"" لماذا قرر القائمون ببلادنا خوصصة عدد كبير من القطاعات الحيوية؟ وهل كانت ضرورية أم مجرد اختيار؟ أزعم أن فهم مسلسل الخوصصة بالمغرب يستوجب الوقوف عند السياق العام الذي أتت في ظله وحكم صيرورتها وخطها الناظم منذ البدء، أي على الأقل منذ ثمانينات القرن الماضي وتحديدا منذ بداية تطبيق برامج التقويم الهيكلي التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية على المغرب كما على سواه من الدول. السياق هو ارتفاع المديونية الخارجية للمغرب وعجز الدولة على استنبات ظروف الاستثمار وتعذر إيجاد حلول بديلة لإخراج البلاد من وضعية الاختناق والاحتقان التي استتبعت تطبيق برامج التقويم. لم تكن المطالبة بتنحي الدولة في حينه جزءا من برنامج اقتصادي أو بحثا عن شروط العقلانية الاقتصادية فحسب، بل تحولت إلى جزء من إيديولوجية كونية (سيما في ظروف "انتصار" المنظومة الليبيرالية الجديدة) تقضم الأخضر واليابس دونما إيلاء قليل اعتبار لما قد يترتب عن ذلك. بدليل أنه لم يعد يشار إلى القطاع العام في جانبه المفلس أو المتجاوز، بل تحديدا في جانبه المربح، أي أن تحويل المنشآت العمومية للقطاع الخاص لم تعد محكومة بإفلاسها ولكن بمستوى ربحيتها ومغازلتها للرساميل الجوالة. ليس عندي أدنى شك في أن الخوصصة بالمغرب إنما أتت اساسا في سياق إفلاس الدولة المغربية وعجز النخب الحاكمة بما فيهم "المفكرون الاقتصاديون" على توفير البديل للخروج من حالة الإفلاس هاته أو على الأقل التخفيف من ضغطها. من جهة أخرى، فلما كان الاستثمار (سيما الأجنبي منه) يبحث عن مصادر للربح سريعة (ريعية أعني) فإنه لم يكن مستعدا للمجازفة في قطاعات مكلفة أو غير مضمونة النتائج أو مشكوك في مردوديتها، بل عمد إلى ولوج القطاعات ذات مستوى المجازفة الضعيف وفي مقدمتها القطاعات الشبكية من قبيل قطاعي الماء والكهرباء والاتصالات. وعلى هذا الأساس، فالمسؤولون المغاربة لم يقرروا ذلك، بل دفعوا إليه دفعا تحت ضربات إفلاس الميزانية وضيق ذات اليد ومحدودية الأفق. تسألني عن جانب الضرورة والاختيار في ذلك. أستطيع هنا أن أجزم أن الأمر لم يكن لا هذا ولا ذاك، إذ لم تكن المسألة محكومة برهانات اقتصادية كبرى من قبيل تحريك عجلة الاقتصاد أو إعادة إعداد التراب الوطني أو ما سواها، ولم تكن محكومة بمعطيات موضوعية (من قبيل الحاجة إلى فتح رأس المال للدخول في تحالفات إستراتيجية بين هذا القطاع أو ذاك) ولم تكن، فضلا عن ذلك، محكومة بتصور جديد في التنمية (من قبيل تسهيل الولوج إلى مجتمعات المعلومات والمعرفة أو تحرير السوق للرفع من الإنتاجية أو غير ذلك). كل هذا لم يكن قائما. كل ما في الأمر أن الدولة كانت (ولا تزال) في وضعية إفلاس، فعمدت إلى بيع مرافقها الأساسية ومولت بجزء من مداخيلها " برنامج الحسن الثاني" وأدمجت ما تبقى في الميزانية العامة لتأدية أجور موظفيها (الكبار منهم تحديدا). الغريب، أن محاسبي الدولة أدمجوا مداخيل الخوصصة ضمن خانة الاستثمارات الخارجية فتباهوا بذلك، في حين أن العملية ليست كذلك، إذ هي مجرد عملية بيع شبيهة ببيع المواطن المعدم لأثاثه بغرض مواجهة الفاقة أو لإطعام أبنائه. إذا كانت العملية استثمارية خالصة فليقولوا لنا ما هي القيمة المضافة التي تأتت من العملية ومن يستفيد من تبعاتها اليوم؟ ما هي آفاق خوصصة القطاعات الإستراتيجية بالمغرب مستقبلا؟ الخوصصة شبيهة بالإدمان إذا ألفها المرء لا يستطيع الإقلاع عنها بل قل هو مستعد لرهن كل ما لديه بغرض اقتناء ما يمكنه من تجاوز حالة الإدمان هاته. هي حالة مرضية بامتياز لا يمكن الخروج منها إلا بالإمعان في سلك سبيلها تماما كالتعاطي للمخدر. ولما كانت الحالة ميؤوس منها تقريبا، فإن الحكومة استسهلت اللجوء إلى الحلول البسيطة للخروج من حالتها تماما كحالة المتعاطي للمخدرات الذي يسرق حلي والدته لاقتناء جرعة المخدر. بالتالي، فالحكومة ستعمد إلى خوصصة كل ما تطوله يداها، ليس لها من خيار آخر وهذا بصرف النظر عن طبيعة هاته الحكومة أو تلك أو برنامجها السياسي أو خلفيتها الفكرية أو ما سوى ذلك. قد يجد المرء للخوصصة بعض عناصر التخفيف إن هي أدمجت (كعملية اقتصادية وليس كمداخيل) في برنامج التنمية واضح الرؤية، مضبوط العناصر، محدد في الزمن. وهو ما لا نجد له أثرا في حالة المغرب. السؤال الجوهري هو التالي: لماذا الخوصصة (سيما القطاعات الكبرى)؟ وفق أية رؤية؟ من يستفيد منها؟ من يحول دون تكسير المرفق العام من بين ظهرانيها؟ هذا هو السؤال وليس التغني بمداخيل الخوصصة والتباهي ببرمجة منشآت أخرى لخوصصتها. أخشى أن يصل يوم لن تستطيع الدولة أداء رواتب موظفيها إلا بالدين أو الهبات. هل يمكن اعتبار الخوصصة بمثابة جريمة اقتصادية أو اجتماعية في حق الشعب المغربي؟ قد يكون من المبالغة الشديدة القول بذلك، إذ القرار اتخذته دولة ذات سيادة وحكومة شرعية وفي إطار مسطرة قد لا يتفق معها المرء لكنه لا يستطيع أن يطعن في مشروعيتها. لكن مكمن الخلل يأتي من مصادر أخرى. فخوصصة الاتصالات أتت في ظل قانون للتحرير (أي تحرير السوق دونما مس بطبيعة الملكية) فتم تأويله (بصيغة التعديلات والتتميمات غير البريئة) ليتحول إلى قانون في الخوصصة وهو أمر نبهت له في حينه. ثم أن القانون ذاته (القانون 24-96 الشهير) لم يصوت عليه بالبرلمان إلا نسبة ضعيفة من النواب (نسبة لا تتعدى ال 10 بالمائة من عدد النواب) وهو ما لا يضفي عليه المشروعية كاملة، إذ المفروض أن يتم التداول بشأنه على نطاق واسع ويطرح للنقاش. وهو أمر يثير الغرابة حقا، إذ كلما كان ثمة مشروع ضخم بالبرلمان كلما استنكف النواب على الحضور واستعجل الحاضرون البث فيه دونما تأخير وغالبا ما يكون الأمر بنهاية الأسبوع أو بأيام العطل. من جهة أخرى، فتواطؤ النقابات (سيما الكونفدرالية) كان صارخا ويدعو للحسرة وهو ما سلكته أيضا حينما وضع مشروع الاتفاقية الجماعية باتصالات المغرب فوقعت النقابات دونما استشارة القواعد وراج حينها (أقول راج لأني لا أمتلك الوثائق) أنها تقاضت رشاوى مقابل ذات الإمضاء، كل هذا يثير الأسى والحسرة ويحيل على إشكالية الولاءات واللوبيات والمصالح المتقاطعة وتداخل الفاعلين وتهافت الكل مع الكل ضد الكل. هذا أمر مقزز لا نزال نعيش تحت وطأته اليوم. الإشكال هنا ليس إشكال خوصصة محض، إنه إشكال يتجاوز ذلك بكثير، إذ كيف لدولة أن تبيع مرافق حساسة بدعوى أنها عمومية اي ملك للدولة، في حين أنها ملك عام مشترك لكل المغاربة الحق في تقرير مصيره باستفتاء إن تطلب الأمر ذلك؟ وبأية صفة تتصرف حكومة ما عابرة في ملك عام مستمر في الزمن والمكان؟ وكيف لها أن ترهن الملك إياه لأجانب لا يمكن للمرء أن يتنبا بسلوكهم المستقبلي أو يثق في مشاريعهم؟ ثم أن المستثمر بهذه الحالة لا يبحث إلا عن الربح السريع ولا يعير قليل اهتمام لما هي التنمية أو البحث العلمي أو إعداد التراب الوطني أو ما سوى ذلك. لو أردت أن تسمي كل هذا جريمة في حق الشعب المغربي، فهو كذلك دون شك. هل هناك انعكاسات سلبية لخوصصة قطاع اتصالات المغرب مثلا وكيف يمكن التصدي لها؟ أنا لا أتوفر على معطيات إحصائية دقيقة تمكنني من الوقوف عند الانعكاسات (السلبية أو الإيجابية) لعملية خوصصة الاتصالات بالمغرب، فالمعلومات بهذه النقطة حكر على جهة ولا يمكن للمرء الحصول عليها وتحليل عناصرها سيما فيما يخص التسعيرة وجودة الخدمات ومدى الاستفادة من تقنيات التسيير والتدبير التي من المفروض أن تستتبع هذه العملية سيما والقائمون عليها أجانب. لكن الحاصل بالملاحظة الأولية على الأقل أن سوق الاتصالات لم يتحرر كما وعد القانون بذلك، بل تحول من احتكار عمومي إلى احتكار خاص ليس فقط فيما يتعلق بالهاتف القار والإنترنيت، بل وأيضا بسوق الاتصالات الخلوية. فالتحرير لا يزال بعيد المنال، إذ وجود فاعلين اثنين ليس دليل تحرير بل هو احتكار ثنائي لطالما نددت نظريات الاقتصاد الصناعي بتبعاته الآنية والمستقبلية سيما بجانب التنسيق بين الفاعلين وإقامة حواجز اصطناعية لولوج فاعلين جدد. ثم أن وضعية المستخدمين أضحت هشة بمستويات كبيرة، إذ الاتفاقية الجماعية هي تطاول على الحقوق بامتياز. فالعديد من المستخدمين حرموا من منحة المردودية منذ دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ في حين تقاسمها " كبار المؤسسة" فيما بينهم. والنقابات (أو ما تبقى منها) اضحت لا "تهش" ولا "تنش"، بل بعضهم أعلن حل نقابته ولم يمر على إنشائها إلا بعض الوقت تحت دعوى التعاطي " للعمل الجمعوي والسياسي" أمام تعذر العمل النقابي...وهكذا. هل يمكن، في يوم من الأيام، التفكير في التراجع عن هذه الخوصصة؟ هذا سؤال افتراضي يستوجب جوابا افتراضيا. بمعنى أنه لو كنا حقيقة في ظل نظام ديموقراطي تتدافع في خضمه التيارات الفكرية والبرامج السياسية ويتم الاحتكام من بين ظهرانيه إلى إرادة الجماهير، فإنه من الوارد أن تراجع القوانين بغرض البحث عن الحد الأدنى من التحكم في القطاعات المخوصصة أو احترام عناصر المرفق العام القائمة عليه نظريا أو مراجعة شروط الخوصصة (صيغة وعلى مستوى التقييم). أما وأن الأمر غير ذلك، فإن التجربة أثبتت أن القرارات الكبرى (الراهنة للحاضر والمستقبل) غالبا ما تعتمد خارج الفضاء المعهود في بلدان أخرى. حوار نُشر في أسبوعية المشعل عدد69 أعدنا نشره لاهيمته ولقيمة الأستاذ يحيى اليحياوي المعرفية والعلمية.