بعض جهات نظر فلسفية إسلامية يعكس المعطى السياسي دور الدوافع والأهواء النفسية الشعورية واللاشعورية في جعل الممارسة السياسية تنفصل عن الأخلاق. نتيجة لهذا الأمر، تصيب الفعل السياسي مختلف العاهات والأمراض النفسية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، الخ. فلذلك، يظهر الطابع غير الأخلاقي للسياسة منطبعا في اجتماعنا المدني، حيث المصلحة الضيقة والمنفعة الآنية والمكر والتلاعب بالحقيقة والتمويه، وغيرها من الأفعال الدالة على الطبيعة الشريرة للكائن البشري، هي كلّ ما يطغى على الممارسات السياسية ويتسيّد واقعها. أمّا في ثقافتنا الإسلامية التقليدية التي يغطّي فيها التمثل الأخلاقي المصطنع، والذي أصبغت به كتب الآداب السلطانية العمل السياسي، فلقد ظهرت الآن محدودية إطاره النظري الذي يخلط الدين بالسياسة. وفي مقابل سذاجة الآداب السلطانية تلك، قامت بعض النماذج النقدية الأخرى (خاصة لدى فلاسفة الإسلام: الفارابي، ابن باجه، ابن رشد) بتناول السياسة المدنية اعتبارا من كونها حالة مرضية تستوجب الفحص العلاجي ومقاربتها نقديا. فإلى أيّ حدّ عالجت، إذاً، هذه النماذج الفكرية النقدية الممارسات السياسية غير الفاضلة؟ بداية، يمكننا التنبيه في سياق هذا النقاش النقدي للمعطى السياسي بما هو حالة مرضية إلى أهمية "القراءة النتشوية" الشهيرة في تشخيص ومعرفة صحة أو مرض ممارسة ثقافية معيّنة للسياسة سياسية، وذلك استناداً إلى ما يسمّيه نيتشه بالنقد الجينيالوجي وتشخيص "الحس التاريخي". غير أنّه تجنباً لأي إسقاط غير تاريخي لهذا النموذج على ثقافتنا الإسلامية، نودّ فقط تسليط الضوء على العلاقة المحتملة بين الممارسة المريضة للسياسة وظاهرة "الفساد السياسي" كحالة مرضية مزمنة. وفي سبيل ذلك، يتوجب علينا لفت الانتباه إلى أهمية النماذج الفلسفية النقدية من تاريخ فكرنا الإسلامي، ونخصّ بالذكر منها المحاولات النظرية الجادّة التي ركّزت في تحليلاتها للفعل السياسي على تأثير الفساد السياسي (الاغتناء، التغلّب، التسلّط، الجهل، التسيّب..) على أخلاق وفضائل المدنيين في الاجتماع المدني. إنّ السياسة، وفقا لهذا المنظور، تمرض وتعتلّ تماماً مثلما يمرض الجسد والحياة العضوية بصفة عامة، حيث تولد الكائنات الجديدة بعدما تموت القديمة التي مرضت وفسدت ثم ماتت. ولقد بيّن الفارابي في تحليله للسياسات المدنية الجاهلة (غير الفاضلة) كيف أنّ الاجتماع البشري في المدن السياسية، يشبه اجتماع أعضاء البدن في جسم الإنسان. فكما أنّ صحّة البدن هي من اعتدال مزاجه، ومرضه من انحرافه عن هذا الاعتدال، فكذلك صحّة المدينة هي من اعتدال أو خدم اعتدال أخلاق أهلها. أمّا مرضها، فهو من التفاوت الذي قد يظهر في أخلاق أهلها. لذلك، فمتى انحرف البدن عن الاعتدال في مزاجه، استلزم الأمر عيادة طبيب الأبدان ليحفظه أو يردّ عليه صحته. كذلك الأمر إذا انحرفت المدينة في أخلاق أهلها عن الاعتدال؛ فإنّ الذي يردّها إلى الاستقامة ويحفظها عليها هو الحاكم المدني (أي الفاعل السياسي الأول أو ما يُسمى بالحاكم). فالحاكم والطبيب يشتركان في فعليهما ويختلفان في موضوعي صناعتهما؛ إذْ الأول موضوعه طب البدن، بينما الثاني يشتغل بطبّ السياسة. فما معنى طبّ السياسة هذا؟ حقاً، لم يكن التقليد الفكري الإسلامي الكلاسيكي ليتغاضى عن علاقة السياسة بالصحة مادامت الخلفيات السيكولوجية والأخلاقية التربوية هي ما يحكم منظورها الغائي لوجود الإنسان في المدينة. فتحديد الإنسان بكون "الحيوان العاقل" قد جعل أية نظرة ممكنة للممارسة السياسية لا تخرج عن مقتضيات التصور الكوني والغائي. وهما المنظاران اللذان ينزعان نحو إضفاء طابع التوحيد المتناغم بين ما هو عليه نظام الكوسموس الطبيعي، وغائية ما يجب أن تكون عليه السياسة المثالية في الواقع. تماماً مثلما هو عليه التناظر بين ما كان يُسمى لدى القدامى بالعالم الأكبر«Macro cosmos» الذي يمثّل الكون في كليّته، وما اصطلح عليه بالعالم الأصغر «Micro cosmos» الذي كان يقصد به الإنسان المفرد من حيث هو وحدة