أثبت التعديل الحكومي الأخير أن الطبقة السياسية المغربية أخلفت موعدها مع التاريخ مرة أخرى بعجزها عن تجديد نخبها الوزارية، وخصوصا النخب الوزارية التي تتواجد في مواقع الالتقاء بين السياسة والاقتصاد. مقاومة الطبقة السياسية للدعوات الخارجية المطالبة بالتغيير والتجديد، هو رفض لإعادة ترتيب ميزان القوى بين المنتخب والمعين وبين السياسة والاقتصاد، وهو قبول ضمني من هذه الطبقة بانتقال تدريجي لمراكز السلطة التي تمتلك القدرة على التأثير في المستقبل، من البرلمان والحكومة إلى مواقع جديدة غير مرتبطة بالانتخاب والإرادة الشعبية. المؤسسة الملكية كانت قد عبرت عن أجندتها المستقبلية وتركت بالتالي للطبقة السياسية الخيار بين التجديد أو التهميش، وبالتالي عملت على فرض التقليص والتجميع ولم تضغط كثيرا على نوعية الأسماء المقدمة نظرا للمقاومة التي أبدتها الأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية والحزب المتصدر. من خلال التعديل الحكومي كانت المؤسسة الملكية تطمح إلى القيام بتغيير أشخاص الحكومة العاجزين بأشخاص ونخب جديدة قادرة على إيجاد حل للأزمة والبلوكاج الذي يعرفه الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، كما أن التعديل الحكومي كان يستهدف بالأساس تقديم نخب نوعية للمهام السياسية (التي لها تأثير كبير على مستقبل البلد) تجعلها قادرة على المشاركة في القرار والتصور إلى جانب المؤسسة الملكية. رفض الطبقة السياسية القيام بتغيير كبير في وجوهها المقترحة للمسؤولية الحكومية كان في حقيقة الأمر رفض للانتقال من موقع الحكومة والوزراء المنفذين إلى مستوى الحكومة والوزراء المقررين، أو على الأقل المستشارين. طبيعة الأجندة الملكية وخريطة الطريق التي رسمتها للمرحلة القادمة كانت تتطلب اللجوء إلى حلين لا ثالث لهما، الحل الأول يعتمد على الاشتغال مع حكومة قوية ووزراء أكفاء، أو اللجوء إلى الحل الثاني المرتكز على حكومة ضعيفة ووزراء غير أكفاء مع الاعتماد على اللجان والهيئات المعينة من طرف المؤسسة الملكية وإن اقتضى الحال تحريك المسطرة التأديبية في حق الوزراء المتعثرين في التنفيذ. الأجندة الملكية وخريطة الطريق الخاصة كانت ترتكز على ما سبق وأكد عليه الكاتب الفرنسي شاطوبريون من أن كل مرحلة تاريخية تحكمها ما أطلق عليه الفكرة الأساس، والفكرة الأساس التي كانت تشغل المؤسسة الملكية في هذه المرحلة هي الحاجة إلى رجال من طينة خاصة قادرين على إنجاح الفعل العمومي. 1. المؤسسة الملكية والحكومة الموظفة الباحث الفرنسي جاك ليموزي يؤكد أن الإصلاحات الكبرى التي قامت بها الجمهورية الخامسة في فرنسا تمت قيادتها من طرف إرادة رئيس الجمهورية ومن خلال التزام ومراقبة الوزير الأول والمعرفة بالفعل للوزراء الأكفاء، المهام الملقاة على كاهل المؤسسة الملكية انطلاقا من الفصل الثاني والأربعين من الدستور تحتم عليها ملأ الفراغ أو تعويض القصور الذي قد يلاحظ على أداء باقي المؤسسات، وبالتالي فان المؤسسة الملكية قد تنتقل في ادائها من الحضور الرمزي والخفيف مع المراقبة (وهو ما أطلق عليه السياسي الفرنسي ميشيل دوبري (magistrature morale) في حالة وجود رئيس حكومة وحكومة قويين ووزراء أكفاء، إلى مستوى الحضور القوي والكامل في الحياة الوطنية (intervenir directement dans la vie politique) في حالة الغياب وعجز البرلمان ورئيس الحكومة والحكومة والوزراء عن الفعل. عجز الحكومة عن احتلال المساحة المخصصة لها في الدستور (الحكومة القوية)، وعجزها عن التفاعل مع محيطها، جعل منها حكومة عمياء بما يجري حولها وبمحيطها (مشيل كروزيي)، كما أن عجز الحكومة