مدخل تمهيدي: يأتي الحديث عن القيم في مجال التربية والتدريس في سياق التطورات التي عرفتها الساحة التعليمية في السنوات الأخيرة ، والتي وضع أسسها الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ورسم اختياراتها وتوجهاتها الكتاب الأبيض وما تلاه من وثائق وقرارات، وتنظيمات... انطلاقا من هذا الإطار المرجعي وما رافقه من مشاريع تطوير وتجديد المدرسة المغربية، برزت مقاربة التربية على القيم والتدريس ببيداغوجيا الكفايات والتربية على الاختيار، كإضافة نوعية ، وركيزة أساسية من الركائز التي يقوم عليها العمل التربوي كهدف لتطوير المجتمع، ووظيفة، وذلك لأسباب متعددة لا يسمح المقام بسردها. والحديث عن القيم في المدرسة المغربية ليس بالأمر اليسير، وإنما يبقى عملي هذا مساهمة متواضعة في إثارة مشكل تراجع القيم في المؤسسة التربوية، ومحاولة البحث عن أسبابه من أجل اقتراح بعض الحلول. فماذا نقصد بالقيم؟ تعريف القيم: القيم جمع قيمة، ومعناها الاقتصادي " الثمن" فنقول هذا الشيء ثمنه كذا، فنَعرف قيمته الاقتصادية. وقد عُرف هذا المفهوم بعدة تعارف نذكر منها: " القيم مجموعة من المثل والمبادئ والضوابط الأخلاقية الموجِّهة لسلوك الفرد" تعريف القيم الإسلامية: هي تلك المرتكزات التي تقوم عليها الحياة ، كما حددها الوحي المعصوم في علاقة الإنسان بنفسه ومحيطه وخالقه، فهي قيم إنسانية من حيث كونها مطلقة، وإسلامية من حيث كونها موجَّهََة بالتشريع الإسلامي الضامن لوجودها واستمرارها في كيان النشء". القيم الإسلامية في المناهج الدراسية: د .خالد الصمدي ص14 منشورات إسيسكو. بالعودة إلى الميثاق الوطني للتربية والتكوين نجد الإشارة قوية إلى التربية على القيم، كمرتكزات أساسية، تتمثل في الثوابت التالية: قيم العقيدة الإسلامية؛ قيم الهوية الحضارية ومبادئها الأخلاقية والثقافية؛ قيم المواطنة ؛ قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية. وانسجاما مع هذه المبادئ تأتي الغايات الكبرى في الميثاق، ومنها: - جعل المتعلم في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية؛ - منح الأفراد(المتعلمين) فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية...؛ - تزويد المجتمع بالكفايات من المؤهلين والعاملين الصالحين للإسهام في البناء المتواصل لوطنهم على جميع المستويات.... (الميثاق الوطني للتربية والتكوين /المملكة المغربية اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين ص10). وانطلاقا من هذه القيم التي تم إعلانها كمرتكزات ثابتة في الميثاق، يسطر الكتاب الأبيض مجموعة من الغايات، يتوخى نظام التربية والتكوين تحقيقها، نذكر منها: - ترسيخ الهوية المغربية الحضارية، والوعي بتنوع وتفاعل وتكامل روافدها؛ - تكريس حب الوطن وتعزيز الرغبة في خدمته؛ - تنمية الوعي بالواجبات والحقوق؛ - التربية على المواطنة وممارسة الديمقراطية؛ - التشبع بروح الحوار والتسامح وقبول الاختلاف؛ - ترسيخ قيم المعاصرة والحداثة - التمكن من التواصل بمختلف أشكاله وأساليبه؛ - تنمية القدرة على المشاركة الإيجابية في الشأن المحلي والوطني.(الكتاب الأبيض، ط يونيو 2002 ج 1 ص 13) . - ........ مواصفات المتعلم في نهاية التعليم الابتدائي (على سبيل المثال): يهدف المنهاج التربوي للسلك المتوسط إلى تحقيق مجموعة من المواصفات من أهمها: مواصفات مرتبطة بالقيم والمقاييس الاجتماعية وتتجلى في جعل المتعلم: متشبعا بالقيم الدينية والخلقية والوطنية والإنسانية؛ متشبعا بروح التضامن والتسامح والنزاهة؛ متشبعا بمبادئ الوقاية الصحية وحماية البيئة؛ قادرا على اكتشاف المفاهيم والنظم والتقنيات الأساسية التي تنطبق على محيطه الطبيعي والاجتماعي والثقافي المباشر. (الكتاب الأبيض 2002 ج1 ص22) القيم في المناهج الدراسية: لا يخفى ما للمناهج من أهمية، إذ تعتبر أكثر عناصِر المنظومة التعليمية إسهاما في غرس القيم وتعزيزها في نفوس المتعلمين. وعرفت مناهجنا تغييرا في اتجاه استهداف العديد من المفاهيم الحاملة للقيم من مثل مفهوم: - الإنسان (حاجاته الأساسية وآثارها عليه وعلى الآخرين/رغباته /دوافعه /إحباطاته...) [ - الإنسان والبيئة الطبيعية والاجتماعية: (تأثير الإنسان في البيئة وتأثره بها/ حاجاته الاجتماعية...) القيم والاتجاهات: نحو الذات (احترام الذات / تكامل الشخصية الإنسانية/ الرغبة في العمل المنتج ......) نحو الآخر (احترام الاختلافات / التسامح / الحق في الحرية والتعبير) .... وهذه القيم مستهدفة في مختلف المواد الأدبية والعلمية على السواء، نلحظ ذلك من اختيار النصوص أو المفاهيم، أو الصور ... (وإن كانت في المواد الأدبية أبرز وأقوى ). وظيفة المدرسة في غرس وترسيخ القيم : إن الحديث عن القيم في الحقيقة يعني الحديث عن بيئة متكاملة، عن عناصر ونواح وأبعاد تتكامل ويُدعم بعضها بعضا، وليس عن أمور تُسقَط على الناس إسقاطا، فلا يمكن سلخ القيم عن الحياة والممارسة، لذا ونحن نتحدث عن القيم ومسؤولية المدرسة في ترسيخها، لا يمكن أن نغفل تأثير الأسرة والجماعة والمجتمع، ووسائل الإعلام، وغيرها من المؤثرات الخارجية التي تتكامل في بناء القيم، غير أننا في عرضنا هذا سنبقى أوفياء لعنوان المداخلة ونركز الاهتمام على القيم ومسؤولية المؤسسة التربوية. إن وظيفة المدرسة خطيرة يميزها موضوعها الذي هو الإنسان الذي تَحضُنه في أكثر مراحل حياته أهمية. والمدرسة تميزها أدواتها ووسائلها وهي المعارف والقيم، وأهدافها التي هي تكوين المواطن من حيث هو إنسان حامل لمعارف، ولقيم ومبادئ؛ ومن ثم فإن الرهان قائم على المؤسسة التربوية في سبيل بلوغ ذلك الهدف. جهود الوزارة الوصية لتخليق الحياة المدرسية: منذ فترة طويلة والوزارة تسعى للرفع من مستوى القيم والسلوكيات داخل المدرسة المغربية، بطرق وأساليب شتى، منها: - إحياء الأيام العالمية (اليوم العالمي للطفل/ للمدرس /للمرأة/ للبيئة/ للتغذية / للسلام / للأشخاص المسنين/ للقضاء على الفقر/ للتسامح/ .... - إحياء الأيام الوطنية من مثل : عيد المدرسة/ ذكرى المسيرة الخضراء/عيد الاستقلال/ اليوم الوطني للشجرة / اليوم الوطني لمحاربة الرشوة... - إصدار المذكرات لتفعيل دور المؤسسة التربوية ، من مثل: تفعيل مفهوم الارتقاء بجودة التعليم/ وقفة تربوية ضد الإرهاب/ الإقصائيات المتعلقة بالمباريات الرياضية/ الإقصائيات المتعلقة بالمسرح / المباريات المتلفزة/ جائزة كارسيا لوركا حول اللغة والثقافة الإسبانيتين/المباريات الجهوية لانتقاء أحسن مشاريع التنمية الجهوية التي يقدمها تلاميذ المؤسسات في إطار الشأن المحلي/المباريات المتعلقة بالعدور الريفي وكذا بألعاب القوى والرياضات الجماعية.../ - تنقيح المناهج من المفاهيم والمضامين المنافية لحقوق الإنسان؛ - إدماج مبادئ حقوق الإنسان، والتربية السكانية، والتربية البيئية، ومدونة الأسرة وغيرها من القيم بواسطة مداخل متنوعة (دروس / مقررات/ أنشطة..)