عايشت أجيال تسعينيات القرن الماضي وما تلاها من عقود قصة صعود نجم الثنائي الكوميدي "الجبلي والبلدي"، الذي تمرس على صنع البهجة لفئة عريضة من الجمهور الشمالي، منذ أيام الشرائط المسجلة، سالكا مسارا إبداعيا فنيا، طبعه الاجتهاد والبحث في القضايا ذات البعد الاجتماعي، جاعلا منها مواضيع انتقاد وسخرية في قالب كوميدي، بقدر ما يضع الأصبع على أماكن الخلل، بقدر ما يلامس حياة الناس اليومية، بمجهودات ذاتية قلما لاقت سندا من لدن الساهرين على قطاع الفن. تحديات كبرى وصعوبات جمة واجهها الثنائي الساخر، دون أن تنال من عزيمته أو تصيبه بالإحباط، وقد تكلل ذلك بإصدار عدد من "السكيتشات" الساخرة، من واقع أضحى يعرف ظواهر اجتماعية سلبية دخيلة بدأت تتوسع دوائرها، مما جعل الفنانين حسن الزيتوني المعروف بالاسم الفني "البلدي"، ورفيق دربه عبد الكريم "الجبلي"، يتخذانها موضوع أعمالهما الفنية الساخرة، التي رغم الرسائل الخفية التي تبعثها، فإن الأسلوب الذي اعتمده هذا الثنائي خلق الفرجة والمرح لدى محبيه. "الجبلي والبلدي".. بداية المسار يقول حسن الزيتوني، أو "البلدي" كما يعرف بين جمهوره العريض، إن بداية مسار الثنائي "الجبلي والبلدي" لا تختلف عن بدايات جل الفنانين الكوميديين، فحس الفكاهة الذي ميزه ورفيقه، والذي ذاع صيته بين الأصدقاء والرفاق، جعل جلساتهما منبع بهجة وأنس، حيث كانت تطرح فيها عددا من المواضيع الاجتماعية في قالب ساخر، وكانت تخلق جوا فكاهيا مرحا، ينسى فيه المرء متاعب الحياة وإكراهاتها، "وقد تحولت هذه اللقاءات إلى ولع بدأ يتوسع شيئا فشيئا، إلى أن حدث لقاء بيني وبين عبد الكريم الجبلي، في أحد الأيام من ثمانينيات القرن الماضي، في إحدى المناسبات، فتولدت فكرة العمل سويا، كأول ثنائي فكاهي بشمال المغرب". ويتذكر حسن البلدي بحنين عددا من أعماله الفنية بمعية رفيقه عبد الكريم الجبلي، ك"الشرع عطانا أربعة"، "البيرمي"، "الانتخابات" و"غلاء المعيشة"، ويقول: "لقد انطلقت بدايتنا من لا شيء، بمجهودات ذاتية محضة، في زمن كان الاشتغال فيه بمجال الكوميديا صعبا، فالنجاح آنذاك لم يكن بالأمر الهين"، مضيفا أن "العمل كثنائي كان يفرض علينا تحديد مواضيع مناسبة، سعينا للاشتغال عليها في إطار قالب فني فكاهي يحترم جميع الأذواق، والأصعب كان قطع مسافات طويلة لتسجيل تلك الأعمال وإصدارها في شرائط سمعية، في وقت لم يكن هناك أنترنيت ولا هواتف ذكية". وتابع الفنان الكوميدي حديثه قائلا: "لقد واجهتنا صعوبات جمة، منها توفير ميزانية التنقل والتسجيل، وإيجاد موزع ذي تجربة"، مستحضرا في هذا الصدد دعم بعض المحبين "الذين أعجبوا بمسارنا الفني، وكانوا يعملون بين الفينة والأخرى على تذليل بعض العقبات التي تعترضنا، في ظل غياب تام لأي دعم رسمي"، يقول حسن، مشيرا إلى أن فترة الشرائط السمعية آنذاك "كانت تعرف رواجا كبيرا، فبمجرد ما تخرج نسخة إلى الأسواق يقبل عليها المحبون بالشراء، خاصة منهم إخواننا المقيمين بديار المهجر". إبداع يقوض حدود المعيقات يستحضر "البلدي" الإكراهات التي كانت تكبح في الغالب لجام إبداع الثنائي "الجبلي والبلدي" بأسف شديد، مشيرا إلى أن غياب الدعم المالي كان أهم تلك المعيقات، لكنه يستدرك كلامه قائلا: "غير أني لا أجعله سببا للفشل، لأن الأخير مرده غياب العزيمة