يحتم على المؤسسة الملكية العمل على ملأ الفراغ، تأكيدا لجدلية (حكومة ضعيفة -ملكية حاضرة بقوة في الفعل العمومي) و(حكومة قوية -ملكية ذات حضور خفيف)، مما يعني أن المؤسسة الملكية قد تنتقل فعليا من ممارسة دور الحكم بين المؤسسات (الفصل 42 من الدستور) إلى ممارسة دور الموجه والمحدد الفعلي للأجندة الخاصة لباقي المؤسسات، وخصوصا الحكومة. غلبة مرجعية التأهيل الحكومي السائد في المغرب المعتمد على ثنائية (السياسي-الإداري) توضح أن الحكومة التي تعجز عن ممارسة مهامها السياسية تتحول فعليا إلى حكومة إدارية، وبالتالي عندما تعجز الحكومة عن لعب دور الحكومة السياسية، فإنها تكتفي بلعب دور الحكومة الإدارية، أو فعليا الحكومة الموظفة (حكومة تكتفي بممارسة مهام التدبير الإداري والمالي، حكومة عاجزة عن ممارسة مهامها السياسية-حكومة تكتفي بتنفيذ الأوامر -حكومة تخضع للمسطرة التأديبية-وزراءها في غالبيتهم موظفون). الضعف الحكومي دفع المؤسسة الملكية إلى الانتقال من ممارسة دور الحكم الأسمى بين المؤسسات بما يتطلبه من تنسيق أفقي، الذي يعتمد على الحكومة القوية والوزراء المقررين السياسيين أو الوزراء المستشارين، إلى التنفيذ العمودي في ظل حكومة ضعيفة ووزراء ينتظرون التعليمات، أي وزراء منفذين، وتدبير عمودي يعتمد على الأوامر ومحاسبة المقصرين والتأديب والعزل. 2. المؤسسة الملكية وسلطة تأديب الوزراء يستمد الملك هذه السلطة من فصلين في الدستور هما الفصل 42 والفصل 47 (وليس فقط الفصل 47 كما يعتقد الكثيرون)، الفصل الثاني والأربعين يحدد للملك مهاما أساسية من المفروض أن يقوم بها (رئيس الدولة-ضامن دوام الدولة -الحكم الأسمى بين مؤسساتها...)، هذه المهام المتعددة المطلوب من الملك ممارستها، تحتاج إلى وسائل أساسية من المفروض أن يخولها له الدستور، ومنها أساسا وسيلة التعيين المنصوص عليها في الفصل 47 من الدستور (بالنسبة للحكومة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن مهام دون ربطها بالوسائل). بالنسبة للباحث جاك ريكو، يمتلك الوزراء وضعيتين أساسيتين، فالوزير له وضعية عند الرأي العام وفي الإعلام ووضعية أخرى مرتبطة بالدستور والسياسة والإدارة، ولكن الملاحظة الأساسية بالنسبة للتجربة الحكومية ما بعد دستور 2011، هي أن الوزراء كان حضورهم عند الرأي العام وعند الإعلام ضعيفا جدا، وعبرت السلطة الرئاسية عن عدم رضاها عن مستوى الحضور الدستوري والسياسي والإداري لبعض الوزراء. هذا الضعف لم يعد مقبولا من طرف وزراء مطلوب منهم الاجتهاد والإبداع من أجل القدرة على تلبية المطالب الاجتماعية للمواطنين، وكما قال الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول "لا أحد ملزم بأن يكون وزيرا" (وبالتالي إذا قرر أحد قبول اقتراح التعيين في الحكومة وقبول الاختصاص المحدد له، فعليه أن يكون مقتنعا بأنه قادر على العطاء في المنصب وعلى تحمل المسؤولية بعد ذلك)، كما أن لا أحد ملزم بأن يبقى وزيرا (اذا ثبت لوزير ما من خلال التجربة أنه غير قادر على تحمل المسؤولية عليه أن يخرج بإرادته). يقول الباحث إيد باج: "إن الوزير السياسي يستمد قوته من قدرته على تحريك وشحذ دعم الرأي العام والإعلام"، أما إذا كان الوزير السياسي مثله مثل الموظف ومثل التكنوقراط، عاجزا عن حل المشاكل السياسية للبلد (الحسيمة-جرادة-العطش-التشغيل-النمو-العجز-المديونية) وعاجزا عن إقناع الرأي العام بما يقوم به، فعليه أن يمتلك الشجاعة السياسة ويغادر المسرح الحكومي بإرادته ليحافظ على شيء من الهيبة المتبقية لمنصب الوزير في المغرب. عجز وغياب الحكومة والوزراء عن القيام بخيارات سياسية قادرة على تلبية مطالب المواطن والشارع، وعدم القدرة على إقناع المواطن بصحة هذه الخيارات (وحتى في حالة الخيارات السلبية على الوزير أن يعلم أنه رجل دولة وعليه أن يمتلك خاصية القدرة على إقناع الرأي العام والقدرة على تبرير المصلحة الوطنية، أو يملك الشجاعة الضرورية لتحمل مسؤوليته عن الأخطاء المرتكبة) جعل مجموعة من المتتبعين للشأن السياسي في البلد يطرحون السؤال التالي: هل هناك فعلا حكومة سياسية بالبلد؟ وهل هناك فعلا وزراء سياسيون بالبلد؟ الوزراء يحتلون مكانة واقعية مرتبطة بعلاقتهم بالمؤسسة الملكية وكذلك بمؤسسة رئيس الحكومة، ويحتلون كذلك مكانة فعلية مرتبطة بنوعية المنصب الذي يشغلونه بالحكومة (وزير دولة-وزير-وزير منتدب-كاتب الدولة)، استمرارهم في المنصب مرتبط واقعيا بالعلاقة بالمؤسسة الملكية وبمدى التقييم المخصص لعملهم من طرف هذه المؤسسة، خصوصا أمام عجز مؤسسة رئيس الحكومة عن أخذ المبادرة التي يخولها له الدستور من أجل اقتراح استبدال الوزراء بغية تفعيل وتغيير سرعة اشتغال الحكومة. عندما يعجز الوزراء عن لعب دور الوزراء المقررين السياسيين، ولا يمتلكون الكفاءة للعب دور الوزراء المستشارين، فإن أقصى ما يتبقى لهم هو لعب دور الوزراء المنفذين، هذا الدور التنفيذي المحض يجعل البعض منهم "يستقيل-يقال-يعزل"، وفي التجربة الحالية، فان غالبية الوزراء تعرضوا في الواقع للعزل (الباحث الفرنسي دانييل أمسون يؤكد أن ما يقارب 19 في المئة من الوزراء في فرنسا قد تعرضوا فعليا لعملية عزل من الحكومة). عزل الوزراء قد ينتج عن أزمة سياسية، وقد ينتج عن تأديب من الأغلبية لبعض الوزراء، أو تأديب من رئيس الحكومة، أو تأديب من طرف المؤسسة الملكية، ويجب الاعتراف بأن التعديل الحكومي الأخير حمل في طياته فعليا ممارسة الملك لمسطرة التأديب (العزل) في حق مجموعة من الوزراء وكتاب الدولة. الاستغناء عن مجموعة من الوزراء (تقييم سلبي من طرف سلطة التعيين أو من خلال تقارير المجلس الأعلى للحسابات)، وفق مسطرة أقرب إلى مسطرة العزل الفعلي، يعني شرعنة تدبير سياسي جديد يحتاج إلى تأطير قانوني يواكبه ويعمل على حرمان الوزراء المغادرين على إثر مسطرة تأديبية من منحة المغادرة ومن التقاعد ومن حلم الإستوزار من جديد (تنظيمات المجتمع المدني في بعض الدول تضع لائحة سوداء للنخب غير المقبولة). 3. المؤسسة الملكية وعزل الوزراء باعتبارهم كيانات جماعية يتجاهل مجموعة من الباحثين في علم السياسة بالمغرب حقيقة أساسية تتمثل في أن الوزراء في غالبية التجارب الدولية هم كيانات جماعية (الباحث كي كركسون)، وليست كيانات فردية، التأكيد على كون الوزراء هم في حقيقة الأمر كيانات جماعية يجد تفسيره في كون الوزير هو في الواقع كيان جماعي يضم الوزير والديوان، وبالتالي لا يجب أن نتناسى أن اشتغال الوزير هو اشتغال جماعي، وهذا الاشتغال الجماعي هو الذي يقيم سلبا أو إيجابا من طرف البرلمان والمؤسسة الملكية ورئيس الحكومة والرأي العام، وبالتالي وإن كان التقييم يركز على الوزير، إلا أن الواقع لا يجب أن يستثني الديوان. الديوان هو في واقع الأمر وسيلة أساسية لتنفيذ الوزير لمهامه الدستورية المرتبطة أساسا بالشق السياسي أو بصفة الوزير باعتباره عضوا في الحكومة، وبالتالي على الوزراء أن يعرفوا أن منحهم حرية تشكيل الديوان ليس ريعا ممنوحا لهم تؤديه الدولة من أموال دافعي الضرائب، بل وسيلة لممارسة المهام، وبالتالي هو مورد للوزراء يجب أن يستعمل أحسن استعمال من خلال العمل على تعيين الكفاءات والخبراء ونخبة النخب. التقييمات السلبية لأداء الوزراء تتناسى شيئا أساسيا كون الديوان المشكل في