بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    التنويه بإقالة المدرب العامري من العارضة الفنية للمغرب التطواني    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    مباراة الزمامرة والوداد بدون جماهير    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طقوس غرَائبيّة في احتفالات "هالوّين" و"يوم الموت"
نشر في هسبريس يوم 01 - 11 - 2019

تعرف مدن وقرى العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية في الثاني من شهر نونبر من كل عام يوماً هادئاً صامتاً لم يألفه الأجانب القاطنون في هذا الشقّ النائي من العالم، بما فيه مدينة مكسيكو سيتي، الحاضرة الأزتيكية العملاقة، إذ لم تكن ترى فيها سوى القليل من المارة يجوبون الأزقّة مهرولين، قلقين، متوجسين خائفين، مشدوهين..
تملأ الشوارع بعض قشور البيض الملوّن المكسر على واجهات بعض الدّور والأبواب. وكان الأمر يبدو غريباً نوعاً ما ومثيرا للتساؤل والفضول، أو على الأقلّ غير مألوف.
جاء ذلك بعد الاحتفالات بيوم هالوين أو ليلة السّاحرات التي يحتفي بها الغرب في يوم 31 أكتوبر من كلّ عام ببهرجة كبرى وأردية غريبة وأقنعة مخيفة، خاصةً عند الشعوب الأنجلوسكسونية، وأوروبا وبلدان أمريكا اللاتينية. ولقد انتقلت عدوى هذه التقاليع الرّهيبة ومظاهرها المُفزعة إلى مختلف بلدان المعمور.
عادات شعبيّة متوارثة
اتضح بعد ذلك أنّ السكّان قد برحوا المدن، وأمّوا القبور، وكنت تسمع أصوات الغناء والصيّاح يتعالى هنا وهناك، ورائحة البخور الغريبة تزكّم الأنوف والناس مازالوا في حيرة من أمرهم، يهرولون وبأيديهم باقات من الورود والزهور مختلفة الألوان والأشكال، والأحجام، وفى الأسواق لم تكن ترى سوى القرع (اليقطين) وقد احتلت الصّدارة بين المعروضات.
كان اليوم هو "يوم الموت"، وربما كانت هذه أكبر تظاهرة يقيمها الأحياء للموتى، فالمكسيكيّون يعتقدون أنّ موتاهم في هذا اليوم يعودون إلى دورهم فيعدّ لهم أهاليهم أطيب المأكولات، وأشهى الأطعمة، وبالذات تلك الأطباق التي كان يحبّها الميت عندما كان على قيد الحياة، فضلا عن إعداد أنواع كثيرة من الفواكه، والعسل، والسكّر، والملح وبعض الحلوى يطلقون عليها "خبز الموتى"، ويعتقدون أن موتاهم يخرجون إليهم في ذلك اليوم فيقضون الليل كلّه معهم في المقابر ويسهرون فيها حتى الصّباح.
هذه التظاهرات، والاحتفاليات الغريبة، تستمدّ أصولها وجذورها البعيدة من العادات القديمة للسكّان الأصليين للقارة الأمريكية. وتتمثّل هذه التظاهرات في الاحتفال بيوم الموتى أو يوم الموت. وقد أصبحت هذه العادة مزيجا بين العادات الشعبية المتوارثة الضاربة في القدم، والمعتقدات التي استجدت بعد اكتشاف أمريكا عام 1492. ومازالت هذه العادات منتشرة بين الناس على اختلاف طبقاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية والثقافية، ولهذه الاحتفالات عندهم رموز وأبعاد عميقة، فهي تجسيم لمفهوم الإنسان في هذا الصّقع النائي من العالم ونظرته للموت كحدث طبيعي لا يمكن ردّه أو صدّه أو التغلّب عليه أو تفاديه، يشل حركة الكائن، ويعود به من حيث جاء أوّل مرّة.
طقوس ضاربة في القدم
عرفت مختلف الحضارات البشرية القديمة هذا النّوع من الطقوس التي تحتفل بالموت كظاهرة طبيعية محيرة. وقد خلّفت لنا تلك الحضارات معالم، ومآثر، ومقابر أشهرها أهرامات مصر، والحضارات السابقة للوجود الكولومبي في أمريكا، ومجسّمات كلها ترمز للموت أو الموتى.
يعتبر الموت في هذه الحضارات نوعا من التصرّف العلوي، حدوثه لا يثير أيّ حزن أو همّ أو ألم أو حسرة أو حداد. وكان الناس يتقبّلونه كحدث طبيعي. وظلّ هذا الشعور مستمرّا حتى تاريخ الاكتشاف. ويرجع الاحتفال بالموت أو الموتى في الحضارات المكسيكية إلى ما يزيد عن ألفي سنة قبل المسيح؛ أي إنه يعود الآن إلى أربعة آلاف سنة خلت. ومثلما هو الشأن عند الفراعنة وبعض الحضارات القديمة الأخرى، فقد عثر على بقايا هياكل أدمية وبجانبها حاجياتها الخاصة، ومجسّمات مصغّرة وأقنعة وأواني وجواهر ومعادن وحليّ نفيسة من ذهب وفضّة.. إلخ، وكانت كلّ ميتة عندهم لها تفسير خاص، فالمحاربون عندما يموتون عندهم يصبحون "رفقاء الشمس"، وكذلك النساء اللائي تدركهنّ المنيّة عند الولادة.
ويذهب الأطفال إلى مكان أشجاره وثماره تدرّ لبنا.. أمّا هؤلاء الذين يموتون إثر مرض عضال، أو الذين ماتوا إثر نزول صاعقة، أو هبوب عاصفة، أو الذين ماتوا غرقا، فلهم مصير آخر بعد الموت أقلّ درجة من السّابق.
كان من عادة الأزتيك أنه عندما كان يموت أحدهم يجعلونه يجلس القرفصاء ثمّ يوثقونه جيدا ثم يضعون الجسم في نسيج من قطن حديث الصّنع، ويضعون في فمه قطعة من يشم، كانت ترمز إلى قلبه وعليه أن يتخلّى عنها وهو في طريقه إلى "متكتلات"، وهو مكان الموتى، ثمّ يخيطون الكتّان والجثّة بداخله؛ وفى ساحة بعيدة عن المدينة يعدّون منصّة عالية يضعون عليها الميت محاطا بحاجياته الخاصّة التي استعملها في حياته مثل درعه وسيفه، وتعدّ الأسرة بعض المأكولات التي غالبا ما تكون من عجّة الذرة، واللوبياء وبعض المشروبات.
ويقوم كبير القوم ليتأكّد من أنه لا شيء ينقصه، ثمّ تضرم النيران على طريقة الهندوس، وعندما يعلو اللهب في الفضاء يجلس أفراد عائلة الميت وهم يتأمّلون نهاية عزيزهم وينشدون أغاني هي مزيج بين الحزن والفرح في آن واحد، ثمّ يوضع الرّماد داخل وعاء إلى جانب اليشم. وكان الأزتيك يعتقدون أنّ الموت ليس سوى شكل جديد للحياة، كما كانوا يعتقدون في العالم الآخر، وكل ميت يأخذ طريقه نحو هذا العالم ويصنف حسب الأعمال التي قام بها في حياته، وعندما يصل إلى السماء السابعة كدليل على حسن تصرّفه عليه أن يترك هناك قطعة اليشم التي وضعها الأحياء في فمه.
وكان السكان الأصليون في أمريكا السابقة للوجود الكولومبي يؤمنون بالبعث أيضا، وهم يفسّرون ذلك باختفاء النجوم وراء الأفق، ثم تعود للظهور من جديد؛ كما يشبه عالم الأموات عندهم كذلك بالذرة التي بعد أن ترمى في أحشاء الثرى وتموت تعود للحياة من جديد في شكل نبات قائم جميل مثمر كانوا يعتقدون أنّ الوجود الحقيقي هو للرّوح وليس للجسد الذي يلحق به الفناء.
وكانت الجمجمة عندهم لا ترمز للموت وحسب، بل إنّها ترمز للحياة كذلك، إذ أنها تعني الأمل في البعث من جديد. يقول شاعر أزتيكي في هذا الخصوص:
إنّنا نأتي لهذا العالم فقط لننام
إنّنا نأتي فقط لنحلم
فليس صحيحاً أنّنا
نأتي للأرض لنعيش.
كانت الأرض عندهم بمثابة محطّة للمرور، أو جسر للعبور والانتقال إلى عالم آخر، وهكذا كان مفهوم الزّمن أو الفضاء، أو الحيّز، أو العالم المرئي، والعالم غير المرئي ليس سوى عالم واحد؛ وهنا تكمن ثنائية الاعتقاد في الموت والحياة، وأنّ الموت دليل الخلود وليس العكس.