والإرادة، والمبدع لا يناسبه هذا الخيار، حتى لا يدفن إبداعه في مقبرة المادة"، مؤكدا أن الإصرار والتجديد والتنوع، بالإضافة إلى ملامسة هموم الناس، هي أهم عوامل النجاح وتوسيع قاعدة المتابعين، "وقد كنا دوما نستحضر في أعمالنا مواضيع من الواقع المعيش، فنتناولها بنقد مقبول، ساخر، يحمل في طياته رسائل إيجابية، وهذا ما جعل تجربتنا تكلل بالنجاح، وتعرف إقبالا من الجمهور الذي يقدرنا ويحترمنا". وزاد "البلدي" قائلا: "جانب آخر من المعيقات كان يتعلق بإيجاد استوديو مناسب لتسجيل أعمالنا الفكاهية، وبأثمنة مناسبة، في ظل انعدامه بمدن الشمال وقتئذ، حيث كان هذا الأمر يضطرنا إلى التنقل إلى عدد من المدن، خاصة مدينة فاس التي سجلنا فيها أول أعمالنا"، مضيفا أن هذه التجربة بدأت تكبر بالرغم من كل الصعوبات، "لكن عزمنا على خوض غمار هذا المجال كسر كل القيود التي كانت تعيق تحركاتنا، وهذا التحدي الذي اكتسبناه في ظل مسارنا الفني جعلنا نلجأ إلى التنويع، بطرق أبواب الغناء لتكون أعمالنا الفكاهية خليطا بين السكيتشات والغناء الساخر، كأول ثنائي مغربي يوظف هذا الجانب داخل سكيتشات هزلية" يضيف الزيتوني. وواصل الفنان الكوميدي تعداد المعيقات التي اعترضت المسار الفني للثنائي الفكاهي "الجبلي والبلدي"، قائلا: "لم يكن هينا إعلان صدور الأعمال الفنية الجديدة في الماضي، إذ لم يكن متوفرا في أيامنا أنترنيت ولا يوتوب ولا مواقع التواصل الاجتماعي، مما جعل ذيوع هذه الأعمال وانتشارها بطيئا، حيث كانت تتناقل وتمتد بين المجموعات وعبر شبكة العلاقات الشخصية". واستدرك كلامه قائلا: "غير أن لذلك الزمن حلاوته رغم بساطته، فما كنا نراه بالأمس القريب من إكراهات، كانت في الحقيقة محفزات لبذل المزيد من الجهد، من أجل تحقيق النجاح المنشود، الذي لم يكن متاحا بالسهولة التي هو عليها اليوم". وانتقد الفنان الكوميدي غياب دعم وتشجيع الطاقات المبدعة، خاصة على مستوى مدن الشمال، مؤكدا أن ذلك لا يخدم الفن على الإطلاق، "إذ نستغرب هذا النوع من التعاطي السلبي مع شريحة واسعة من المبدعين، خاصة في مجال الكوميديا، وكأن هذا الصنف من الفنون دخيل لا يرقى إلى بقية الأصناف، رغم الجمهور العريض الذي يتابعه بكل أنحاء المغرب، وخارجه كذلك"، يضيف الزيتوني، داعيا إلى إيلاء الاهتمام اللازم بالفنانين، سواء بدعم أعمالهم، أو باستدعائهم لحضور التظاهرات الفنية الرسمية، "حتى نضمن الاستمرارية للحركية الفنية من جهة، ولنتقاسم هموم المجال وإشكالاته، ونتبادل التجارب بهدف تطوير أساليب الاشتغال، لأن الفنون جميعها تحمل رسالة نبيلة، أولا وأخيرا". عصر الرقمنة كقيمة مضافة ويؤكد "البلدي" على أهمية الأنترنيت ووسائط التواصل الاجتماعي، "فهي تتيح لكافة الأعمال الفنية انتشارا واسعا، وتفاعلا قل نظيره، غير أن ذلك لا يعتبر مقياسا للنجاح في رأيي، لأن المقياس الحقيقي يمثله المحتوى"، مستدلا على ذلك بعدد من الفيديوهات التي سجلت نسبا مرتفعة من المشاهدات، رغم تفاهة محتواها. وقال في هذا الصدد إن "سمة الفرجة المجانية التي تتيحها صفحات الأنترنيت تجعل من الصعب علينا أن نقيم صنف الجمهور، خاصة في ظل الاعتماد على عناوين مثيرة، قد تجذب فضول أي كان لاستكشاف المضمون، وبالتالي فإن ذلك يرفع من نسب المشاهدين بمجرد ضغطهم على الفيديو". وأضاف