الغالب من العائلة والأصدقاء والحزبيين هو كذلك عنصر أساسي يساهم في إنجاح أو إسقاط الوزير، وبالتالي لا يمكن إغفاله من النقاش، فالوزراء الفاشلون والوزراء المترددون والوزراء السلبيون والوزراء الأشباح هم نتيجة طبيعية كذلك للدواوين الفاشلة والدواوين المترددة والدواوين السلبية والدواوين الشبح. مما يجعلنا نستنتج أن التقييم السياسي السلبي لأداء الحكومة، هو تقييم سلبي لرئيس الحكومة والحكومة والمئات من أعضاء الدواوين، وبالتالي فإن إعادة النظر في الكفاءات الوزارية لا يجب أن يستثني إعادة النظر في الشروط المطلوب توفرها في أعضاء الدواوين الوزارية. 4. مسؤولية رئيس الحكومة عن وضعية الأزمة والبلوكاج التدبيري إن المسؤولية الأساسية لرئيس الحكومة تتمثل في قدرته على التحكم في التشكيلة الحكومية باعتباره قائد الأغلبية البرلمانية، وباعتباره كذلك المسؤول عن اقتراح الوزراء على سلطة التعيين، هذه المسؤولية هي التي تجعل من الأغلبية والحكومة والمجلس الحكومي كتلة واحدة تحت رئاسة رئيس الحكومة لتنفيذ البرنامج الحكومي (ينص الفصل الثالث والتسعون من الدستور على: يقوم الوزراء بأداء المهام المسندة إليهم من قبل رئيس الحكومة)، ولكن الوقائع أثبتت أن ضعف رئيس الحكومة في التحكم في الأغلبية والحكومة كان هو الحلقة الضعيفة في التجربة الحكومية الحالية (عجز رئيس الحكومة عن ترسيخ الزعامة المؤسساتية داخل الحكومة التي منحها إياه النص الدستوري). كما أن رئيس الحكومة عجز عن التحكم في وسيلة أساسية خصصها له الدستور الجديد وهي حق التعيين في المناصب العليا داخل الإدارة، وخصوصا في مناصب تعتبر مفتاح النخب الإدارية، وهي المناصب الخاصة بالكتاب العامين والمدراء المركزيين، هذه الوسيلة التي منحها الدستور لرئيس الحكومة هي من أجل خدمة المهام الموكولة إليه (ممارسة السلطة التنفيذية-تنفيذ البرنامج الحكومي-ضمان تنفيذ القوانين-الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة)، ولكن رئيس الحكومة وخارج التوقيع على مراسيم التعيين لا يتتبع عمل هذه النخب، كما لا يتوصل من لدنها بتقارير عن كيفية اشتغالها، كما لا يعمل على التنسيق بينها لخدمة البرنامج، مما يمثل العجز عن استعمال فعال للموارد الموضوعة رهن إشارته من طرف الدستور ويجعله بالتالي غير قادر على القيام بالمهام المطلوبة منه دستوريا. هذا الضعف جعل السياسات القطاعية والنخب القطاعية المكلفة بهذه السياسات داخل الوزارات تشتغل كجزر منعزلة، وبالتالي غاب التنسيق وغاب الحل. هذا الضعف غيب بشكل شبه كلي ما يطلق عليه ما بين الوزارات (الاجتماعات ما بين الوزارات في التجربة الفرنسية تتجاوز الألف في السنة)، غياب التنسيق ما بين الوزارات حرم الحكومة المغربية من المكان الهام الذي يتم فيه تطوير وتحديث الشروط المرجعية للسياسات العمومية المختلفة والمتنوعة. إن ما بين الوزارات هي المكان الذي يتم فيه تجاوز تعقيدات التنفيذ وإيجاد الحلول وتذويب الخلافات وترسيخ التنسيق، وبالتالي تعتبر ما بين الوزارات المكان الأساسي الذي يرسخ فعليا دسترة المجلس الحكومي وشرعنة مؤسسة رئيس الحكومة، الاجتماعات ما بين الوزارات هي التي تجعل التضامن الحكومي الميكانيكي يترك مكانه للتضامن الحكومي العضوي. ما بين الوزارات هي التي تعود الوزراء على الاشتغال الجماعي، وتدفعهم إلى تعلم العمل كفريق، وتبتعد بهم عن الاشتغال الشخصي، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالتجربة المغربية حيث تتكون الحكومة من مجموعة من الأحزاب، وبالتالي من حساسيات سياسية مختلفة. ومن جهة أخرى، وجب الإقرار بأن السياسات العمومية المزمع تنفيذها تتطلب القدرة على التأثير على مجتمع السياسات العمومية، هذا المجتمع الذي يضم الحساسيات المختلفة والمتناقضة للمجتمع الاقتصادي وعالم المال والأعمال الذي يضم الديناصورات والحيتان الكبرى التي لا يمكن مواجهتها بحكومة متذبذبة وغير قادرة على ترسيخ وحدتها أمام هذا اللوبي القوي. إثبات الحكومة لقوتها يتمثل أساسا في قدرة الأعمدة الكبرى للحكومة التي لها علاقة مباشرة مع هذه اللوبيات من صياغة برنامجها، وبالأساس من التوفر على برنامج موحد للفعل، ومن تنظيم ما بين الوزارات قوي وحاضر ولو على مستوى الدفاعي. يقول الباحث جاك فورنيي في كتابه العمل الحكومي إن القرن العشرين تميز بإنشاء هياكل لتنسيق ما بين الوزارات في كل الدول المتقدمة، مهمتها مساعدة رئيس الحكومة في قيادة العمل الحكومي، غياب هذا التكتل الوزاري جعل المجتمع يشعر فعليا بأن القوة الأساسية في الدولة هي قوة قانون السوق وقوة قانون الغلبة للأقوى وقوة قانون الغاب. ما بين الوزارات هي اجتماعات ترسخ كذلك ما قلنا سابقا من كون الوزير هيئة جماعية، وبالتالي فإن ما بين الوزارات لا تستدعي بالضرورة حضور الوزراء، بل تعتمد على حضور رؤساء الدواوين أو أعضاء الدواوين تحت رئاسة رئيس أو عضو ديوان رئيس الحكومة، ولم لا قد يتطلب الأمر في بعض الأحيان حضور ممثل عن الديوان الملكي. في التجارب الدولية تلعب دواوين رئيس الدولة ودواوين رئيس الحكومة ودواوين الوزراء دورا كبيرا في تعزيز الفعل وتعزيز التنسيق ما بين الوزارات، وفي إنجاح الإصلاحات الكبرى، ولكن في المغرب فإن ضعف التنسيق والانسجام الحكومي وضعف الدواوين الحكومية جعل هذه الدواوين بعيدة عن القيام بدورها كاملا، وبالتالي جعل منها ثقلا كبيرا على ميزانية الدولة. إن ضعف مؤسسة رئاسة الحكومة عن القيام بدورها المنصوص عليه دستوريا جعلها عاجزة عن لعب دور البستاني الذي يعمل على تصحيح الهفوات والثغرات التي يفرزها الفعل الجماعي للحكومة، وحرم السياسات العمومية في المغرب من المحرك والمرجعية والأساس الذي يتطلبه النجاح في تنفيذ السياسات العمومية. هذا الضعف كان ثمنه باهظا على التدبير العمومي وكذلك على التنزيل الديمقراطي للمقتضيات الدستورية من خلال انتقال المؤسسة الملكية من تعزيز التنسيق الأفقي ودورها باعتبارها الحكم الأسمى بين المؤسسات إلى تعزيز التدبير العمودي. 5. التعديل الحكومي والتقليص من عدد الحقائب الوزارية الانتقال من حكومة تضم تسعة وثلاثين وزيرا وكاتب دولة إلى حكومة من أربعة وعشرين وزيرا، هو فعلا تقليص يهم ما يقارب خمسة عشرا وزيرا وكاتب دولة، وما يقارب مائتين من أعضاء الدواوين وموظفي المنزل. ولكن الحزب المتصدر للانتخابات كان يفتقد للرؤية الاستراتيجية التي تعتمد على ربط الوزارات الفعلية بالسياسات العمومية، هذا الربط في نظرنا كان من المفروض أن يستند إلى الفصل التاسع والثلاثين وكذلك الفصل الأربعين من الدستور الذي ينص على أن على الجميع أن يتحمل، كل على قدر استطاعته، التكاليف، وبالتالي فإن المشرع الدستوري استعمل كلمة تكاليف وهي عبارة مشتقة من كلفة ومن المفروض في الكلفة أن تكون مقدرة في حدودها الدنيا، وبالتالي وعلى اعتبار أن الوزراء هم تكاليف بالأساس، فكان من المفروض فتح نقاش وطني حول الحد الأدنى لهذه التكاليف المتعلقة بالوزراء ودواوينهم وهياكلهم، حتى نعمل على عقلنة الشهية اللامحدودة للطبقة السياسية للصرف ونساهم بذلك في تحديد الكلفة في حدودها الدنيا والمقبولة. في القديم كانت مسألة التشكيلة الحكومية تعتبر شأنا سياسيا محضا يهم الطبقة السياسية وتوافقاتها التي يتم حلها (ترضية جميع الفرقاء السياسيين على حساب جيوب المواطنين) على حساب المال الأساسي لتمويل الحياة المشتركة، ولكن التجارب الدولية، وخصوصا التجربة الأنجلوسكسونية وحتى الفرنسية، عملت على ربط الوزارات بالمهام المتفق عليها (البداية من خلال تقرير بيك ومن بعد من خلال القانون التنظيمي للمالية الذي شرعن المهام). التقليص في عدد الوزراء وكتاب الدولة لا يعتمد فقط على المقتضيات الدستورية المرتبطة بالكلفة، بل وكذلك على الفصل السبعين من دستور 2011، الذي عمل على تكليف البرلمان بمهام التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية، وبالتالي فإن التنصيص على تقييم السياسات العمومية يعني العمل في البداية على تحديد السياسات العمومية، تحديد هذه السياسات العمومية بشكل قبلي يعني سحب البساط من تحت السياسي ووضعه في يد التدبيري، وفي أقصى الحالات وضعه ما بين السياسي والتدبيري. الشارع والمواطن والاحتجاجات نقلوا اهتمام الباحثين من التركيز عل الدولة إلى التركيز على الفعل العمومي للدولة، من خلال تنصيص المشرع الدستوري على تحليل السياسات العمومية، فهذا يعني فعليا أن السياسات العمومية هي من تجسد المصلحة العامة (الباحث باتريك جيبير)، خصوصا وأن العمل السياسي صار اليوم مرتبطا بتنزيل السياسات العمومية وعلى تقييم أثر هذه السياسات العمومية على المواطنين. السياسات العمومية تعمل على التفريق ما بين مجال الفعل العمومي ومجال التمثيلية السياسية، هذا التفريق يدفع في اتجاه خضوع التمثيلية السياسية للشروط المطلوبة لإنجاح الفعل العمومي باعتباره يرسخ المصلحة العامة، وبالتالي العمل على إخضاع السياسي للشروط المطلوبة من أجل إنزال السياسات العمومية التي تتجاوز التقسيم القطاعي للوزارات كمفهوم تقليدي. إن الدستور (وخصوصا الفصول 39 و40 و70) يعمل على تجميع التدخلات القطاعية التقليدية في السياسات العمومية الكبرى، سواء من خلال المهام أو من خلال قطاعات كبرى يتفق على تقسيمها قبليا وتعمل فعليا على تقليص الوزارات من خلال تخفيض الكلفة ومن خلال ربط الوزارة بالفعل العمومي (المجلس الدستوري الفرنسي عمل على ربط الوزارة على الأقل بمهمتين). بعد دستور 2011، كان الكل ينتظر حكومة سياسية قوية ووزراء أكفاء، حتى تتوفر الحكومة على القدرة على مواجهة اكتساح التكنقراط، المرتبط أساسا بتنزيل السياسات العمومية وما تفرضه من ضرورة الاستعانة بالتكنقراط على حساب السياسيين. الحكومة من المفروض أن تتوفر كذلك على وزراء أكفاء ومتخصصين في ميادينهم حتى يستطيعوا مقارعة النخب النوعية المتواجدة بالأجهزة المؤسساتية التي تعمل على تنظيم وإبداء الرأي في الحوار الذي يخص المجتمع بعيدا عن المؤسسات السياسية (المجلس الاقتصادي والاجتماعي-المجلس الأعلى للحسابات-بنك المغرب،...)، ضعف مؤسسة الحكومة والوزراء سيعمل مستقبلا إذا ما استمر طويلا على توسيع هامش التكنقراط على حساب هامش السياسيين. لقد قاومت الطبقة السياسية (من خلال التشكيلة الحكومية الجديدة) اليوم الرغبة الملكية في الاعتماد على التكنقراط والوجوه الجديدة، هذه المقاومة كان عنوانها الأساسي التشبث بنتائج الانتخابات الأخيرة، ولكن على الطبقة السياسية أن تتذكر جيدا الشعار المركزي الذي رفعه المتظاهرون في ماي 1968، الانتخابات هي فخ مليء بالسلبيات، وبالتالي الرهان على نتائج الانتخابات دون القدرة على الإبداع والابتكار في التدبير هو رهان خاسر. قال الكاتب الفرنسي برنانوس: "سنعيد بناء فرنسا دون نخب، سنعيد بناءها من خلال القاعدة"، ولكن بناء المغرب من خلال القاعدة يتطلب ثمنا باهظا لأنه يفتح الباب على المجهول. لهذا فإن المؤسسة الملكية قد لا تنتظر طويلا من أجل فرض خيار التكنقراط في المناصب الوزارية التي توجد في الحدود بين السياسي والاقتصادي، خصوصا إذا ما عجزت الطبقة السياسة عن تجديد نخبها. 