Coupable de Fidélité هو العنوان الذي اختاره الكولونيل أحمد بلمدني بنحيون لسرد تجربته في المغرب وفي منفاه في فرنسا للحديث عن حياته الحافلة بالكثير من الأحداث، خاصة مرحلة شبابه حين شارك في العمليات العسكرية الفرنسية بالمغرب، وتعيينه باشا أكادير وقائد إنزكان قبل أن يهرب بجلده إلى فرنسا حتى لا تتم تصفيته كما حدث لقياد تعاونوا مع الفرنسيين زمن الحماية، مباشرة بعد عودة محمد الخامس إلى المغرب سنة 1955، وتجريده من ممتلكاته ومن الجنسية المغربية سنة 1958. وحتى بعد صدور قرار من الملك الراحل الحسن الثاني بالعفو سنة 1965 عن القياد والباشوات الذين تعاونوا مع فرنسا، فإن باشا أكادير لم يستفد من هذا العفو، وبقيت ممتلكاته مصادرة. "يعتبرونني خائنا، لماذا؟ لأنني خدمت بشجاعة وتفان المصالح العليا لبلدي أثناء التهدئة، وأثناء الإدارة بالتعاون مع سلطات المراقبة الفرنسية. لقد اشتغلت مع الفرنسيين، لكن ذلك كان في مصلحة البلدين"، يقول بلمدني في كتابه الموسوم ب"جريمة الإخلاص" الذي نشره سنوات قليلة قبل من رحيله الأبدي وهو في عمر ال90 سنة. هذا الكتاب، الذي قال فيه بلمدني إنه كتبه بطلب وإلحاح من ابنيه إدريس والتجاني ابني الباشا من زوجته خليجة التي تزوجها عندما كان قائدا في إداوكنضيف بأيت صواب. ابنا "الباشا" عادا للعيش في أكادير سنة 1976 وهما في عمر 23 و26 سنة، كانا يسألان والدهما باشا أكادير السابق بحسب ما جاء في كتابه: "أنت تحكي لنا دائما عن الأشياء الجيدة التي قامت بها فرنسا تجاه المغرب، تردد على مسامعنا أن فرنسا وحدت المغرب، فرنسا هدّأتهُ وقضت على الصراعات بين قبائله وغير ذلك، لكن بمجرد عودتنا إلى المغرب لا نسمع سوى أن فرنسا غزت المغرب عسكريا، واستغلت خيراته، وهذا يتعارض مع ما تقوله لنا سابقا فأين الحقيقة إذن؟". تلك "الحقيقة" المفقودة هي التي حاول الكولونيل بلمدني أن يكشف عنها من وجهة نظره. لذلك، انكب، في السنوات الأخيرة من عمره، لكتابة سيرة من 242 صفحة، بدأها بسرد وضعية المغرب قبل الحماية الفرنسية والتطاحنات التي عرفتها البلاد، واصفا توقيع عقد الحماية بأنه "نهاية الكابوس، خاصة في المدن الكبيرة"، ثم سرد بعد ذلك وضع المغرب وعلاقة ذلك بكل مقيم عام فرنسي، من خلال قربه من الأحداث وتجربته الشخصية والمواقف التي عاشها ويحكيها في هذا الكتاب، الذي لم تصدر له بعد ترجمة باللغة العربية، إلى أن وصل الصفحات الأخيرة من الكتاب التي خصصها للأيام الأخيرة لزمن الحماية، حيث سرد بالتتابع التطور السريع للأحداث في حياته كباشا لمدينة أكادير، إلى أن غادر هذه المدينة هاربا بحياته وحياة أولاده نحو فرنسا في دجنبر 1955. حياة حافلة انتهت في المنفى ولد أحمد بلمدني بنحيون سنة 1902 بوجدة من أسرة من أصول فاسية، ولج المدرسة العسكرية بمكناس سنة 1924، وبمجرد تخرجه شارك فيما سمته فرنسا ب"عمليات التهدئة"، حيث كان بلمدني عنصرا فاعلا، ساعده إتقانه للعربية والفرنسية وللهجات المحلية وذكاؤه الكبير في أن يتسلق جبل المراتب العسكرية بثقة كبيرة، إذ شارك في العمليات العسكرية الفرنسية بكل من زاكورة وتازارين وتاغبالت وتنغير، وشارك في إخضاع مقاومي معركة بوڭافر عسكريا وسياسيا. مُباشرة بعد إتمام العمليات العسكرية بصاغرو، تم تعيين أحمد بلمدني المدني بنحيون قائدا في أيت صواب نواحي أيت باها. وقد شغل هذا المنصب مدة طويلة، حيث قضى 15 سنة في قيادة خميس إدا وكنيضيف، من نهاية عمليات "التهدئة" سنة 1934 إلى حدود 1949. سنة 1950 تمت ترقيته ليصبح باشا مدينة أكادير وفي الوقت نفسه قائدا بإنزكان، حيث يتوفر وقتها على مكتبين، واحد بإنزكان وآخر بأكادير؛ لكن تصفية بعض قياد الاستعمار، ووضعه ضمن لائحة المستهدفين عجلت بهربه من المغرب، وهو الذي حاول أن يأخذ الإذن من محمد الخامس قال للمقيم العام بشأنه وقتها، بأن الحكومة هي التي سوف تتخذ القرار بشأنه، فاستأذن من "البكاي" بأن يسمح له بمغادرة المغرب، مع ذلك فقد تم إدراج اسمه ضمن المحكومين بتهمة الخيانة، وتم