تعد السينما مجالا أساسيا في تشكيل الوعي المجتمعي وعاملا جوهريا في التأثير، وذلك انطلاقا من محتوى وقيمة الأفكار والرؤى المعروضة من خلالها، والتي ترتبط بكل القضايا. وقد شكلت السينما منذ تأسيسها وسيلة متميزة للتعبير عن القضايا المجتمعية، وكان لها تأثير قوي ومباشر على ثقافة الأفراد والمجتمعات. وفي هذا الوقت ازداد الاهتمام بالسينما ليس فقط كفن شعبي يستقطب ملايين المتفرجين يوميا، بل أيضا كوسيلة معرفة وثقافة وكنافذة يمكن الإطلال منها على الأفراد، وتلمس بعض سمات عيشهم وتفكيرهم وبعض ما وصلت إليه أفكارهم. وشهدت حركة السينما أخيرا في الصحراء تناميا ملحوظا، مما يغذي الاهتمام التي أضحت تحظى به، مع تزايد وانتظام المساحات المخصصة لذلك سواء في عرض الأفلام داخليا وخارجيا والتكوين والتأطير وإقامة المهرجانات والندوات لبحث قضايا السينما، والانتقال من عملية مشاهدة الفيلم غالبا من عملية سلبية إلى عملية قادرة على إثارة نقاشات حادة، وطرح مجموعة من المشكلات الجادة. وقد تناولت السينما في الصحراء مواضيع هامة، ركزت بشكل مباشر على قضايا الهوية والعادات والتقاليد والبنيات الاجتماعية والقيم والمرأة والمقاومة والوحدة. وتوزعت المواقف تجاه السينما في الصحراء بشكل مذهل، فهناك من يرى فيها وسيلة للتعبير الفني والجمالي، والبعض الآخر ينظر إليها كأداة للتثقيف والتربية والدعاية، وصنف آخر من الناس يعتقد أن السينما باعتبارها تجليا متقدما للحداثة تشكل عنصرا هاما لا غنى عنه في كل نسق أو مشروع ثقافي في الزمن المعاصر، وهذا الأمر يتقاطع مع ما يحدث في المعمور. فالسينما بقدر ما توفر إمكانية التأكيد على أنها حقل إبداعي يفجر فيه الفكر الإنساني والمخيلة البشرية كثيرا من الطاقة ويبذل فيه الكثير من الجهد، حيث توثق الأحداث والشخصيات صوتا وصورة مع اختلاف ذلك حسب البنيات المجتمعية والمحطات السائدة. ويظل عامل إيصال العناصر الجوهرية دون الإسهاب في التفاصيل والرغبة في تحقيق الاستمتاع وفي ترميم الذاكرة المجتمعية وفي التعبير عن الأحداث وتصوير سياقاتها والمساهمة في إبرازها والاستفادة من تجاربها ومعطياتها مطلبا رئيسيا، سواء تعلق الأمر بتجربة تلامس حدثا أو مجالا وتتبنى قضايا مجتمعية تحاول الدفاع عنها لتعمل على تحقيق أهدافها، ومرسخة لقيم التشارك والتقاسم والعودة إلى الطبيعة بالصحراء. ومثال على ذلك الأفلام الوثائقية المنتجة من طرف " مختبر الصحراء"، والتي أبرزت ثقافة الصحراء والهوية المجتمعية والتاريخ ونمط العيش والعلاقات الاجتماعية وما كان سائدا بنوع من الحبكة والتوافق في رسم معالم الأحداث والوقائع وسردها، ولتتجاوز بذلك الاهتمام السينمائي إلى التشابك في السعي لتوطيد الممارسة الإبداعية. وقد اختلفت درجة تناول كل فيلم للموضوع حسب وجهة نظر القائمين عليه، وذلك وفق المصادر التي اعتمد عليها في رسم معالم نظرته، بفعل اختلاف منطلقات سينما الصحراء بين الإنسان والمجال، ثم حيثيات الواقع المعاش وصورة المخيال السينمائي الإبداعي والتأملي، والتي تعوض بعضها البعض، وتصل أحيانا إلى درجة التماهي مع حقيقة الواقع وحركات الإيراد بين ما هو مصرح به وبين ما هو ضمني، فكل مخرج قد سلط سلطته على مدى المساحة الزمنية لفيلمه. فالأفلام الوثائقية بالصحراء تحاول أن تعني القدرة على التفكير الباطني ومعرفة معالم الذاكرة واستحضارها بعيدا عن الخوف الداخلي حتى يصبح الإنسان هو ذاته لا غيره وأن يكون مظهره حقيقته، وأن تتوحد شخصيته بمعزل عن الازدواجية نحو ارتباط الإنسان والمجال، ومرآة حية لحقيقة الواقع ومتجاوزة للصور المبتذلة. إن الأعمال السينمائية والفنية بالصحراء، ليست مجرد فقط نسخ من الواقع وإنما الصدق الفني الموجود بها، يجرها إلى تجاوز الظاهرة الحياتية عما هو ظاهري ويعممها فيكشف عن العلائق والروابط المخفية بين الأشياء التي يصورها. وأن عملية الربط يجب أن تكون بين مختلف عناصر العمل السينمائي وعلاقات الواقع الاجتماعي لاستكشاف النموذج، باعتباره مستودعا للوعي الجمعي أو الرؤية الكلية للواقع، عبر تناول فترات ومحطات من تاريخنا في الصحراء ما زالت أثارها ملموسة وقائمة، وبتعبير آخر فإن جدة الأفلام كيفما كان موضوعها، تكمن بالضبط مع ذلك الربط الجيد بين المضمون والتقنية، التقنية هنا بمفهومها الواسع كتحكم في آلية التصوير وكحركة إبداعية وبلاغية مكتملة تحقق جوهرا واحدا ووحيدا هو إنسانية الإنسان بالصحراء. فإنتاج صور سينمائية تعكس الواقع، أفضل للسينما الوثائقية بالصحراء لمواجهة الصور البديلة القادمة من الخارج، والتي تحمل رؤى بعيدة عن الحقائق الموجودة وتخدم أهدافا وأجندات خاصة وتستهدف الاستقرار وإثارة النعرات، لأن المشاهد عندما يرى واقعه داخل إطار الصورة المجالية للصحراء يتفهم الوضع أكثر، وبالتالي يستعد وينخرط للدفاع عن هويته ومجاله ويستحضر ذاكرته من أجل التصحيح والسير نحو المستقبل في إطار ميثاق أساسه العيش المشترك والأمن والأمان. *باحث في العلوم السياسية والإعلام