... - تكوين الأساتذة والمفتشين في التربية على حقوق الإنسان - تتبع الدخول المدرسي؛ تربويا وإداريا.. - وضع شعار لكل سنة يرتبط بالتربية على القيم، يهدف الرفعَ من جودة النظام التربوي (شعار هذه السنة : الأسرة والمدرسة معا لترسيخ السلوك المدني). -الإشراف على الأنشطة الخاصة بالأطر التعليمية : مباريات إنتاج الوثائق التربوية، والأنشطة الخاصة بالمؤسسات : مسابقات أحسن مكتبة مدرسية/ أنظف مؤسسة/ أحسن داخلية/ ، و........... فكيف هو حال مدارسنا اليوم؟ 1- المناهج والطرائق والوسائل: لم تستطع المدرسة المغربية إلى حد الآن الانعتاق من النقل التقليدي للمعرفة بشكل فاتر، وعبر طرق تلقينية منغلقة على نفسها، فمناهجنا وطرائقنا لا تولي كبير عناية لعناصر الشخصية، بل تدفع المتعلم للبحث عن وسائل الخلاص من المدرسة، وتَحَيُّنٍ الفرص للخروج من الصف، والتباطؤ في الالتحاق به ...)، - طرق لم تعد ترضي طموحات المتعلمين، ولا تستجيب لتصورات المجتمع وآماله. لأنها لا تتيح له فرص التجدد، ولا تلبي حاجته إلى التطور والتقدم، رغم ما أُضْفِيَ على المناهج من تطور وتجديد بتحيين للمعارف ، وتعزيز للمقررات بحصص للأنشطة الصفية واللاصفية، ودعمها بالوسائل السمعية البصرية... 2- التقويم: مثله مثل التدريس من أبرز عيوبه أنه ينصب على تقويم المعرفة في غياب تام لتقويم الشخصية؛ تقويم يختزل المتعلم في علامة (النقطة) - تقويم لا يستحضر مدى: التزام المتعلمين بقواعد السلوك العام وقوانين المدرسة احترامِهم لقيم ومشاعر واتجاهات الآخرين مستوى وطبيعةِ تصرفِهِم في المدرسة وحولها العلاقةِ الإيجابيةِ والبناءة بين التلاميذ والمدرسين والإداريين... تقديرهِم للملكية العامة والخاصة... (نقطة السلوك في السنة الثانية من سلك البكالوريا، غالبا ما تعطى مجانا، وقيمتها لا تشكل وزنا كبيرا في نتائج البكالوريا) 3- العلاقات التربوية: تقوم على: * مبدإ اللامبالاة بالآخر وبحقوقه وبثقافته وحاجاته... * الغلبة للقوي: اختلاط المفاهيم والقيم، وتضاربها داخل المؤسسة الواحدة، وبين الجماعة الواحدة... / غياب فهم موحد للحقوق والواجبات داخل فضاء المؤسسة التربوية/ هروب من المسؤولية/ تجاهل للقانون الداخلي / تطاول على حقوق المؤسسة وتدخل في شؤونها الداخلية/... * العدوانية: العنف جزء من سلوك عام داخل المؤسسة، لدى التلاميذ، وبعض أطر المؤسسة على اختلاف مستوياتهم: تفجير للعدائية الدفينة، تكسير للمقاعد والنوافذ والأبواب/ تهديم للأسوار/ اعتداء على الأطر التربوية/ تلطيخ للجدران/ تمرد على العمل/ غش / تماطل في أداء الواجب/ رفض للحوار والاختلاف/ تمرد على الواقع/ مخالفات سلوكيةٌ وأخلاقيةٌ مدرسيةٌ مختلفة،.... * غياب للقيم الإيجابية: الديمقراطية (العدل – الإنصاف – المساواة- احترام الآخر وتقبلُه ..) / المواطنة / العمل التطوعي الجماعي/ ... 