الاحتفال بيوم الموت
الموت يسوّي بين جميع الأحياء ولا يمكن لمخلوق أن يفلت منه، وهو واقع يومي يحاول الناس نسيانه، إلاّ أنه يدركهم في آخر المطاف مهما طال مقامهم في هذه الديار. ويقاسم الشاعر الأزتيكي الكبير "نيزاوالكويوتل" شاعرنا العربي القديم زهير بن أبي سلمى هذه الحقيقة فيقول هو الآخر:
هكذا نحن أحياء- أموات
لا بدّ لنا يوماً أن نرحل
عن هذا العالم الأرضي
مهما طال بنا به المقام.
وللموت آلاف الأسماء في مختلف لغات الأرض، فالأموات الذين كانوا يوما أحياء يرزقون في الأرض ليس من السهولة نسيانهم في الحياة، وعليه يحاول الناس في المكسيك مرّة من كل عام في هذه التواريخ أن يرتدوا لباس المنيّة، أو يتدثّروا بمسوح الموت، أو قناع الحمام يتمثّلونه في الحياة قبل الممات استذكارا واستحضارا لموتاهم؛ ومن ثمّ جاءت هذه الاحتفالات التي تنطلق من أواخر شهر أكتوبر (تشرين أوّل) وتتوّج في الثاني من شهر نوفمبر (تشرين ثاني) من كلّ حول، حيث يخيّل للناس أنهم سيلتقون بموتاهم. وفي هذه الأيام يوقد في أعلى مكان من المنزل نور خافت إلى جانب مائدة وضعت عليها أشهى المأكولات، وأطيب الفواكه وألذّ الحلويات التي كانت أثيرة لدى الميت في حياته، ففي يوم 31 أكتوبر يبدأ الاحتفال، وعندما تسمع ضربات الواقيس (12 ضربة) عندئذ توقد الشموع والأنوار في مختلف الدور، وفي تلك اللحظة تخلو المدينة من المارّة ويسودها سكون شامل، ويبدأ الأطفال في إيقاد عيدان الندّ والبخور التي تشيع روائح زكية في مختلف أركان البيوتات والمنازل. وتوضع إلى جانب المائدة ورود، وأزهار، وشموع بيضاء واحدة لكلّ ميت، كما يوضع كوب من ماء ومجسّمات من طين وفخار ولعب لاستقبال الموتى، وفي الصّباح يتخيّل الناس أنّ موتاهم الصغار والأطفال مثلا يأتون لزيارتهم ويشاركونهم طعام الإفطار، وفي الساعة الثانية عشرة زوالا تستبدل الزهور البيض بالصّفر ثم تقرع النواقيس من جديد لاستقبال الموتى الكبار، كما تستبدل الشموع بقناديل سوداء، وشموع أكبر من الشموع السابقة. وفي الساعة الثانية عشرة ليلا يترحّم على الأموات، وعند الصباح تقرع الأجراس من جديد، عندئذ يخرج الناس من دورهم ويتّجهون للمقابر، وقد أوقدوا الشموع من جديد، وأشاعوا البخور في الأجواء، ويقضون الليل كله إلى جانب أحبّائهم الرّاحلين وقد غطّوا القبور بالورود والأزهار. وفي ثالث نوفمبر يتزاور السكّان في ما بينهم ويتبادلون الأطعمة والأطباق التي كانوا قد أعدّوها لموتاهم، وهكذا يقيمون روابط وأواصر ووشائج في ما بينهم.
كما يتّجه الناس في هذا اليوم أفواجا وزرافات ليلا إلى مدينة "مكسيك" القريبة من العاصمة العملاقة للترحّم على أجدادهم القدامى، وهم يحملون آلاف الشموع والقناديل المضاءة، ويشكّلون بذلك منظرا مثيرا، حيث تتلألأ الأضواء الصغيرة تحت عباءة الليل الحالكة. وينيف عدد الذين يزورون هذه المدينة في هذه المناسبة عن مليوني شخص، يؤمّون مختلف منازل المدينة للسّلام على ذويها، ومشاهدة الأطعمة التي أعدّت للموتى في كلّ دار.
"هالوّين" ومتحف الموت
لا يُعرَف كيف وصلت حفلات شبيهة بتلك التي تجري في المكسيك وبعض بلدان أمريكا اللاّتينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تحت اسم "هالويّن" أو ليلة السّاحرات؛ ويُعتقد أنه ربما تكون قد وصلت إليها من إنجلترّا، أو إيرلندا، ( السّلتيك)، حيث كانت ومازالت هذه العادة منتشرة إلى اليوم بشكل أوسع من السابق. وكانت بعض بلدان أمريكا اللاتينية قد عملت على منع إقامة هذه الاحتفالات، خاصة في الأماكن العامة، والشوارع وفى المدارس والمعاهد. وقد دأب الناس في معظم هذه البلدان على إحياء هذه الاحتفالات خاصة في ليلة 31 أكتوبر، حيث يرتدون أقنعة مختلفة، وأردية تنكّرية مخيفة.
ويوجد في المكسيك متحف فريد من نوعه خاص بالاحتفالات بيوم الموت والموتى. وتوجد في هذا المتحف العديد من الأجنحة، تشمل تقاليد مختلف جماعات السكّان الأصليين. ولا يتعلق الأمر بمعرض لنماذج من الموائد التي يتمّ إعدادها في مختلف الأقاليم بهذه المناسبة، بل هو معرض حول كلّ ما له صلة بهذه الاحتفاليات، وهو مفتوح على امتداد الحول للتّذكير بالموت، أو هو في الواقع تذكير بالحياة والأحياء؛ ذلك أنّ العديد من السكّان يرون في هذه الاحتفالات مناسبة للتأمّل وإعمال النظر والفكر في الحياة الحاضرة والحياة الأخرى التي تنتظر المرء، فيبدأ في مراجعة نفسه ويحاسبها حتى لا ينسى أنه مجرّد طيف عابر، أو ظلّ زائل في هذه الدار، وأنه لا بدّ راحل لا محالة يوما نحو العالم الآخر. وكان المتحف البريطاني في لندن أقام منذ سنوات معرضا حول مختلف المراسيم التي تقام للموتى في المكسيك، حيث تسنّى للأوربييّن التعرّف على تفاصيل هذه الاحتفالات الغريبة، وكيف ينظر المكسيكيون إليها.
يوم للكتّاب وللمُبدعين
منذ 1986 اعتاد "الاتحاد العام للكتّاب المكسيكييّن" على إقامة مناسبة خاصة بالكتّاب والفنّانين والمبدعين الراحلين. ومائدة الكتّاب على عكس التقاليد السائدة هي ليست من مأكولات وحلويات بل من نور وزهور. وهذا التقليد جديد في المكسيك لم يسبق إليه أحد من قبل. ويتمّ إقامة هذا الحفل في مسرح كبير بالمدينة في حيّ "كيوكان"، وهو حيّ معظم قاطنيه من الكتّاب والفنانين، وتقدم خلاله أشرطة وتسجيلات حول حياة هؤلاء الكتاب مع قراءة بعض إنتاجاتهم القصصية أو الشعرية، أو عرض بيان حول أعمالهم التشكيلية؛ كما تقام موائد مستديرة حول تلك الأعمال، حيث يتخيّل المحتفون أنّ الرّاحلين حاضرون معهم خلال هذه الأمسية، وذلك باستعمال أدوات تسجيل حديثة ومتطوّرة تتضمّن أصوات هؤلاء.
وهكذا تمتزج التقاليد بالفنون في جوّ تنبعث منه روائح البخور الزكية والشمع المحروق. وقد حقّقت هذه التجربة نجاحا كبيرا رغم أنه كان هناك من عارض إقامتها، معتبرا ذلك تجنّيا وتطاولا على تقاليد مازال السّواد الأعظم من الناس ينظرون إليها بنوع من التبجيل. كما تقدّم خلال هذه الاحتفالات بعض الأعمال المسرحية التي تجلّي عمق هذه العادة، وتحلّل رمزيتها. وهكذا يكتسب هذا التقليد بالإضافة إلى طابعه الرّوحي طابعا اجتماعيا وثقافيا، حيث يتذكّر فيه الناس أحبّاءهم الراحلين، ويستحضر الخلاّن أصدقاءهم. ويتذكر المشاركين في هذه الاحتفالات أنّ عالم الأموات في العمق غير بعيد عنهم بل هو جزء لا يتجزّأ من عالمهم؛ ولهذا يحتفي الناس بهذه المناسبة ولا يبكون موتاهم.
الأدب والموت
في مختلف العصور والدهور كتب الكثير عن الموت، وهناك عشرات الكتب والمجلّدات والقصص والحكايات والأساطير التي تتناول هذه الظاهرة الطبيعية. ومن وجهة نظر المواطن المكسيكي الموت يعيش بيننا، ويضحك، ويبكي، ويغنّي، والاحتفالات التي تقام للموت إنما تأتي انطلاقا من هذا المنطق. وهذا المفهوم نجده مبثوثا في العديد من الحكم، والأشعار، والأمثال السائرة، فالموت في هذه الموروثات هو رفيق كلّ من تدبّ فيه الحياة، وهكذا فالجمجمة المصنوعة من القرع (اليقطين) والعيش المرشوش بمسحوق السكّر والملح والحلويات والزهور ذات اللون الأصفر (يرمز إلى الشحوب والذبول)، واللون الأحمر (رمز الحياة والحيوية)، كلّ ذلك يقدّم في الاحتفال وإلى جانبه تكتب الحكم والأمثال والأشعار التي تذكّر بالموت. وكلمة الموت هذه التي تقشعرّ لها الأبدان في مختلف أنحاء العالم هي بالنسبة للمكسيكي شيء مألوف، فهو يلاطف الموت، وينام إلى جانبه، ويرتمي في أحضانه، بل إنه لا يتورّع من السّخرية منه.
وليس في الآداب العالمية شاعر أو كاتب لم يتعرّض لموضوع الموت في أعماله، وهو موضوع كان له وجود في مختلف العصور، في ملاحم بلاد الرافدين، وفي مصر القديمة، وعند الرّومان، والإغريق، وعند قدماء السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية وفى الأدب العربي قديمه وحديثه. وهناك العديد من الشعراء والفنّانين الذين تغنّوا بالموت أو كتبوا عنه، ففي الأدب الإيبروأمريكي نجد ممّن كتبوا عن الموت الكثيرين، منهم على سبيل المثال وليس الحصر: داريّو، وبورخيس، ونيرودا، وساباتو، وغاليانو،ولوركا، وألبرتي، وفيّارّوتيا، وخوسّيه بوسادا، وبرونو ترافين، وأوكتافيو باث، وبرناردو أورتيس، وتامايّو، وفريدا كاحلو، وريفيرا، وخوان رولفو الذي قدّم لنا في قصّته الشهيرة "بيدرو بارامو" بطلا من الأموات، وكارلوس فوينتيس الذي يتعرّض لموضوع الموت في شخص رجل مسنّ يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن الحِمَام (بكسر الحاء) خلال الثورة المكسيكية لأنه يعتقد أنّ استشهاده في هذه المعركة أكثر شرفاً له من أن يموت ميتة طبيعية.
كما نجد موضوع الموت عند معظم الشّعراء لدى معظم الأمم، منهم زهير، وطرفة، والأعشى، والخنساء، وأبو العتاهية، وأبو تمّام، وابن الروّمي، والمتنبّي، والمعرّي (في داليته الشهيرة وسواها)، وعمر الخيّام، وطاغور، وبودلير، ورامبو، وكافكا، وباسكال، وريلكه، وكامو، وهمنغواي، وسواهم من الأدباء والشعراء العالميين وهم كثير.
وقديماً قال المتنبّي:
أصارع خيلاً من فوارسها الدّهرُ
وحيداً وما قولي كذا ومعي الصّبرُ
تمرّستُ في الآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت أو ذعر الذّعرُ
ويقول شاعر آخر :
الموتُ باب وكلّ الناس داخله
فيا ليت شعري بعد الباب ما الدّارُ
الدار دار نعيم إن عملت بما
يرضي الإله وإن عصيت فالنّارُ
وقال آخر:
تزوّد من الدنيا فإنك لا تدري
إذا جنّ الليلُ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من سليمٍ مات من غير علّةٍ
وكم من سقيمٍ عاش حينا من الدّهرِ
وكم من فتى أمسى وأصبح لاهياً
وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري.
والأشعار، والأمثال والأقوال، والحِكَم في هذا الباب غزيرة لا حصر لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.