عضوية / عقلية منسجمة، يتناظر في وجودها وحدة الكون. عبّر عن هذا الأمر في السابق الفيلسوف اليوناني أفلاطون: صاحب "الجمهورية"، عندما أراد أن يصلح أمر السياسة في نظام المدينة-الدول «Cité polis» اليونانية. قدّم هذا الأخير وصفته العلاجية لمرض السياسة، كألم الّم بجسم هذه المدينة (بما هي نتاج السياسات الفاسدة للأنظمة الفاسدة التي تعاقبت عليها: الطغيان، الديموقراطية، الأوليغارشية، التيموقراطية)، بأن يصبح رجل السياسة هو الحكيم الفيلسوف، وذلك حتى يتسنى له تقديم الجواب الشافي للحالة المرضية التي كانت عليها السياسة الفاسدة التي جرّت على المدينة-الدولة ويلات الفساد والطغيان في زمانه. يتأتى علاج السياسة الفاسدة بفضل المجهود النظري الذي يبدله رجل السياسة الحكيم القادر على علاج أمراض الممارسات المدنية المشوّهة. ولأنه الشخص العاقل الذي يعيش وفقا لمقتضيات النظام الطبيعي الإلهي للعالم، فإنّ فعله السياسي يغدو منظّماً بقدر ما تتحمّله طبيعته البشرية، حيث يضطر إلى تشكيل طبائع الآخرين بصياغة قالب الحياة العامة والخاصة تبعاً لما يراه من فضيلة وعدالة موافقة للعقل. إنّ رجل السياسة الحكيم هو الذي يستطيع أن يرسي نظام العدل السياسي في دولته، فيجعل مواطنيها عادلين استجابة للبحث عمّا هو هذا النوع من السلوك الفردي والسياسي والديني الذي ينبغي على المرء إتباعه لكي يتحقّق النظام وتنظّم الحياة البشرية عقلانياً فيحدث التوافق بين الكوسموس والدولة، أو بين نظام الكون ونظام المدينة، وبين قوى النفس البشرية فيما بينها. ولمّا كانت الوصفة الصّحية التي قدّمها أفلاطون تقوم على تأسيس الانسجام "العادل" بين طبقات الدولة، بحيث تنصرف كل طبقة إلى شؤونها الخاصة؛ فقد جعل هذا الانسجام قائماً على أسس صحية يشبه انسجام قوى النفس في البدن، حيث القيادة للعقل كقوّة ايجابية مؤثرة في القوة الغضبية والقوة الشهوانية. ولقد ظلت هذه الوصفة تعمل في الخطاب الفلسفي السياسي حتى بعد أفلاطون، خصوصاً عند مفكري الإسلام: كالفارابي وابن باجه، ثم ابن رشد تحديداً الذي يعتبر العدالة فضيلة الدولة وغاية تدبيرها المدني والسياسي؛ فهي تقوم على ثلاثة مبادئ: - أولها، تقيّد كل طبقة من الطبقات الثلاث (الحكام والحُماة والطبقة المنتجة) بالعمل على تحقيق كمالها الخاص من دون التطاول على كمالات الطبقتين الأخريتين. - وثانيها، أن تتعاون الكمالات فيما بينها لخدمة بعضها البعض الآخر، لإضفاء الطابع الكلي على العدالة. - والمبدأ الثالث لعدالة المدينة الفاضلة، يكمن في تبعية كمال الطبقة الأدنى لكمال الطبقة الأعلى في مقابل إفادة الأعلى للأدنى، واشتراك كل الكمالات (الوظائف) لخدمة الكمال الأعلى للدولة، وهذا هو التدبير العقلي للحكم السياسي الذي يقوم به الفلاسفة. إن المرض الذي يتهدّد الجسم السياسي آتٍ بالأساس من انعدام هذه الفضيلة الأخلاقية التي تتكشّف أكثر عبر قيمة الفضيلة، ممّا يتسبّب في نشوء مرض "وحدانية التسلط" الذي كان ابن رشد يقصد به الاستبداد الاستبداد بالسياسة من طرف الفاعل السياسي. لذلك فوجود الحكمة، باعتبارها كمالاً أولاً تتجّه إليه كل الكمالات الخاصة، في المدينة هو ما يضمن تطابق كمالات الجمهور مع كمالات الخاصّة؛ أي وحدة الدولة التي هي غاية العدالة (ابن رشد: تلخيص السياسة). هكذا، فإنّ مرض السياسة الأعظم هو استبداد الفاعلين السياسيين في تسيير شؤون الناس بفرض أهوائهم واتجاهاتهم دون الإنصات للأصوات المخالفة والمباينة لهم، والأمراض الأخرى آتية منه، فهو أُسُّ الأمراض السياسية كلّها. وقد عبّر عن ذلك، خير تعبير، المفكّر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي حين قال: "إنّ السياسيين يبنون استبدادهم على أساس من هذا القبيل، فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسّي، ويذللونهم بالقهر والقوّة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم، يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون" (الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد).