أكد الخطاب الملكي لعيد العرش لهذه السنة 2019 على المسار والتوجه النقدي الذي ميّز الخطابات الملكية الأخيرة، التي تلامس مكامن الخلل بعيدا عن لغة الخشب، من أجل تحليل عميق ورصين واستيعاب كامل لمضمونها، حتى يتسنى اتخاذ التدابير الفعلية الناجعة لتقويم الاختلالات المسجلة وتحقيق النتائج التي تعذر على العديد من المواطنين ملامستها في حياتهم اليومية، مما جعل مجموعة من السياسات والبرامج والمشاريع موضوع مساءلة، مادامت لم تحقق التنمية المرجوة من تخطيطها وتسطيرها، لغياب أثرها الفعلي على أرض الواقع. خطاب ملكي يؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ المغرب، مرحلة الملكية الثانية التي يؤطرها دستور فاتح يوليوز 2011، الذي لم يكتف بوضع تشخيص للأعطاب، بل سعى إلى توجيه الذات الجماعية، وكل من موقعه، من نخب وفاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين ومواطنين، لإيجاد حلول وبدائل حقيقية، عبر الإقرار بضرورة اعتماد نموذج تنموي جديد، يمكّن من تسطير سياسات عمومية مندمجة ومتناسقة، قابلة للتحقيق والتنفيذ، من خلال إرادة جماعية لمؤسسات ناجعة، تكرّس لمفهوم فعلي لربط المسؤولية والمحاسبة، ومن طرف مواطنين يجعلون من المواطنة الحقّة أولوية تترجمها ممارساتهم اليومية، وتكون الوطنية حافزا لهم لتحقيق ذلك. لقد تضمن الخطاب الملكي الأخير جملة من المفاتيح التي من شأنها تحقيق إقلاع تنموي حقيقي، وتقطع مع ما تم هدره من كلفة وما تم استنفاده من زمن، دون أن يتحقق شرط معالجة الفوارق الاجتماعية بالأساس، ودون أن يتأتى إرساء دعائم حكامة فعلية، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر، مسألة الثقة والكفاءة. إن مفتاح الثقة، الذي هو مدخل لإنجاح النموذج الجديد للتنمية، يجب أن يكون في الاتجاهين معا، وأن يتم التعامل معه في مفهومه الشمولي لا ببعد تجزيئي، لأنه لا يقف عند حدود العلاقة بين المواطن ومؤسساته، التي قد تعرف اهتزازا، هذا الاهتزاز الفعلي وليس الانطباعي الذي يقرّ به الجميع والذي تغذيه مجموعة من الممارسات السلبية التي لم يعد مقبولا استمرارها ووجب القطع معها لأنها تجرد المواطن من الثقة تجاه المؤسسات مما يساهم في ضعف انخراط المواطن في منظومة الإصلاح، بل يجب أن يكون أيضا في الاتجاه الآخر، لتحقيق تكامل بنّاء يضمن متانة العقد الاجتماعي الجديد، من خلال حلقات متصلة فيما بينها، مترابطة لا منفصلة، وذلك بمساءلة المواطن هو أيضا عن حدود وحجم ومنسوب انخراطه من أجل المساهمة في بناء مغرب الغد المنشود، وهو ما يعني بالنسبة لي، انخراطا جماعيا كلّيا لا فئويا أو نخبويا في الورش الذي يقبل عليه المغرب اليوم. وهنا يأتي المفتاح الثاني الذي هو الكفاءة والذي لا يمكن فصله عن المفتاح الأول، لأنهما معا آليتان لفك شيفرة التنمية المتذبذبة، التي بالرغم من توفير كل الإمكانيات المادية لها خلال السنوات المتعاقبة منذ 2005 إلى اليوم، ورغم ما أسسته من نجاحات في خطواتها الأولى، إلا أن فعاليتها ظلت محدودة لافتقادها لثلاثة ركائز أساسية، تتمثل في التوجه التربوي، التوجه الطبي والاجتماعي والتوجه الاقتصادي، التي بإمكانها تمكين المغاربة من برامج فعلية قادرة على أن تشكّل جسرا لتحقيق التنمية، وهو الموضوع الذي سنعود إليه في مقال لاحق. أما بخصوص المفتاح الثاني المتعلق بالكفاءة، فهو يدفعنا لفتح باب التساؤل عريضا حول دور الأحزاب السياسية في اختيار الكفاءات الفعلية، وكيفية تدبير هذا الاختيار ومعاييره وآليات الانتقاء، من أجل اقتراحها في المكان الذي يتناسب وخبرتها وكفاءتها لكي تشكل قيمة مضافة وتكون بذلك رافعة لتحقيق التنمية المنشودة في بلادنا، حتى تتم الاستفادة مما هو متوفر من إمكانيات مادية ومن كفاءات فعلية، دون أي هدر لأي من الجانبين. إن الحديث عن الكفاءة يتم اختزاله في مجمل الحالات في الرصيد التقني، الذي هو أمر محمود، لكن ما لا ينتبه إليه الكثير من الفاعلين والنخب السياسية في تقديمها لممثليها، هو أننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى في أمسّ الحاجة إلى كفاءات تدبيرية، قادرة على التسيير، أي إن المغاربة هم في حاجة إلى قيادات، لأن الكفاءات التقنية والعلمية ظلت متوفرة على مرّ كل السنوات في بلادنا، وهي ليست بالعقيمة في هذا المجال، لكنها كفاءات قد تنجح في جانب معين، وفي إطار نطاق وحيز خاص، لكنها متى تجاوزت الحدود الفاصلة والمحيطة به، تتبيّن محدوديتها. إن المغرب في سعيه نحو نموذج تنموي جديد قادر على المنافسة وعلى أن يمضي ببلادنا قدما ويضمن لها موقعا رياديا مقارنة بدول أخرى، لا بد له من كفاءات قيادية (leadership)، من أجل مردودية شمولية في بعدها العام لا جزئية في شقّها الخاص، هذه الأخيرة التي قد تحققها الكفاءة التقنية، خلافا للأولى التي تتميز ببعد النظر والتبصر والحكمة، والتي تجعل من التكوين المستمر آلية للنهوض بالأشخاص والارتقاء بهم إلى مستوى الكفاءة المطلوبة، وتسهر وتحرص على القيادة والإشراف والتتبع لكل المراحل التي سيتم قطعها، وهو ما سيمكّن المواطن المغربي عمليا من ملامسة أثر السياسات العمومية المسطّرة، وهذا النوع من الكفاءات هو الذي يعرف فيه المغرب خصاصا يجب تداركه والانكباب على معالجته، خاصة ونحن نرى أن كفاءات تقنية وعلمية مرّت من قطاعات معينة دبّرتها بما تأتى لها من إمكانيات، لكنها في نهاية المطاف وبعد أن غادرتها لم تخلّف وراءها قيادات فعلية قادرة على أن تطور من أداء هذه القطاعات وأن تحقق لها نجاعة أكبر، مما يؤكد أنها لم تكن يوما قيادات حقيقية. (يتبع). *عضو رابطة الاقتصاديين الاستقلاليين