4- ظرفية الأنشطة وضعفها: بقيت الأنشطة ظرفية محكومًة بمناسبات خاصة، في أكثر مدارسنا، ومشاركات التلاميذ والأطر التربوية فيها مقصورة على فئة محدودة، وغير مستقرة غالبا، ينقصها التأطير الجيد، والخبرة الكافية لتنجح في ترسيخ القيم الإيجابية. مدارسنا ومسؤولية ترسيخ القيم الإيجابية: ترسيخ القيم يتطلب: - بناء وتشكيل نظام قيم مرتبط بالمعايير الاجتماعية والدينية، ليشكل الإطار المرجعي للسلوك والتنشئة، وجعل القيم حلقة من حلقات الرعاية (إعداد دليل للقيم التربوية للمدارس). - إخضاع النظام التربوي المدرسي برمته (جميع المعارف المدرسية وكل الأنشطة التربوية ...) للقيم وتضمينها له. - بناء المناهج على نظام التكامل بين الوحدات الدراسية من جهة ، والوظيفية من جهة ثانية، مما يساعد على تكوين أفراد قادرين على تنظيم خبراتهم الخاصة واستثمارها في إعطاء معنى للحياة. - تبني الاتجاه الوظيفي في تقديم المعرفة ، لأن المعرفة المنعزلة لا قيمة لها من الناحية التربوية (المعرفة متكاملة ومتصلة ومرتبطة، وهدفها تحقيق الشخصية الإنسانية، والعلم بلا وظيفة أصبح متجاوزا). وهذا يتطلب اختيار برامج مرتبطة بالمواقف الواقعية (الحياة) / التخفيف من المقررات / خلق التكامل بين البرامج والمواد المتقاربة، التي تعاني من تجزيء المعرفة ... - تشكيل لجن عليا لدراسة الظواهر السلوكية المستفحلة، والخروج برؤية تربوية للقضاء عليها (ظاهرة الغش / ظاهرة التماطل في أداء الواجب/ ظاهرة الشواهد الطبية... - توفير فضاء مؤسسي تربوي مناسب لبناء شخصية المتعلم، وإشباع حاجاته النفسية والاجتماعية، من حب وإخاء واحترام وتقدير وأمن وحرية وانتماء... - تفعيل العلاقات الإنسانية في البيئة المدرسية، بتفعيل الأنشطة الصفية واللاصفية، ودعمها، وتعميمها، وإخراجها من دائرة التنفيذ الشكلي إلى ممارسات فعلية تُكسب المتعلم القيم المرغوبة (تشجيع تكوين نوادي التربية على حقوق الإنسان والمواطنة داخل المؤسسات التربوية/ تشجيع المبادرات المواطنة/ الانفتاح على المحيط الخارجي : الجمعيات – الإدارة العمومية/ وسائل الإعلام...). - إعداد أنموذج التزام أخلاقي يكون مضمونه السلوك المفترض من التلاميذ، وباقي الأطر التربوية والإدارية في المدرسة، وتطبيق قوانين الانضباط السلوكي - القدوة الحسنة (الرجل المناسب في المكان المناسب): بنهج الأسلوب الديمقراطي القائم على مبدإ: التشارك/ / الحوار/ التشاور/ التعاون/ المساواة/ المسؤولية (تفعيل الإجراءات الخاصة بإشراك التلاميذ في مجالس المؤسسات التربوية) ... (المدير القدوة /المدرس القدوة/ الإداري القدوة /الحارس القدوة...) ................. وخلاصة القول: إن المدرسة غير الملائمة بتجهيزاتها وعلاقات أفرادها، والتي تهضم حقوق المتعلمين، وتمارس عليهم السلطة القهرية، وتجعل منهم أشخاصا هامشيينً، مدرسة فاشلة، وتخرج الفاشلين، والممارسين للمزيد من القيم السلبية.، إننا كلنا مسؤولون عن إعادة التعليم إلى حضن التربية، كوسيلة لتحقيق عمارة الأرض ، وتحقيق مبدإ الاستخلاف، لقوله تعالى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته