قراءة في ملامح تونس يحكمها فقيه دستوري فاز قيس سعيَّد في الدور الثاني والأخير للانتخابات الرئاسية التونسية بنحو 73 في المائة من الأصوات. هذا الرقم كبير بالتأكيد، ويصعب الطعن في مصداقيته، والأهم هو أنه يقطع تماما مع متلازمة 99.99 % المعهودة في الانتخابات في المنطقة. لنبدأ الحكاية مساء الجمعة 11 أكتوبر الجاري لما انتهت المناظرة التلفزيونية الباهتة بين المتنافسيْن قيس سعيَّد ونبيل القرْوي، بادر الاثنان إلى مصافحة بعضهما البعض، وفتحا حوارا هامسا، بدا وديا. يفترض أن تدخل هذه اللقطة التاريخ الحديث لتونس. كان يفصل الرجلين عن موعد الاقتراع في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية أقل من خمس وثلاثين ساعة. انقسم الناس في تقييمهما لأداء الرجلين، كل حسب فهمه وتوقعاته. كنتُ أجلس بجانب مكتبتي في المنزل أتابع المناظرة مباشرة عبر موقع القناة الرسمية التونسية على "يوتيوب". لم تكن المناظرة لا ساخنة ولا مقنعة. لكن مجمل العيب ليس في الرجلين وإنما في طريقة تصور المناظرة التي كانت أقرب إلى برنامج مسابقات ثقافية، عامل الوقت هو المتحكم، بدلا من أن تكون لقاء انتخابيا يتبادل فيه المرشحان الأفكار والبرامج ويحاولان إبراز نقط ضعف بعضهما البعض. رغم هذا الضعف الواضح في تركيبة البرنامج، فقد كان كافيا لمعرفة ملامح شخصية الرجلين وطريقتهما في التفكير. السيد نيبل القروي رجل أعمال، عرف كيف يتعايش مع نظام الراحل زين العابدين بن علي رغم سطوة المقربين منه على جل الأسواق والصفقات. استطاع القروي أن يتعايش مع مرحلة ما بعد بن علي، فوسع نطاق أعماله ونزل بثقله في المجال الإعلامي، ودخل معترك السياسة فحصد لنفسه مكانا في المشهد الحزبي المتصارع. ولأن المال والسياسة حين يتزوجان لا بد أن تنجم عن هذا الفعل تجاوزات مقصودة أو عن غفلة أو من فعل "الضرائر" في كواليس السياسة، فقد نال نصيبه من السجن بتهمة التهرب الضريبي وغسيل الأموال في قضية لم يحسم فيها القضاء حتى الآن. نجح القروي في تخطي الكثير من المطبات، ولما حل عام 2016 اختطفت يد المنون ابنه خليل، فظهر الوجه الأبوي لنبيل وبدأ في حملات عمل خيري لفائدة فئات فقيرة ومناطق تونسية مهمشة حلت بها نكبات. كان بعمله هذا يسجل نقطا انتخابية، سواء عن قصد أم بدونه. مقابله في المناظرة كان يجلس أكاديمي وقور. يحفظ عن ظهر قلب فصول الدستور التونسي وغيره من دساتير العالم، ويعرف جيدا معنى المعاهدات والاتفاقات الدولية والتزامات تونس الإقليمية. ملامح وجهه جامدة، تذكرنا ببعض شخصيات الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية التي كان يصعب قراءة ما تخفيه خلف عيونها. كلما وجه منشطا المناظرة سؤالا للسيد سعيد، كان يعود بهما إلى أحداث من خمسينيات القرن الماضي، أو في العقود الأربعة التي تلتها. إنه رجل تاريخ بامتياز. لكنه كان يستهلك وقته في هذه التفاصيل التي تضيق بها الدقائق الثلاث أو الاثنتان التي كانت ممنوحة له للجواب. الآن وقد أعلن عن فوز سعيد بأغلبية كاسحة، فإنه سيكون نزيل قصر قرطاج المقبل. سيجد في استقباله وبرفقته عناصر من الحرس الرئاسي ومستشارين وموظفين ورؤساء وكالات المخابرات والأمن وقيادات الجيش، وطيف حكومة ستكون ولادتها عسيرة. كما سيجد في ساعات خلوته طيف من سبقوه إلى ذلك القصر الذي تتناوب عليه نسمات الشاطئ العليلة حينا، ورياح شرقي المتوسط العاتية أحيانا، بعضها ربما اصطدم براكبي أحد قوارب الموت التي تحاول الوصول إلى البر الأوروبي. بموجب الدستور التونسي الحالي، تكاد تنحصر صلاحيات رئيس الجمهورية التنفيذية في قضايا الدفاع والأمن الوطني وفي السياسة الخارجية. وعدا ذلك، يصبح الرئيس أشبه بالمتفرج. قبل انطلاق الحملة الانتخابية في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، طرح موضوع صلاحيات الرئيس. قال بعض المرشحين آنذاك إنهم سيسعون لتقوية موقف الرئيس دستوريا، واستعادة ما ضاع منه بموجب دستور يناير عام 2014. أي بتعبير آخر، اعتماد نظام رئاسي يجنب البلاد مطبات الاحتباس الحزبي الذي كاد يعصف عام 2013 بالاستقرار وبمكاسب الإطاحة بنظام حزب التجمع الديمقراطي الذي