من العبارات والموضوعات ما تستدعي مثيلاتها كما يقع في تداعي المعاني، حدث لي ما يشبه هذا عندما سمعت بعض الزملاء المدرسين في قاعة من قاعات مؤسسة تعليمية تربوية، حينما كانوا يتحدثون عن "القلق التربوي" كتجربة وجودية لدى المدرسين والشعور بالذات لديهم، ضمن بعض الهموم والانشغالات أثناء مزاولة مهامهم وأدوارهم التعليمية والتربوية، سواء تعلق ببعض الممارسات السلوكية أو القيمية أو التواصلية اليوم، أو في بعض الاختيارات الديداكتيكية أو بعض الضغوط الاجتماعية ضمن مناخ عالمي متسارع ومتحول، أصبحت فيه المدرسة التقليدية عاجزة عن التجاوب الفعال مع متطلبات الحراك الاقتصادي والمعرفي والثقافي والاجتماعي، وضمن مناخ كذلك وطني تغذيه متغيرات الوضعية التربوية الراهنة التي تعيشها منظومة التربية والتكوين، ويشكل فيه رهان تجديد المدرسة المغربية وسبل تأهيلها للنهوض بوظائفها كاملة تجاه ذاتها وتجاه الدولة والمجتمع عنوانها الأبرز، مع التحدي والرهان الكبير المتمثل في بناء الإنسان، الإنسان الذي ينبض بالخير والعطاء والحب والجمال، والرقي بالذوق، وبالإحساس وصفاء الفكر، وصلاح الفعل وبالتعايش وبياض الفعال والتسامح... بعيدا عن الصراع وباقي السلبيات ولا سيما العنف. والحالة هذه داعبت تفكيري كثيرا، حيث استدعت هذه العبارة سالفة الذكر في ذهني ما أسماه "الباحث كيركجارد" عن وجوده الذاتي داخل النسق العقلاني "الهيجلي" الذي وجد نفسه ضائعا وسط مقولات مجردة مغلقة وصاح صيحته المشهورة "أنا أفكر أنا غير موجود" عكس ما ذهب إليه "ديكارت"، وأن المذهب العقلاني يتعارض مع الوجود الإنساني، تعارض الشيء المغلق مع الشيء المفتوح، ووجدت نفسي وأنا أبحث عن صورة حقيقية لوضعية موضوعية، وجدتني كذلك أدور في حلقة مفرغة حيث التيه والتشتت والضياع... ذلك أن المدرس بدوره يجد نفسه ضائعا وسط نظام تربوي تتخذ فيه التشريعات والقوانين المؤسسية المجردة طابع النسق القانوني المطلق، فهو رقم من الأرقام، يمثله رقم تأجير، تحدد وجوده المهني، وتضبط إطاره ومواصفاته، من أجل حصره "في ماهية قانونية مؤسسية مجردة"، بالإضافة إلى ذلك هناك الجانب الشيئي من الذات كما يحدده الآخرون من تلك الذات "إن المدرس من هذا المنظور مجرد أداة مستعملة، أو آلة بشرية تتحدد قيمتها بمدى مردوديتها وانتاجيتها، وفي هذا الصدد تقول "أدا ابرهام" إن الدراسات المنصبة على شخص المدرس لا تسعى إلى فهمه، بقدر ما تسعى إلى تطويره وتحسين مستواه كأشياء أو أدوات...، إنها تنظر إليه كشيء مجرد، وليس كفرد، وهذا ما يجعل المدرس يعيش قلق فقدان الهوية وضياع الذات. فضلا عن هذا، فإن تعدد المسالك وتشعب السبل والامكانيات أمام المدرس يجعله يواجه قلق الاختيار والمخاطرة، حيث اختيار أي طريقة أو أسلوب تربوي أنجع في العملية التعليمية من بين الطرق المتواجدة والممكنة في حقل التربية والتعليم، وأي الوسائل والتقنيات أنجع في إنجاح أسلوبه وطريقته في التدريس. ونظرا لكون اختيار المدرس لطريقة من الطرق أو وسائل محددة لا يكون صادرا عن إرادته واختياره الحر، بقدر ما هو رهين بتصور الآخرين للطرق والأساليب والأدوات الأنجح والأفضل، لهذا فإن المدرس يواجه خطر الاختيار الناجم عن الخوف من المغامرة والمخاطرة، قس على ذلك باقي الجوانب والمجالات التي تحبط مبادراته الذاتية والتي قد نناقشها لاحقا. علاوة على ذلك، فإن وجود المدرس مع الآخرين يهدد الذات بالتمزق والانفصال، فوجوده يكون من أجل الآخرين أكثر منه من أجل التلاميذ، يسعى إلى إرضاء الجميع، الشيء الذي يفكك هويته ويهددها بالتلاشي والتمزق والتشتت والضياع، إن الذات المربية لا تملك بنفسها تحديد هويتها بقدر ما تتقمص هويات وشخصيات يحددها الآخرون، وكما يقول الأستاذ "كوسدورف": "المدرس لا يكتسب كرامته وجدارته إلا بواسطة رضا وقبول زملائه أو باعتراف تلامذته بجميل صنعه". وفي حمأة صراعات إثبات الذات، ومأزق تشتتها وتعدد مظاهرها وأبعادها، يعيش المدرسون قلق استيلاب الذات علائقي النشأة بأساليب واقعية أحيانا... وتلك قصة أخرى. وأمام تشعب مقاربة هذه المسالك في قلق التربية أتربية القلق، خطر ببالي أن أقدم حصيلة مختزلة في الوقت الراهن لبحث يروم جانبا من هذه المعادلة، ولمجال يكاد يكون قطب الرحى في مقاربة الظاهرة، التي تطرح بحدة على الرغم من كون البعض ينظر إليها نظرة يسيرة في هذا القلق، الأمر يتعلق بالتواصل والاتصال، على أن الزوايا والتفريعات الأخرى لها وضعها الاعتباري في مقاربة الظاهرة، ويمكن تناولها لاحقا. وارتأيت أن أبدأ بالاتصال، فقد أكد خبراء التربية أن من أهم ركائز ودعائم النجاح اليوم هو تحقيق التواصل، كما أن الإحصائيات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التواصل لا يتحقق في مدارسنا اليوم، مما تتفاقم وتحتد معه المواجهات، فتطفو على السطح ظواهر أخرى من قبيل الصراع والعنف... بعدما استقالت الأسر من دورها واستقال المدرسون من دورهم الريادي ألا وهو التربية، فانهارت القيم يشكل فضيع، مما يجعل الحل متمثلا في ضرورة العودة لهذه الأدوار الطلائعية لرجال التربية والتعليم وإعادة الاعتبار لمجهوداتهم وتعزيز الثقة فيهم واحترامهم وتقديرهم. فما نعلمه اليوم هو أن الاتصال أصبح المحور الأساسي الذي تقوم عليه جميع العمليات الإنسانية المتعلقة بالفرد، ومما ساعد على إيجاد هذا الواقع، ذلك التقدم المتسارع في مجال التقنيات التي حلت محل الإنسان حتى لم يعد للإنسان أي دور يذكر، ولم يعد العالم تلك الرقعة الجغرافية مترامية الأطراف، التي تفصل فيما بينها فواصل طبيعية، بل أصبح كما عبر بعضهم "مدينة صغيرة" كدلالة واضحة على الانعزال والتقوقع والانطواء... وأن الفرد يصل داخلها إلى أي مكان. قد لا يكون هذا الأمر غريبا، فالنظر إلى الاتصال نظرة تاريخية جعلنا ندرك أن العملية التواصلية بدأت مع بداية الإنسان وتطورت بتطوره وحدد لها البعد الإنساني الذي تطمح إلى تحقيقه، لكن ظهور التقنية الجديدة شكل عنصرا بديلا عن الفرد في بعض الأحيان. إن الطاقة الآلية المرتبطة بوسائل الاتصال تعرضت في كثير من الأحيان إلى جدل كبير عن الأسس المؤثرة في العملية التربوية. والمتتبع لمعظم مدارس التربية في جل المجتمعات يجد أن اهتمام الفكر الإنساني انصب حول أسس تربية الفرد، باعتباره ركيزة من ركائز بناء المجتمع، وخلص علماء التربية وعلم النفس إلى عدة خلاصات أساسية من أهمها التركيز على أهمية فهم نفسية المتعلم ومحيطه الاجتماعي، وفهم بنيانه التركيبي للتمكن من استيعاب مكوناته، ومن ثم تسهل عملية تلقينه وتعليمه، ما يراد من فكر ومعلومات ومعارف. إن علماء النفس والاجتماع والتربية اهتموا بجزئيات العملية التربوية وأبعادها، وجاء علماء الاتصال ليحققوا بعض الافتراضات التي كانت بعيدة المنال، واضعين التقنية في مكان يمكنها من هذا. مبدئيا لا يمكن الفصل بين الاتصال والعملية التربوية لأن للاتصال وظائف تؤدي إلى تحقيق عدة أبعاد إنسانية، منها ترشيد العملية التربوية، وذلك من خلال العلاقة الجدلية بينهما. إن مجال التربية يتحدد في تكوين الفرد تكوينا يستمد أصوله من الأسس المصدرية للمجتمع، على أن مجال الاتصال هو تسهيل العملية التربوية بكل تفرعاتها تسهيلا يمكن من تحقيق الغرض المحدد. إذن، فالعلاقة بين المجالين تتحدد في الفرد، فالتربية تعمل على تنشئته وتكوينه وتطويره، والاتصال يخلق الأجواء الملائمة لذلك. ولقد عمل كثير من المهتمين بتطوير هذا التصور، وذلك من خلال البحث والدراسة في كل مجال على حدة، ثم من خلال القواسم المشتركة التي تجمع بين المجالين في إطار علاقة وظيفية حتى نتمكن من الخلوص إلى نتائج إيجابية في مضمار الاتصال والتربية. وقد حددوا المهام الاجتماعية لكلا المجالين على اعتبار أن لكل مجال طبيعته الخاصة يجب مراعاتها، فالتربية تعتبر إطارا صالحا لاصطناع وتنويع البرامج وتحديد مضمونها، وعلى هذا فلا يمكن تلمس الآثار الإيجابية أو السلبية للعملية التربوية، ما لم يتم توسيع طاقاتها المؤثرة من خلال فهم واستيعاب جل الوسائل المستعملة في هذا الغرض. والملاحظ أن جل المنظرين ممن اهتموا بمجالات الاتصال يعتبرون أن مهمة وسائل الاتصال تتجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الانتقاء، وبين المرحلتين يتبلور النقاش حول أهمية المضمون وأهمية الوسيلة، وفي سياق الجدل برز الدور العظيم للاتصال ووسائله في عملية اصطناع وتنمية أجواء تعليمية ملائمة لإنجاح العملية التربوية ولاكتساب نتائج متقدمة وإيجابية من خلالها، ولذلك اعتبر الاتصال في مرحلة أخرى وسيلة وموضوعا للتعليم، واعتبرت التربية أداة يمكن الاستفادة منها لتكوين الفرد. ويأتي هذا الدور جزءا من تأثيرات الاتصال على الفرد والمجتمع كظاهرة أساسية تتحكم في الحياة الاجتماعية وتؤثر على جميع الأوضاع التي يوجد فيها الفرد، إن هذا التأثير المتعدد تأثير متبادل في عملية اصطناع وإنتاج المعلومات وتحديد الغرض منها، وبهذا اعتبر الاتصال "علم التفاعلات بين الأفراد" التي من شأنها أن تحدث آثارا سلوكية معينة. والتأثير والتفاعل عنصران متلازمان لترشيد العملية التواصلية واستخلاص النتائج المرجوة منها على مستوى العملية التربوية. وقد أكد عدد من المهتمين على أن للاتصال دورا فعالا وأساسيا في مجال نقل المعلومات، وتوفير المعرفة الإنسانية تكاد كثير من المدارس العلمية المهتمة بتطوير الاتصال والرفع من طاقاته وإمكاناته أن تتفق على الدعوة إلى أن تصبح العلاقة بين الاتصال والتربية علاقة اتصال بالدرجة الأولى. إن نظام بث المعلومات والمعرفة في إطار المدرسة تبقى له فوائد أكثر مما في وسائل الاتصال، ولذلك اعتبر في نطاق مفهوم عام وشامل جزء من وسائل الاتصال في المجتمع، ومن ثم يجب الفصل بين نوعية الوظائف الاتصالية. الوظيفة التقليدية للاتصال في إطار المدرسة. الاتصال في وسائل الاتصال العامة. مما سبق نستخلص أن مفهوم الاتصال والتربية يؤدي إلى غَرض واحد وإلى بُعد واحد، وهو اصطناع تلاحُم إنساني يعتمد على التكوين، وهذا التلاحم والتكوين يرتكز على أسس واحدة تقوم على الاتصال وعلى متطلبات علمية للتربية والتكوين، بمعنى أنه دون اتصال لا يمكن أن نلتقي بالفرد ونفهمه ونلقنه ما نريد، ومن ضمن الوظائف التي يقوم بها الاتصال والتربية النهوض الثقافي، إضافة إلى التنشئة. الذات الإنسانية مشروع يتحقق باستمرار، وهي ما يوجد في حالة صيرورة وديمومة متواصلة، إنها ذلك المفقود المولود، والمولود المفقود الذي يبحث عن نفسه في المرآة الذاتية والاجتماعية فلا يجدها إلا ناقصة أو مشوهة أو مجزأة، وما أن تتمايز حتى تضيع في متاهات الأشياء، وفي غمرة الازدحام البشري، فيتولد نتيجة ذلك أتون في أعماقها تغذيه التربية أحيانا بمشاعر مؤلمة، نتيجة أزمات الصراع والاحباط، والكبت والقمع، وقد تعمل أشكال أخرى على تخفيف حدة ووطأة القلق. لكن القلق يبقى القوة الخارقة والدافعة للتقدم، وذلك من خلال ابتكار أساليب لتجاوزه أحيانا، وبذلك فإنه يتداوى منه به. أخيرا وردا على سؤال افتراضي وحقيقي في آن، ما هي الحلول الكفيلة بتجاوز بعض المعضلات التي أخذت تستفحل كظواهر وتتكاثف في الواقع اليومي وبشكل مخيف، حيثُ ازدادت فيه الجرائم والمشاحنات والاغتصاب والاكتئاب والقلق والعنف بكافة صنوفه بحدة، وبشكل عام غياب القيم؟ إن عصرنا مشحونٌ أكثر من ذي قبل بالقلق الذي يقودُ إلى الملل واليأس، لذلك فإنه من الصعب تمجيدُ الصبر الفني الخلاق لمطلقية الكمال، مثل التطرف والسخط واللغط واللامبالاة والعزلة والمسخ والغربة وسط الزحام. هذا وإن الحل المناسب والأنجع في اعتقادنا المتواضع-وكما خبرناه في فترات زاهية، ورأيناه وعشناه في الواقع، متجسدا من خلال سيادة قيم إيجابية قائمة على التربية الصحيحة-يتمثل في مواءمة الفطرة الإنسانية، وفي إرجاع القطار إلى سكته الحقيقية، كما كان سائدا في السابق، وذلك باضطلاع الأسرة والمدرسة والإعلام بالأدوار الملقاة عليها، وبالتركيز أساسا على التربية وإعادة الاعتبار لها، فهي الحجر الأساس لكل القيم المثلى. وإذا كان لنا عزاء ما، فهو في امتداد هذا الزمن الحضاري الذي مازال يهتم بالقيم الإنسانية، لكن السؤال هو إلى أي حد؟ هل نكتفي بعزاء قهر القلق الذي يسودُ عصرنا؟ إننا قلقون وجشعون في آن واحد على الرغم من كل ما يعرقل تقدمنا، لأننا سنكون تحت رحمة الأزمنة القادمة، لكن هذا لا يمكن أن يحبطنا بأن نتخلى عن زمننا وعن مسؤولياتنا. يبقى المجال خصبا للمزيد من الدراسات لتعميق البحث، واحتكاما لمختلف العلائق الممكنة والتشكيلات البنائية المتاحة، وللإحاطة بهذه الظواهر من مختلف الزوايا. وأختمُ بالقول إن الغاية الأسمى من التربية تتمثلُ في التدرب على التفكير، وتحقيق النزعات الطيبة وتعميقها في النفس البشرية... تبقى هناك زوايا أخرى في الانتظار لمقاربة الظاهرة وتناوُلها والإحاطة بها بشكل موضوعي وشامل.