أن "هناك كذلك برامج ترفع نسب المشاهدة، والتي أصبحت تشترى بالمال، لإيهام المتلقي بانتشار الفيديو، وكل ذلك مجرد تمويه يؤكد موقفي من كون المشاهدات العديدة ليست مقياسا لنجاح الأعمال الفنية"، مشددا على أن النجاح رهين بالعمل الجاد والدؤوب، وبتطوير آلياته، وتنوع مواضيعه، "كما أنه مرتبط ببساطته لحظة مخاطبة الجمهور، أو العرض، بعيدا عن التكلف والصناعة" يضيف "البلدي". من جانب آخر، اعتبر الفنان الساخر أن زمن الشرائط السمعية كان أكثر مردودية، مرجعا ذلك إلى أن النجاح حينئذ كان مرتبطا بنسب توزيع الشرائط السمعية واقتنائها، "وهنا يكمن الفرق، فمن يقتني مادة ما، فلأنها راقته ونالت إعجابه، عكس ما تتيحه المشاهدات المجانية المفتوحة في وجه العموم، صغارا كانوا أم كبارا"، مشيرا إلى أنه رغم التسهيلات التي أتاحتها هذه المنصات الرقمية، فقد "خلطت الأوراق، حيث أصبحت تخلق "البوز" بشكل يعاكس الرسائل التي يحملها الفن بشكل عام". وأضاف "هذا إلى جانب أن الجيل الحالي يعتبر الأكثر تكيفا مع أدواتها، وربما هذا ما جعلنا نعاني بعض الضعف في نشر كل أعمالنا السابقة، رغم إقبالنا كغيرنا عليها في الأعمال الحالية". أعمال فنية تسخر من الواقع وأوضح "البلدي" أن خمسا وثلاثين سنة من العمل كثنائي تجعله ورفيق دربه عبد الكريم، أقدم ثنائي كوميدي بالمغرب، "وهو عمل خلف عددا من السكيتشات والأغاني المتداولة بين شريحة كبيرة من الجمهور المحب إلى يومنا هذا"، يقول الفنان الكوميدي، راجعا بالذاكرة إلى عقود مضت. وأضاف "لقد تطورت تجربتنا إلى ميادين أخرى، حيث شاركنا في سبعة أفلام سينمائية، أبرزها "الزمان العاكر"، "ولاد البلاد"، "الموؤودة"، "رحمة"، وأخيرا "لا مورا"". وتابع "البلدي" حديثه عن أعمال الثنائي قائلا: "كما شاركنا في ثلاثة أفلام قصيرة، وخضنا تجربة أول شريط فيديو بشمال المغرب، إلى جانب مسرحيات هادفة، أبرزها "الهليكا في الكلينيكا"، و"أرقام بريئة""، معددا مشاركات أخرى طالت مجال الفيديو كليبات، "ضمنها المشاركة في كليبات عدد من الفنانين المعروفين أمثال إيهاب أمير، جابوني، مستر سينا، التهامي الحراق، بولعيد، معتز أبو الزوز وزهير الباهوي". وأضاف أن المسار انتقل بالوراثة إلى أطفال الثنائي "الجبلي والبلدي"، "إذ شكلت بناتنا أول ثنائي أنثوي في الكوميديا بالمغرب، حمل اسم ثنائي "الجبلية والبلدية"، الذي أصدر لحد الآن أربعة سكيتشات وعددا من المسرحيات"، يقول "البلدي"، قبل أن يعرج للحديث عن حلم لا يزال يراوده على أمل تحقيقه في المستقبل القريب، ويتعلق بفكرة تنظيم مهرجان الضحك بمدينة تطوان، "ليكون فرصة لالتئام رواد الكوميديا بهذه المدينة المبدعة، ويكون محفلا فنيا لتكريمهم". وأوضح أن الفكرة عرضت في ملف دعم تم تقديمه لوزارة الثقافة السنة الماضية، "لكنه لم يراوح مكانه بين أروقتها إلى يومنا هذا، دون أن نتلقى أي رد منها، سواء بالإيجاب أو الرفض" يقول "البلدي" متأسفا. واسترسل قائلا: "رغبتنا في الاستمرار فرضت علينا العمل في مجال الإشهار، حيث يظل المورد الوحيد لدعم أعمالنا الفنية، في ظل غياب أي دعم رسمي، وقد لاقى هذا الخيار نجاحا، شجعنا على اعتماده كوسيلة لضمان حضورنا بالساحة الفنية، على أمل أن يتم الاهتمام بفناني الكوميديا في قادم الأيام"، يختم "البلدي" حديثه لهسبريس.