كان يرأسه بن علي. بالتأكيد بعض الأحزاب لن تقبل بتغيير التوازنات الدستورية الحالية. فهي تعرف أنها بحكم طبيعتها وسندها الاجتماعي، لن تستطيع الوصول إلى سدة الرئاسة، لذلك فهي تركز على مجلس نواب الشعب الذي يفرز رئيس حكومة ذا صلاحيات واسعة أمنيا واقتصاديا واجتماعيا. إذن، ما لم يسترجع الرئيس سعيَّد بعضا من الصلاحيات التي أخذت من سلفه، الراحل باجي قايد السبسي، فإن معرفته بالدستور والقوانين وبالتاريخ لن تجديه كثيرا. تنتمي تونس لمجموعة بلدان المغرب الكبير. وهذه البلدان عرفت منذ افتكاكها الاستقلال عن فرنسا وإيطاليا بطغيان شخصية الرئيس أو الملك على الحكم. والمواطن التونسي البسيط لا يفهم أن الرئيس سعيّد محدود الصلاحيات. فمنذ الإطاحة عام 1957 بحكم الملك محمد الثامن (المعروف باسم الأمين باي)، ظل التونسيون يعيشون في كنف رئيسين قويين وشخصيتيهما طاغيتان، هما الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. هذا الشعور لم يتغير لدى الناس لاعتقادهم حتى الآن بأن منصب الرئاسة ذو طبيعة تنفيذية. هل سيستطيع الرئيس سعيَّد أن يعدِّل شيئا من هذا الخلل الذي وصفه المرشح السابق، عبد الكريم الزبيدي، بالنظام الذي لا هو رئاسي ولا هو برلماني؟ يدخل السيد سعيد قصر قرطاج ونسبة البطالة تجاوزت 15 في المائة، والأداء الاقتصادي في صورة سيئة. سيحتفل سعيد بأول ليلة يقضيها في ذلك القصر، بينما بلاده ما زالت تسعى جاهدة لإبعاد وصمة الإرهاب عن شوارعها ومنتجعاتها السياحية، ويقاتل جنودها وعناصر شرطتها ببسالة لمحاصرة الإرهابيين في بعض الجيوب الجبلية البعيدة. وغير بعيد عن حدود بلاده الجنوبية الشرقية، يدرك الرئيس الجديد أن الجيش الذي يتبع لسلطته لا تخطئ آذانه دوي الانفجارات التي تقع في ليبيا المجاورة، وما يشكله ذلك من تهديد لأمن تونس، وتأثير على عيش مئات الآلاف من التوانسة الذين يرتبط دخلهم بليبيا مباشرة أو بشكل غير مباشر. يقول بعض العارفين بكواليس الحكم في تونس إنه بما أن الرئيس سعيَّد ليس من أهل "السيستام"، أي مطبخ الحكم، ولا هو يستظل بهيئة حزبية واضحة، ولا هو ينتمي بيولوجيا أو بالمصاهرة إلى إحدى العائلات الست أو السبع المسيطرة على الثروة منذ الاستقلال، فإن بعض الأجهزة السيادية كالمخابرات مثلا، قد - وهم يشددون على "قد"- تتردد كثيرا في إمداده ببعض المعلومات الحيوية التي تكون حاسمة في مدى صواب الكثير من قراراته. ثم هل ستتعاون معه الحكومة المقبلة التي يبدو أنها ستكون مبلقنة وضعيفة، ومتصارعة مكوناتها، ما لم تشهد تونس انتخابات نيابية جديدة؟ قبل انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية التونسية، شاهدت لقاء أجرته إحدى الفضائيات العربية التي تبث من لندن مع عارضة أزياء كانت تعتزم ترشيح نفسها لرئاسة تونس. شعرت حينها بالكثير من الخجل من الإسفاف الذي نزل إليه بعض الإعلاميين في بحثهم عن ملء ساعات البث. كما شعرت بالأسى وأنا أرى عنجهية سيدة جاهلة لا تملك سوى جسدها وخبرة محصورة في استعراض الملابس، وتعد ببرنامج لحكم بلد ثورة الياسين اختصرته في إعطاء المرأة التونسية الحق المطلق في ارتداء الملابس التي تريدها دون تدخل من أحد! انتهى البرنامج التلفزيوني و"الرئاسي" لحسن الحظ أن القانون الانتخابي في تونس يضع شروطا كثيرة للترشح للسكن في قصر قرطاج، من بينها الحصول على تزكية عشرة نواب برلمانيين أو أربعين من رؤساء المجالس المحلية المنتخبة، أو توقيع عشرة آلاف من المسجلين في القوائم الانتخابية. هكذا انتهت هذه العملية كلها، فلم تترشح صاحبة التعبيرات الجسدية السمجة، في بلد ظل بورقيبة يصر على أن أكبر استثمار يحب أن يكون في التعليم ثم التعليم ثم التعليم. انتهت العملية وانهزم ممثلو الأحزاب بيمينها ويسارها وإسلامييها واستئصالييها وممثلي "السيستام" فيها. وقف جيش تونس الرائع على الحياد. وقفت أجهزة الأمن على الحياد. اضطلعت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بدور يستحق التنويه. وفي الختام، سيذكر التاريخ أن نبيل القروي بعث ببرقية تهنئة لغريمه قيس سعيّد، في سابقة عز نظيرها في أقطار الإقليم. كم أنت رائع يا شعب تونس.