تجريده من جنسيته لمدة 15 عاما، ومن ممتلكاته في قرار صدر بالجريدة الرسمية في 23 غشت 1958. بلمدني وعسو وباسلام ساهم أحمد بلمدني في إخضاع مقاومي بوڭافر سنة 1933، فإلى جانب كونه عسكريا في الميدان، فقد شارك في تلك المفاوضات التي جمعت عسو وباسلام ورفاقه بكبار العسكريين الفرنسيين، فقد كتب عبد القادر بوراس في "La Koumia" في عددها 127، أن ذكاء هذا الرجل عجل باستسلام مقاومي بوڭافر ونزولهم من الجبل، وذلك أنه عندما نُودي عليه ليقوم بترجمة الحوار بين عسو أوباسلام وبين القادة العسكريين الفرنسيين. ينقل بوراس هذ القول عن بلمدني: "كان عسو أوباسلام رفقة محارب واحد، لما جئت مددت يدي للسلام عليه، مد يده أيضا، تم لمست بيدي شفتاي، وكذلك فعل أوباسلام أيضا، يقول لي بوير قل له بأن يسلم رجاله للحاكم فورا، فهو قادم لن يتأخر". لكن عسو أوباسلام صدمه برده: "لم آت هنا مع رفيقي لنعلن خضوعنا، لقد جئنا نمثل رجالنا لنرى ماهي شروطكم لهدنة مشرفة لنا جميعا، وغير ذلك فأنتم هنا ورجالنا ما يزالون في الأعلى". يؤكد المصدر نفسه أنه على الرغم من وصول الجنرال كاترو والجنرال جيرو، ووصول الجنرال هوري بعدهما عبر مروحية قادما من بومالن دادس بمجرد إعلامه باستسلام مقاتلي بوكافر فإن ذلك لم يغير شيئا مما كان يقوله عسو. على المترجم أن يكون أمينا في نقل معاني العبارات إذا لم ينقلها بشكل حرفي بصدق وأمانة، لكن ذلك ما لم يفعله أحمد بلمدني وقتها في ذلك الاجتماع الذي جمع أوباسلام بالعسكريين الفرنسيين، فقد كتب بوراس في المصدر نفسه أن بلمدني أدرك بذكائه أن الأمور سوف تسوء إذا نقل لعسو أوباسلام ما يقوله هوري، فالأمور العسكرية لم تستطع حسم المعركة ولا بد من "شيء من السياسة" لذلك عندما قال هوري: "المخزن قوي، سوف يسحقكم مثل الذباب" ترجمها بلمدني لعسو وباسلام ب"المخزن كبير وكريم، وسوف يسامحكم جميعا". أملاك مصادرة يقول كريم بلمدني بنحيون، حفيد الباشا، في تصريح لهسبريس: "عندما عاد والدي وعمي إلى أكادير سنة 1976 لم يسبق لشخص أن قدم شهادة سيئة في حق جدي الباشا أحمد بلمدني، وأنا أيضا لم يسبق لشخص أن تحدث معي بسوء عنه.. بالعكس، الجميع يتذكر أنه كان شخصا صارما وجديا وغير ظالم، سواء عندما كان باشا بأكادير أو عندما اشتغل بإداوكنيظيف حيث تزوج جدتي خليجة". ويزيد حفيد الباشا: "حاولتُ استرجاع ممتلكات العائلة دون جدوى، عن طريق توكيل محام، خاصة أن جدي لم يكن يسلب الناس ممتلكاتهم، بل لدينا وثائق شرائه لمجموعة من الممتلكات، ومنها منزله، ذلك الرياض الذي اشتراه لدى يحيى مالك سينما السلام، والذي تم تحويله الآن إلى حمام بإنزكان، والأرض التي توجد قرب مرجان إنزكان والتي بُني فوقها سوق الحرية، وغير ذلك من الأملاك التي تعود له بالوثائق، فلو سلبها لشخص ما لاحتج مباشرة بعد رحيله ولطالب باسترجاعها". ثم يختم: "طرقنا أبوابا كثيرة، خاصة أنه لدينا كل الوثائق التي تثبت ملكيته لذلك، وكذلك للعفو الذي صدر سنة 1965 عن القياد والباشاوات الذين تبعوا طريق الڭلاوي، لكن لم نسترجع شيئا، جدي كان زاهدا في كل ذلك، فحتى عندما أراد المغادرة كتب سيّارتيه شيفروليه لسائقيه البنسرڭاوي وأكشوظ محبة لهما ليكسبا بهما قوتهما كطاكسيات ثم رحل". عاد بلمدني ليزور أكادير آخر مرة سنة 1985، بعد أن قضى 30 سنة في المنفى بفرنسا، لكنه بمجرد لقائه بعائلته عاد حيث نشر كتابه هذا الذي كتبه سنة 1987، ونشره في ماي 1990. يكتب بلمدني في "جريمة الإخلاص" عن يوم الأربعاء 7 دجنبر 1955 على الساعة ال11:05 دقائق عندما أقلعت الطائرة التي تخرجه من هذا البلد: "إنني أغادر التراب المغربي، الطائرة تحلق في ارتفاع منخفض، أرى الجبال والوديان، الكل يختفي في الأسفل، فجأة انتابني حنين حزين ومؤلم. وداعا والداي، وداعا عائلتي، وأصدقائي، وداعا أيها المغرب حيث ولدت، البلد الذي خدمته بحياتي وأعطيته كل ما ملكت من قوة وشجاعة من أجل أن يكون هادئا وموحدا".. توفي "باشا أكادير" سنة 1992 بفرنسا وهو في عمر التسعين سنة.