علمتنا التجربة أن الخطاب الرسمي بخصوص الخوصصة غالبا ما لا يعطى الانطباع أن الأمر يهم تجميع الشروط لعرض هذه المؤسسة أو تلك للبيع، إذ يتم الاكتفاء على أن القضية لا تعدو أن تكون مجرد إعادة الهيكلية أو ترتيب جديد ل "المطبخ الداخلي"، بغية العصرنة أو التحديث لتحسين الأداء لمواجهة التحديات الجديدة لتبويء المغرب المكانة التي تليق به على الصعيد الجهوي والعالمي. "" ويقول الكاتب والباحث الاقتصادي يحيى اليحياوي إنه قول حق أريد به باطل. فهل حالة المكتب الشريف للفوسفاط، ستمر هي كذلك من الطريق التي مر منها الإعداد القبلي لعرض مؤسسات للخوصصة، قيل سابقا إنها استراتيجية وحيوية، ولا يمكن أن تفرط فيها الدولة، لكن في نهاية المطاف عرضت للبيع في المزاد العلني في إطار استراتيجية لم يكن معلن عنها في الخطابات الرسمية السابقة لخوصصتها؟ وهل كل ما يقال حاليا بصدد المكتب الشريف للفوسفاط هو من "باب تلويك الكلام والضحك على الذقون"؟ هل الدولة تعتزم إعداد الظروف لخوصصة المكتب الشريف للفوسفاط، فكيف تقيمون هذه الإجراءات؟ عمليات الخوصصة غالبا ما يتم التمهيد لها بخطابات طمأنة، لا تعطيك الانطباع بأن ثمة نية في بيع جزء من رأس مال شركة ما، بل يتم الترويج لها بادعاءات من قبيل "إعادة الهيكلة"، و"عصرنة البنى التحتية"، و"إعداد المؤسسة لمواجهة تحديات المنافسة الدولية"، و"تحرير السوق"، وقس على ذلك. وهذه الادعاءات هي التي غالبا ما نجدها بالورقة التقديمية لمشروع القانون أو بديباجته. هي قول حق أريد به باطل، والذين يصيغون الورقة التمهيدية يعلمون ذلك، ويصيغونها بأسلوب يحس المتخصص بغاياته المضمرة لأول وهلة، وأزعم أن الذين يصيغون هذه الأوراق، هم ذاتهم الذين يصيغوا أوراق المراحل القادمة. بخصوص حالة المكتب الشريف للفوسفاط، نحن إزاء مشروع قانون قدمته الحكومة على لسان وزيرة الطاقة والمعادن والماء والبيئة، قالت بلجنة المالية بالبرلمان بأن عملية الخوصصة مستبعدة، وأن الأمر لا يتعدى تحويل المكتب إلى شركة مجهولة الإسم بمجلس إدارة، بمعنى أن المكتب سيتحول إلى شركة مساهمة عمومية، وأن الدولة ستستمر في ممارسة الرقابة عليها، وأن المساهمين محصورون قطعا في المؤسسات العمومية وبمقدمتها صندوق الإيداع والتدبير، ثم أن العقود المبرمة مع المؤسسات الأجنبية ستبقى سارية المفعول كما كانت لحد صياغة المشروع وبعد اعتماد القانون أيضا. إلى هنا ليس ثمة إشكال كبير، شريطة أن تخضع المؤسسة للتدقيق، ويُعمَد إلى تقييم أساليب التسيير، والنظر بدقة فيما إذا كانت الإجراءت المعمول بها خاضعة للقانون. فالمؤسسة ليست عادية، والقفز على كذا قضايا هو أمر لن يغتفر بالمطلق، سيما وقد سمعنا بوجود صناديق سوداء، وبعجز في موازنة التقاعد وهكذا. التخوف كل التخوف، هو الانتقال للمراحل اللاحقة، وهي آتية لا محالة بعد عام أو عامين. مَن يضمن ألا تطلع علينا الحكومة بقانون بفتح رأس مال المؤسسة للرأسمال الخاص، والأجنبي دون شك؟ لا توجد هناك ضمانات. بهذه النقطة، أنا مستعد للقول بأن هذه المرحلة هي المقصودة حصرا، وإن الدفع الحالي بصيغ تمهيدية ليس إلا من باب تلويك الكلام، والضحك على الذقون. الخوصصة هي المقصودة، والصيغ الحالية هي تمهيدية ليس إلا. لقد قلت، من عشر سنوات، نفس الكلام عن اتصالات المغرب وصنفت ضمن المزايدين، لا بل عوقبت على مواقفي، وأنصفتني الوقائع، وتساميت عن إنصاف من كانوا خلف العملية. وقلت الشيء ذاته عن قطاعات أخرى كالكهرباء، وحذرت من مغبة تركها للخواص، وانظر ماذا فعلت الشركات الإيبيرية والفرنسية بالقطاع، وانظر مديونية المكتب الوطني للكهرباء. أنا أتساءل دائما: هل أعدم القطاع العام الكفاءات حتى نذهب للاستنجاد بالقطاع الخاص، والأجنبي مع الأسف؟ الغريب أن الذين ثووا خلف تسيير المكتب درسوا معظمهم بالغرب تقنيات التسيير، لماذا يعجزوا عن توظيف هذه التقنيات عندما يوضعوا على المحك؟ هذه مسألة لطالما طرحتها على التكنوقراط المغاربة (وكلهم بجنسيات أجنبية) الذين عاثوا بالمال العام فسادا بالتسيير، وبالاستصدار لمصالحهم الشخصية، وعندما يتأكد لهم أن صبيب الغنيمة أوشك على الانتهاء، رموا العظم بعدما نهشوا اللحم كالضباع الجائعة. هل من الضروري خوصصة المكتب الشريف للفوسفاط، علما أن القطاع الذي يقوم عليه حيوي و استراتيجي؟ بالاقتصاد الصناعي، تعلمنا أن خوصصة مؤسسة عمومية غالبا ما يأتي نتيجة إفلاس التسيير بها وفق منطق الاقتصاد العمومي، وأن تحويلها للقطاع الخاص إنما يأتي لإنقاذها من الإفلاس المحتمل. أما إذا كانت المؤسسة العمومية ناجحة، فلا مسوغ يذكر لتحويلها للقطاع الخاص. هكذا تعلمنا. وتعلمنا أيضا أن إفلاس مؤسسة عمومية ليس قدرا محتوما، بل هو من إفلاس القائمين عليها، الذين يحولونها إلى ضيعات شخصية لهم ولعائلاتهم ولأحزابهم. الغريب عندنا بالمغرب أننا لا نخوصص إلا المؤسسات العمومية الناجحة، في حين نترك التي لديها مشاكل إلى حين تغرق في الديون، ويتم بيع أملاكها أو ما تبقى منها بالقروش الرمزية، درهما كان أم دولارا. والحالات عديدة هنا، لعل الاتصالات تكون إحداها، مرة أخرى، وإلا فقل لي ماذا حملت فيفاندي من قيمة مضافة للقطاع؟ إنها لم تحمل شيئا يذكر، حتى النقال الذي يدر أكثر من 90 بالمائة من المداخيل ليس من صنعها، ولا من تصميم مهندسيها. لم يعد المحك في العملية القول بحيوية أو استراتيجية قطاع ما. المحك هو أن لوبيات وأصحاب نفوذ كبار بالداخل والخارج، باتت مصالحها المباشرة أكثر حيوية واستراتيجية من الاقتصاد الوطني أو المصلحة الوطنية العليا أو ما سوى ذلك. أنا أتصور أن المعايير ومنظومات القيم تغيرت بالعمق، ولم يعد أحد يبالي بكلام، كالوارد بسؤالك، لا بل إن بعض الفرق البرلمانية تعارض، لكن سرعان ما يأتيها الخبر اليقين فتصوت بالإيجاب على ما كانت باللجن تعتبره غير قابل للتفريط، وبأحسن الأحوال لا يأتون للبرلمان إلا لتفادي الإحراج. للتذكير فقط، فقد صوت لفائدة خوصصة الاتصالات 11 بالمائة من عدد "نواب الأمة" نهاية تسعينات القرن الماضي، والذين راهنا على تصديهم للنص خذلونا، بما فيهم النقابات "التقدمية". ما هي الانعكاسات الايجابية و السلبية لخوصصة المكتب المذكور، سيما في المجال الاجتماعي؟ التاريخ بهذه النقطة سيعيد نفسه أيضا. سيعدون المستخدمين بعدم المساس بوضعيتهم، ثم عندما تخوصص المؤسسة، سيسقط هؤلاء تلقائيا بمنطوق قانون الشغل، ثم يعمد إلى تصمم اتفاقية جماعية على المقاس، يُبتزّ المستخدمون للانصياع لها قسرا، بعد ذلك ستبدأ مسلسلات إعادة الهيكلة، والمطالبة بتخفيض نسبة الشغيلة، وعدم تعويض المناصب المحالة على التقاعد، وقس على ذلك. الأمر لا يتطلب كثير اجتهاد، السوابق موجودة، تحتاج إلى بصر فقط وليس إلى بصيرة. ما يحز في النفس أن النقابات باتت تتماشى مع الحكومة في حلها وترحالها، لا بل قل إن النقابيين باتوا يباعون ويشترون كما بسوق النخاسة، فيوقعوا على "تفاهمات" مقابل رشاوى ووعود بمناصب، وقس على ذلك. وأنا أعرف العديد من النقابيين باتصالات المغرب تحصلوا على امتيازات مادية وريعية معتبرة، مقابل إمضائهم أو سكوتهم. وسيأتي الوقت لأفضح بعضهم جهارة، لأنهم كانوا يبيعون الوهم للناس، وكانوا بالتزامن مع ذلك ينسقون مع الإدارة الترتيبات، لا بل كانوا يقومون بدور المخابرات على البريئين من النقابيين. ماذا ستربح الدولة و الشعب من هذه العملية؟ مرة أخرى أقول: إن الشعب مهموم بجحيم الغلاء، وليس لديه فكرة عما يرتب للمكتب الشريف للفوسفاط. أما الدولة فستحصل عند الخوصصة على مداخيل إضافية تسد بها عجز الميزانية، أو تدمجها ضمن "الاستثمارات" لتتباهى بالقول بأنها جلبت استثمارات من الخارج. العملية معروفة ومحسوبة سلفا.
هل خوصصة هذا القطاع من شأنه خدمة التنمية؟ لم أؤمن يوما بأن الإشكال إشكال طبيعة رأس المال، خاصا أم عاما. ثمة مجالات للقطاع الخاص باع كبير في تسييرها، وثمة قطاعات كبرى لا يمكن التفريط فيها، أو تفويضها لتخضع لمنطق الربح البارد، سيما إذا كان من شأنها رهن حاضر البلاد ومستقبلها. لهذا السبب، فأنا غالبا ما كنت مع التحرير للحؤول دون الاحتكار، ولم أتبن يوما سياسات الخوصصة، لأنها ترهن قطاعات استراتيجية وتخضعها للسوق، والسوق لا يعرف إلا مبدأ البقاء للأقوى حتى وإن أتى بجريرة ذلك على الأخضر واليابس. لحد الساعة، حالات الخوصصة والتفويض لا تبشر بخير، وأنا متخوف على الاستمرار بهذه السياسة. ومع الأسف، فهي التي توجه البلاد اليوم. سينتهي أمر مكتب الفوسفاط، وسيأتي دور الخطوط الجوية، وتتبع ذلك قطاعات أخرى. لست أدري إلى أين نحن ذاهبون؟