأسلاكه الشائكة. اليوميات: نهاية العلاقة لم تكن حنايا تنكمش على جسدها مع شمسان كلما حاول الولوج فيه، ولكن كانت أيضا تنكمش على ماضيها الذي حرصت على ألا تبوح به لعشيقها أثناء لقاءاتهما السرية في عدد من المدن الأوروبية. كان شمسان يتوق بكل عنف إلى ضم جسد حنايا كليا، وكان هذا التوق يتأجل في كل لقاء.. وعندما حملت له في تلك الليلة الفينيزية جسدها ومنحته إياه، منحته أيضاً يومياتها التي بدأ شمسان يقرأها بلهفة لا تضاهيها إلا لهفته السابقة لها. تدخل اليوميات في باب السرية والحميمية، لذلك تبقى في غالب الأحيان بعيدة عن الغير، وإذا حدث وسقطت في يد آخر غير صاحب (ت ) ها تتحول إلى لعنة، خاصة إذا كان هذا الآخر عاشقا أو عاشقة. وهذا بالضبط ما كان مع شمسان، فما أن أعطته حنايا يومياتها حتى صار ارتباطه بها أكثر من ارتباطه بجسد حنايا. صار همه هو فك طلاسم ما جاء في اليوميات من علاقات بالآخرين والاستفسار عن مدى قربهم أو بعدهم عن معشوقته. وهنا بدأ الفعل المضاد لليوميات، فهذه الأخيرة تتعارض مع الضوء، تماما كما يتعارض الظاهر مع الحقيقة. بدأت قراءة يوميات حنايا تمارس على شمسان فعل الموت (موت علاقته بها).. فهل صحيح أن القراءة تحمل هي أيضا ذاك الدواء المضاد التي تحمله الكتابة: الفارماكون(9). شيء ما داخل شمسان كان يحثه على الاستمرار، رغم أنه يعرف أن اليوميات محظورة على الغير ولا ينبغي التلصص عليها.. شيء أفقده السيطرة على نفسه، وجعله غير مبال، كما في السابق، بحنايا وبما تحكيه حنايا عن السيرة الذاتية للآلهة. انقلب البصر عن جسد المعشوقة ليستقر على سيرتها الذاتية ولاوعيها الدفين: «أدركت منذ بدء قراءتها أن حنايا كتبت هذه اليوميات لها وحدها، أفضت فيها كل ما يختلج في نفسها ولاوعيها الدفين! عبرت فيها في كل فقرة، بوضوح ونقاء، عن أعمق أحاسيسها وأدقها! ها أنذا إذن، عبر المنشور الضوئي لهذه اليوميات، أشاهد ألوان طيف كل لحظة هامة من حياة معشوقتي الخالدة، أرى أقبية روحها تتجلى تحت الأضواء الساطعة، أراقب رعشات وخلجات وتذبذبات وتصادم الجسيمات الذرية الأولية لمشاعرها ورغباتها الصغيرة...»(ص.199). لقد تحول شمسان من عاشق إلى ضابط استخبارات ينبش الجروح القديمة في حياة معشوقته، ويتمادى في ذلك لدرجة لم يعد فيها «التماثل الهندسي» بين جسده وجسد حنايا يهمه. صارت اليوميات خريطة الطريق بينه وبين حنايا.. وها هو العشق الذي بدأ في فينيزيا ينتهي أيضا في فينيزيا. أضحى شمسان وحيدا في غرفة فندق دانييلي.. «شخص بلا وجه، لا يستحق أن تضاء له شمعة واحدة».. «وحيد كحيوان، وحيد كإله!». هوامش: (*) كتبت هذه الشذرات في صيف 2010 بين إستانبول وروما. (1) عرق الآلهة، رواية، حبيب عبد الرب سروري، منشورات الكوكب رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى: مارس 2008، بيروت، لبنان. (حبيب عبد الرب سروري، روائي وشاعر يمني، بروفيسور منذ 1992، أستاذ علوم الكمبيوتر في قسم الهندسة الرياضية، المعهد القومي للعلوم التطبيقية وجامعة روان في فرنسا). (2) مدخل إلى فلسفة جاك دريدا، سارة كوفمان وروجي لابورت، ترجمة إدريس كثير وعز الدين الخطابي، منشورات إفريقيا الشرق، الطبعة الأولى: 1991، الدارالبيضاء، المغرب، (ص. 93). (3) يتعلق الأمر هنا بمفهوم الأثر، كما حدده المفكر الفرنسي جاك دريدا. فالأثر يخفي أكثر مما يظهر. إنه كتابة ومحو في الوقت نفسه. «الأثر ليس الكتابة بعد، مثلما أن وسط الشق ليس بعد فسحة مرموزة» (مدخل إلى فلسفة جاك دريدا، ص. 92). (4) «عانقتها بحرارة وتكهرب. تصورت أن كل أحلامي بالاتحاد بها ستتحقق الآن، في هذه اللحظة! أيقنت أن كل هذه اللذة المؤجلة حتى إشعار آخر ستتفجر بعد لحظات. عبثا.. مسامير خريطة الطريق ثابتة لم تتزحزح عن مواقعها سنتيمترا واحدا. كان مع ذلك عناقا طويلا شديد العشق والإثارة. لم تنهيه إلا هذه الرصاصة القاتلة: «لو سمحت!»... (عرق الآلهة، ص. 236). (5) لا يمكن للإرجاء إلا أن يولد انحراف الرغبة، وهذا ما جعل شمسان يتساءل حول امتناع حنايا: «أهي سادية (لا أعتقد)؟ أنانية (لا أظن)؟ أتعشقني حقا (لست أدري، ربما، أتساءل...)؟ أتلعب أمامي دور إمبراطورة، أو فينوس، أو إلهة أنثوية تريدني أن أدفع ضريبة كل خطايا رجال العالم، تعاقب عبري «حمران العيون» من البشر، تثأر من نهبهم، شراهتهم، فظاظتهم، نزعتهم للاغتصاب؟...»(عرق الآلهة، ص. 33). التأجيل هو أحد معاني الاختل (ا) ف كما حدده جاك دريدا. التأجيل والتباين، وهما معا يتمثلان في شخصيتي حنايا وفردوس. (6) «مجرد ذكر هذا الغشاء يعيد في ذهني القصص التي سمعتها عن أولئك الذين يبدأون، قبل المجامعة، بتفتيش الفخذين بالمصباح الكهربائي للتأكد من الوجود الفعلي، غير الاصطناعي، وغير القابل للشك أو التأويل، لذلك الغشاء! أو أولئك الذين يقيسون رجولتهم بعنف خوضهم معركة تمزيق غشاء البكارة، ومقدار انهمار سيل الدم، وعمق وثخونة الجراح التي يخلدونها..» (الرواية، ص.155/156). (7) نظرية السفر: شعرية الجغرافيا، ميشال أونفراي، منشورات المكتبة العامة الفرنسية (كتاب الجيب)، الطبعة الأولى: أكتوبر 2007، باريس، فرنسا، (ص. 37). (8) نظرية السفر: شعرية الجغرافيا، ميشال أونفراي، منشورات المكتبة العامة الفرنسية (كتاب الجيب)، الطبعة الأولى: أكتوبر 2007، باريس، فرنسا، (ص. 81). (9) «الفارماكون لفظة غامضة، فهو يعني في الوقت نفسه الدواء والسم. وما دامت الكتابة مشابهة للفارماكون، فإنه يتعين الحذر من هذا الدواء القابل دوما للتحول إلى نقيضه...»، (مدخل إلى فلسفة دريدا، ص. 17).