6. المؤسسة الملكية والبحث عن الكفاءات فشل وتعثر مجموعة من السياسات العمومية دفع المؤسسة الملكية إلى تغيير جزء من الوسط التقريري المركزي، الذي يعتبر المسؤول الأول عن القرار السياسي داخل الدولة. هذا التغيير اعتبرته الملكية أساسيا وملحا، نظرا لأن هذه النخب القيادية عجزت عن قيادة الفعل العمومي وعن التأثير على مجتمع السياسات العمومية، كما أن جزء من هذه النخب ينطبق عليه ما أكد عليه كارل ماركس من كون النخب (بعضها) لا تمثل عقل الدولة، ولكن تمثل في الواقع غياب العقل لدى الدولة. ويجب الاعتراف بأن الوسط التقريري المتواجد داخل الدولة يتكون من اللانخب والنخب الخادمة للدولة والنخب التقليدية، أهمية هذه النخب تكمن في كونها النخب الحارسة للدولة كما سماها بيير بورديو، مميزات هذه النخب تتمثل في (أولوية الخدمة العمومة-تؤمن بالمصلحة العامة- الوفاء المطلق للنظام-ابتعادها عن الحزبية -تحترم الأمر الرئاسي وتؤمن بالطاعة، وهي بالأساس نخب منفذة وغير مبتكرة)، ولكن الأساس في هذه النخب أنها نخب معيَنة (القانون التنظيمي للتعيين في المناصب العليا ) وبالتالي لا يتم التعاقد معها حول الأهداف والنتائج والمؤشرات، وغير قادرة على مواجهة التعقيدات التقنية التي تتطلبها السياسات العمومية (التجارب الدولية). القصور الأساسي الذي وجه لهذا النوع من النخب يتمثل في كونها نخب الستاتيكو، وبالتالي فإن وجودها يتناقض مع ارتفاع الاحتجاجات الشعبية المطالبة بظروف تحسين العيش الكريم. كما أن هذه النخب قد تم اختراقها من طرف نوعية جديدة من النخب أطلق عليها الباحث الفرنسي جون كلود توينغ "المسافر السري"، وهو المسافر المهتم فقط بمصلحته الشخصية وبتطويرها، وبالتالي هو ينتمي لنخب الدولة التقليدية المهتمة بنفسها ومصالحها وتطوير مصيرها الوظيفي. هذه النخب لم تعد قادرة على مسايرة تعقيدات الفعل العمومي والسياسات العمومية، وبالتالي صار جزء كبير منها يشكل عالة على النظام. السياسات العمومية وتعقيداتها، صارت في حاجة إلى ما سماه بيير بورديو نخبا ترسخ وتصنع عظمة الدولة، ترسيخ عظمة الدولة يتطلب فعليا نخبا قادرة على أن تلعب دور المقاولين العموميين، لأن الفعل العمومي والسياسات العمومية يحتاجان أساسا إلى المقاولين، مميزات نخب المقاولين العمومين تتمثل في التعلم بشكل دائم من أجل التكوين والتطور، مهمتها الأساسية هي قدرتها على حل المشاكل، كما أنها تمتلك ثنائية الكفاءة والفعالية. وبالتالي، كان المطلوب من التعديل أن يحجز مكانا مهما لنخب حداثية داخل الوسط التقريري المركزي، خصوصا بالنسبة للمواقع السياسية والوزارية والمؤسساتية والإدارية التي لها علاقة بمجتمع السياسات العمومية (الوزارات التنموية الأساسية)، لهذا انتظر الكل تغييرات واسعة للوسط التقريري المركزي، أو على الأقل تغييرات في التراتبية العمودية داخل الوسط التقريري المركزي (انتقال من موقع أدنى إلى موقع أعلى والعكس، أو انتقال من موقع إلى آخر في التراتبية نفسها ومن داخل الوسط التقريري المركزي)، ولكن مقاومة الطبقة السياسية لعملية التغيير النوعي قد تجعل البلد يستمر في وضعية الستاتيكو، والبقاء في غرفة الانتظار لترقب تعديل جديد أو انتخابات جديدة أو انتظار المجهول. كما أن التخوف الكبير في عصر الرأسمال هو من نوعية جديدة من النخب، وهي النخب التي تستهدف التخلص من الطبقة الشعبية والطبقة المتوسطة وتوجه اهتمامها وخدماتها الإبداعية لدولة الأغنياء ((homo deus une brève histoire du futur، رغم أن الأغنياء وكما أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لا يحتاجون لمن يدافع عنهم لأنهم يمتلكون القوة اللازمة للدفاع عن أنفسهم، وبالتالي من المفروض أن يتم الاتفاق أولا على تحديد نوعية النخب التي نريد، أو نعمل على تحديد الأهداف أولا وبعد ذلك نبحث عن النخب القادرة على خدمة تلك الأهداف. تغيير واسع لنخب السلطة حتى وإن توفرت الإرادة لدى أصحاب القرار، هو غير ممكن لأنه يتطلب وجود ما يطلق عليه بنخب الاحتياط ، ولكن نخب الاحتياط لا تسقط من السماء، بل يتم إفرازها من خلال الصراع المفروض بين النخب المتواجدة في السلطة ونخب الاحتياط، ولكن نخب الاحتياط قليلة أو غير موجودة، أو لم يتم الكشف عنها أو أنها تفضل استراتيجية التفرج على الأحداث، وبالتالي لم تقرر خروجها إلى العلن، نظرا لغياب حياة سياسية فعلية تتميز بوجود نقاش فعلي وحقيقي حول الاختيارات الأساسية للبلد، هذا النقاش الفعلي هو الذي يفتح النقاش ما بين الحكومة الفعلية والحكومة الخاصة والحكومة المعارضة حول الاستراتيجيات الوطنية المتبعة، ووحده هذا النقاش ووجود هذه الحكومات ما يخرج للعلن نخب الاحتياط ويجعل المواطن يعرفها ويعرف تموقعها بين العمل والرأسمال ويمنحها الشرعية أو يسحبها منها. الخلاصة التعديل الحكومي الأخير من خلال التقليص والتجميع أنجز في أحسن الحالات أقل من نصف الطريق، أما النصف غير المنجز فيتمثل في عجز التعديل عن إخراج حكومة متصالحة مع الرأي العام والمواطنين، والسلبية الأساسية التي تميز الإصلاحات في المغرب تتمثل في كونها إصلاحات تقطع نصف الطريق، وهذا هو الخطر الكبير الذي هدد الإصلاحات في التجارب الدولية، وهو ما أكده الباحث الفرنسي مارك بلوك عندما قال: "إننا كدولة تعودنا على الاكتفاء بمعارف غير مكتملة والاكتفاء بالأفكار القليلة وغير الواضحة"، أما الاقتصادي جون ماينار كينز فقد قال: "إن الصعوبة لا تتمثل في فهم الأفكار الجديدة بل في القدرة على التخلص من الأفكار القديمة". الإصلاحات الكبرى في المغرب تنجح من خلال قيادتها من طرف الملكية وتطوع ومراقبة رئيس الحكومة والمعرفة التامة بالفعل من طرف وزراء أكفاء، عجز ضلع أو ضلعين من هذا المثلث عن القيام بدوره كاملا يؤثر بشكل كبير على تنفيذ الإصلاحات وعلى النجاح في تنفيذ السياسات العمومية. إن الرغبة والإرادة الملكية في تعيين وزراء أكفاء في ميادينهم هي محاولة لمنح شرعية جديدة لأشخاص الحكومة تعتمد على الكفاءة وبعيدا عن السياسة، ولكن هذا الخيار يصطدم في الواقع بكونه يعمل على تقوية سلطة التعيين على سلطة الانتخاب ويقوي فعليا التكنوقراط على حساب السياسيين، ويعمل كذلك ضد مهمة أساسية أوكلها المشرع الدستوري للمؤسسة الملكية تتمثل في صيانة الاختيار الديمقراطي (الفصل الثاني والأربعين من الدستور). إن الاختيار الديمقراطي لا يمكن أن يتعزز من خلال انتخابات تمنح لنا أغلبية ضعيفة يمتلك البعض منها أفكارا متناقضة والبعض الآخر لا يمتلك أصلا أفكار، وينتخب لنا نواب الأمة رئيسا لمجلس النواب منشغلا بالبحث عن تقاعد النواب وعن توسيع مجال الريع البرلماني، ورئيسا للغرفة الثانية منهمكا بحل الصراع الداخلي لحزبه، وأحزابا ونقابات ضعيفة لا تمتلك مشروعا للمستقبل. إن السياسي وإن تصدر نتائج الانتخابات وإن صنع أغلبية وشكل الحكومة، إلا أنه إذا كان لا يتوفر على مشروع ورؤية للمستقبل، فإنه يحكم ضمنيا على البلد بالتخلف، وتثبت لنا التجارب الدولية أنه لا وجود لبلدان محكوم عليها بالتخلف، بل هناك فقط بلدان بدون مشاريع وبدون رجال نوعيين قادرين على حمل هذه المشاريع (جاك أتالي).