بعد تصفية مقاومة " أحمد الهيبة " بمراكش وأحوازها ، وخفوت شرارة المقاومة الزيانية بموت قائدها موحا أوحمو ، دعم الفرنسيون الباشا الكلاوي ليتقدم نحو الأطلس ليحكموا السيطرة عليه استكمالا لمشروعهم الاستعماري الرامي إلى إخماد المقاومة المنبعثة من الضواحي بعد رضوخ المدن وسقوطها تحت نير الاحتلال ، والملاحظ أن فرنسا لم تكن قادرة على مواجهة المقاومين الذين حملوا السلاح ضدها دفعة واحدة فكانت تعمد إلى تصفية جموعهم تباعا ، كما عمدت إلى الفصل بين المقاومة المسلحة والعلماء ورجال الفكر من جهة وبين أبناء الوطن الواحد من جهة أخرى حين عزفت على وتر اختلاف الأعراق من خلال "الظهير البربري " ، غير أن انخراط المغاربة في مقاومة المشروع الفرنسي كان مذهلا و على جميع المستويات ، ولم يكن القتال غير صورة من صور هذه المقاومة المتعددة الأوجه التي همت مجالات الفكر والأدب والشعر والفتاوى الشرعية التي أجمعت على وجوب دفع الاحتلال الفرنسي . لقد خلف المغاربة إرثا بطوليا عظيما على اختلاف أعراقهم ولهجاتهم وقبائل آيت عطا واحدة من القبائل التي أبلت بلاء حسنا في جانب الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي ،وقد توجست هذه القبائل خيفة من محاصرة "الهيبة" لأن اتصال " العطاويين " بالهيبة كان مستمرا ، فقد شاركوا في الكثير من معاركه ولا شك أن الطوق الذي ضرب حول رجاله قد أشعر العطاويين بالخطر الداهم، ومعروف عن قبائل آيت عطا الاحتفاء بقيم النبل والشجاعة وإعلاء قيم التحرر والنفور من الرضوخ للأجنبي ،يقول المختار السوسي : إن آيت عطا مشهورون بالثبات في المعامع شهرة لا يضاهيهم فيها من عاشرهم من الأقوام " . وهكذا ما إن انتهى الفرنسيون بمعية الكلاوي من "الهيبة" حتى وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام قبائل آيت عطا المعتدة بحريتها وانتمائها الثقافي والديني . آيت عطا تتأهب للمواجهة : التف العطاويون على اختلاف مشاربهم حول " عسو أوبسلام " وعينوه في منصب " أمغارنو أفلا " ومعناه القائد العام الذي تأتمر القبائل بأمره في السلم والحرب ، وقد دخلت تحت لوائه قبائل آيت أخباش وآيت اعزى وآيت احليم وآيت ولال وغيرها . عرف عن عسو أوبسلام ذكاؤه الخارق وكان قد بدأ حياته تاجرا غير أن اضطلاع والده بمهام تسيير شؤون قصر تاغيا حيث ولد عسو ، فتح عينيه منذ الصبا على نزاعات القبائل وسبل فض تلك النزاعات ، وأكسبه قدرة كبيرة على التواصل مع الناس ومحاورتهم ،ولهذا فإنه لم يجد عناء يذكر في توحيد قبائل آيت عطا رغم الجهد الذي بذله الفرنسيون في إثارة النزاع بينها ورغم المال الذي أنفقوه في شراء ذمم أهلها إلا أن كل ذلك تبخر أمام صمود عسو ورغبته الصادقة في مواجهة المخطط الاستعماري ، وقد حاول الفرنسيون استمالته قبل الاصطدام به لكنه رفض ،وكيف لا يرفض وقد شهد له بالنبل أعداؤه قبل أصحابه ؟ فقد وصفه القبطان مون دسافاس أنه فارس مغوار قوي الإرادة ، عالي الهمة شديد التدين وقال عنه المؤرخ "هنري تماندو " أنه حازم معتد بنفسه … كانت وحدة قبائل آيت عطا الخطوة الأولى التي خطاها عسو نحو مواجهة المستعمر فمع سيطرة الفرنسيين على غرب الأطلس الكبير وأجزاء من الأطلس الصغير ، لم يعد من حاجز أمام فرنسا لإخماد جذوة المقاومة غير قبائل آيت عطا. مناوشات قبل المعركة مع تقدم جحافل الفرنسيين اختار عسو جبل "صاغرو" كمركز لقيادة عملياته الحربية، واعتمد على أسلوب حرب العصابات لاستنزاف خصومة ،خاصة وأن هذا الأسلوب قد أثبت نجاعته في معارك الزيانيين وفي الريف، ولهذا فقد وزع مقاتليه الذين بلغ عددهم سبعة آلاف مقاتل على ثلاث مجموعات عسكرت إحداها بجبل بادو، واتخذت الثانية من "كلميم " مقرا لها ،وتمركزت الثالثة ببوغافر، وهو الجزء العلوي من جبل صاغرو. وقد استدرج عسو الفرنسيين إلى مواجهات صغيرة ومتفرقة ليستنزفهم ويختبر قتالهم وأنزل بهم خسائر متتالية في "تاوزا " و " داليف" و "تازاين " و " ناقوب " ، فجن جنون الفرنسيين ودفعوا بفيالقهم العسكرية من جميع الاتجاهات لمحاصرة " عسو " فمن جهة الغرب تحرك لواء الجنرال كاترو إلى أرض المعركة ،ومن الشرق تقدمت قوات الجنرال جيرو مدعومة بقوات الريف وزيز ، تساند حملتهم الطائرات والمعدات المتطورة وكتائب حسنة التسليح من "الكوم " و" لالجو" . كان الفرق شاسعا بين رجال عسو والفرنسيين الذين أقامو ا خطوط تموين لا ينضب معينها تتصل بورزازات ومراكش وتمدهم في كل لحظة وحين بما يحتاجونه ، وأما المقاتلون المغاربة فكانوا يعتمدون على إمكاناتهم الذاتية في تصنيع السلاح الخفيف وعلى ما يشترونه من تجار السلاح بالمنطقة بالإضافة إلى المساعدات المحدودة التي كانت تمدهم بها القبائل المجاورة المتعاطفة مع مقاومتهم. معركة بوغافر في بداية شهر فبراير من عام 1933 م التحم المغاربة بالفرنسيين في معارك متصلة شارك فيها النساء والأطفال، حتى قال بعض الفرنسيين أن " زغاريد " النساء في معارك بوغافر كانت سلاحا معنويا فتاكا لا يقل خطورة عن الأسلحة التي استخدمها العطاويين والقبائل التي ساندتهم، وقد كان للمرأة حضور فعال في معارك بوغافر فقد ساهمت في مداواة الجرحى وجلب الماء والطعام وإثارة حماس المقاتلين ، وانخرطت عمليا في المواجهة إذ كانت النساء تدحرجن الحجارة على الجنود الفرنسيين كلما تقدموا نحو مواقع المقاومين . كبد المقاومون الجيوش الفرنسية التي قدر عددها بثمانين ألف مقاتل خسائر فادحة في الأرواح والعتاد ،وقد فاق عدد ضحايا الفرنسيين ثلاثة آلاف قتيل، فوظفوا كل ما طالته أيديهم لاستئصال المقاومة ، وأمطروا المدنيين العزل بوابل من القذائف وصارت طائراتهم تلقي الحمم ليل نهار على الأطفال والنساء والشيوخ في وحشية لم يعرف لها التاريخ مثيلا ، و بتزايد حدة المواجهات ارتفع عدد الضحايا في صفوف المدنيين المغاربة إلى أربعة آلاف قتيل ، وعلى الجبهة قتل سبعمائة من رجال عسو ، ولم يعد من سبيل أمام عسو غير نصب الكمائن للعدو لمواصلة القتال بعد أن نفذت دخيرته … صمد عسو ورجاله تحت القصف أربعين يوما دون أن يفت الحصار في عضدهم وأصر رجاله على مواصلة القتال حتى آخر رمق، وقد فقد عسو أخاه وزوجته في المواجهات واثنين من أبنائه وأصيب بجرح في رجله نتجت عنه إعاقة لازمته إلى آخر يوم في عمره. سلام الشجعان : كانت مواصلة القتال دون ذخيرة ضربا من ضروب الانتحار ولم يكن "عسو"ولا أتباعه من الذين يرضخون لإذلال المستعمر، بل على العكس تماما فقد ظهر منذ الطلقة الأولى التي وجهوها لعدوهم أنهم يفضلون الموت على المهانة ، و كان الفرنسيون على وعي تام بهذا المعطى ويعرفون جيدا من هم أبناء آيت عطا وآيت حمو وآيت مورغاد ، وقد لعب القبطان "سبيلمان " دورا هاما في جمع البيانات عن القبائل المُقاِومة خاصة و أنه أمضى زمنا غير يسير بين ظهراني أبنائها متنكرا في زي فقيه ، ولهذا فقد أيقن الفرنسيون أن المفاوضات ستحفظ ماء وجه عسو ورجاله وألا حل مع القبائل المقاومة إلا بالمفاوضات، وهكذا التقى الجنرال هور بعسو أوبسلام قرب زاوية خويا إبراهيم وعرض عليه الصلح في 25مارس 1933م . فوجئ هور أثناء لقائه بالوفد الممثل للمقاومة بمعنويات قادة المقاومين المرتفعة وقال عنهم لاحقا : "كانوا يظهرون هادئين وقورين غير محطمين …واعيا بأنهم صمدوا حتى النهاية وحافظوا على عاداتهم المشبعة بالحرية والشهامة " . فاوض عسو خصومه بمعنويات مرتفعة واشترط عليهم أن يسترد المجاهدون أموالهم ، وألا يتعرض الغزاة بسوء لنسائهم وألا يجبر الناس على خدمة الأجانب وأن يظل عسو شيخا لقبائل المقاومة وألا يكون للكلاوي نفوذ في منطقتهم ، فوافقوا على شروطه دون تردد . غير أن المثير للدهشة حقا أن النساء وقفن موقفا معاديا للصلح وتبارين في هجاء عسو وفي ترديد أشعار تنال منه لأنه قبل المفاوضات مع العدو الذي قتل أبناءهن وأزواجهن وآباءهن وذلك وإن كان لا ينتقص من قدر عسو شيئا لأنه حكم لغة العقل ، حينما خانته الذخيرة والسلاح كما فعل قبله البطل عبد الكريم الخطابي ، فإنه يدل على أن نساء سوس طينة نادرة من النساء وأنهن نموذج فذ من نماذج التضحية والفداء .