بحسم الصراع الطويل الذي دام قرابة ستة أشهر حول طريقة تشكيل الحكومة، وانتصار المعسكر الذي كان يقوده رجل القصر، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، تكون الديمقراطية المغربية قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل التراجع والانكماش. الآمال التي حملتها مسيرات حركة 20 فبراير، ومعها خطاب 9 مارس ودستور فاتح يوليوز 2011، كان جوهرها ينصبّ على إخراج قسم كبير من السلطات والصلاحيات التنفيذية من مجال الهيمنة المطلقة للمؤسسة الملكية، المتمتعة بشرعية دينية وتاريخية وشعبية كبيرة، تستلزم إبقاء المؤسسة خارج دائرة التدبير اليومي ومجال الاختلاف والصراع السياسيين. تدريجيا، ومنذ الشهور الأولى لحكومة عبد الإله بنكيران التي خرجت من رحم موجة الربيع العربي، بدا أن رسم طرق العودة إلى ما قبل تلك المرحلة قد انطلق. عودة إلى ما قبل 2011 «احترام لنصوص الدستور واستثمار لفراغاته»، هكذا يلخّص الباحث الشاب في العلوم السياسية، عبد المنعم لزعر، في حواره مع «أخبار اليوم» ضمن هذا الملف. «تنزيل الدستور جرى بطريقة ميكانيكية، فصدور بعض القوانين التنظيمية كان ضروريا، وتمت بالفعل المصادقة على أغلبها، لكن في غياب شبه تام للنقاش»، يقول أحد الوجوه الشابة لحركة 20 فبراير، يونس بنمومن، الذي يضيف أن تنزيل دستور 2011 تم أيضا في غياب أي تأويل ديمقراطي، «الفاعلون السياسيون يتسمون بضعف كبير، ولا يتوفرون إلا على شرعية انتخابية ضعيفة من أجل فرض إصلاحاتهم، فيما توجد، فوق كل ذلك، مؤسسة ملكية تتوفر على سلطات واسعة جدا، مسجّلة في نص الدستور». وجه سياسي وحقوقي يساري آخر، هو لطيفة بوحسيني، يحرص على التذكير بكونه صوّت ب«لا» على الدستور الحالي. «لقد اعتبرت منذ البداية أن عددا من سلوكات الدولة التي واكبت حركة 20 فبراير مجرد استجابة لضغط الشارع، أما الإرادة السياسية الحقيقية في اتجاه الإصلاح فلم تكن موجودة. دستور 2011 نفسه اعتبرته شخصيا متقدما مقارنة بالسابق، لكن طريقة صياغته تجعل تأويله خاضعا لميزان القوى، سواء في قضايا الحريات والحقوق أو في ما يتعلق بالنظام السياسي، وبالتالي، أعتبر أنه لو ذهب ميزان القوى لصالح التأويل الديمقراطي لشكل خطوة. لكن، في الحقيقة، النظام انحنى للعاصفة ثم عادت حليمة لعادتها القديمة، بل أعتبر أنها عادت أقوى من السابق مع إحساس بأن الاتجاه الذي اتخذته الدولة بعد أحداث 16 ماي 2003 والميل نحو تونسة المغرب عاد من جديد، وهو ما أوقفته عمليا حركة 20 فبراير، أي الرغبة في القبض على زمام الأمور في سياق مختلف يبين بشاعة هذا التراجع». مصدر أكاديمي عارف بتاريخ النظام السياسي المغربي، فضّل عدم التصريح حول الموضوع، واكتفى بالقول في حديثه ل«أخبار اليوم» إنه لا يفهم أصلا مفهوم الملكية التنفيذية. «في القاموس والتاريخ السياسيين للمغرب، يوجد مفهوم الملكية المطلقة، والمغرب لا يدخل في خانتها لأنه، رغم كل شيء، هناك دستور يضبط العلاقات بين المؤسسات، أما مفهوم الملكية التنفيذية فهو اختراع قامت به الصحافة». بعيدا عن التدقيق المفاهيمي، يعتبر السوسيولوجي المخضرم، محمد الناجي، أن التحوّل الذي جرى بعد 2011، وجعل للحكومة صلاحيات وسلطات أكبر مقارنة بالسابق، جعل النظام السياسي يكف عن الاكتفاء بوزارات السيادة، وأصبح يرغب في السيطرة على الحكومة بكاملها.
بوحسيني: «ديمقراطيون» متواطئون الحقوقية اليسارية، لطيفة بوحسيني، تعود لتنبّه إلى أن الأمر لا يقتصر على توجّس لدى الدولة من الإسلاميين، كما يحاول البعض أن يقول الآن. «وضعنا القطار على السكة من خلال انتخابات في حينها وتنافس بين الأحزاب السياسية، لكننا ضربنا في العمق المنهجية الديمقراطية، وضربنا أي إمكانية لمضي الأمور في منحى احترام الدستور. أنا لست متفقة مع القول إن النظام لا يريد الإسلاميين، بل أعتقد أنه لا يريد أي إرادة شعبية، سواء كانت إسلامية أو يسارية أو ديمقراطية. دوائر النفوذ لا تسمح ببروز أي شرعية شعبية». بوحسيني تؤكد أن أخطر ما يقع في المغرب حاليا، «هو غياب الأصوات التي من شأنها الدفاع عن الديمقراطية والمؤسسات والمنهجية الديمقراطية. فكثيرة هي الأصوات التي تفضل نظاما سياسيا لا يحترم المنهجية الديمقراطية، لكن مع وجود إمكانية للتفاوض والتقدم التدريجي، بدل حكومة ذات أغلبية أو اتجاه إسلامي وازن». وخلصت بوحسيني إلى أن الخلاف والصراع الإيديولوجي ضروري، «لكن هناك حدا أدنى يجب أن يدافع عنه كل ديمقراطي، والسؤال هو: هل الصراع الديمقراطي يهم اتجاها دون اتجاه آخر؟ ألا يمكن أن نقر بأن الأحزاب التي دافعت تقليديا عن الديمقراطية ليست وحدها مؤهلة لذلك؟ ألم تبرز اتجاهات جديدة مختلفة عنها نسبيا لكنها تدافع عن الديمقراطية في ما يتعلق بصناديق الاقتراع؟ الديمقراطية لا تختزل في الصناديق، لكن هذه الأخيرة تشكل أحد أوجهها، وهي من بين ما يجب أن يدافع عنه». قبل أن يجفّ حبر القصاصات الرسمية الأولى المعلنة لتعيين حكومة سعد الدين العثماني، كانت جريدة «لوموند» الفرنسية تكتب معنونة: «الملك يعين حكومة تقنوقراط تهمّش الإسلاميين»، فيما ذهب صاحب كتاب «فهم الملكية المغربية» وكاتب عمود أسبوعي في مجلة «تيل كي»، عمر صاغي، إلى أن أول حكومة ديمقراطية عرفها المغرب الحديث كانت سنة 1998، لكن سرعان ما تلتها حكومة تقنوقراطية في 2003، «وفي نهاية 2011، تسلّمت حكومة ديمقراطية جزءا من سلطات البلاد. وبعد أكثر من خمس سنوات بقليل، خلفتها حكومة بملامح تقنوقراطية». وبعد تساؤله عمّ إن كان هناك قانون ما يمنع استمرار حكومة ديمقراطية أكثر من ولاية، عاد صاغي ليقول إنه وخلافا لحكومة جطو، تتسم حكومة العثماني بطابع تقنوقراطي أكبر، «لكنها تبقى داخل الحدود الدستورية الموجودة».
دي إيكونوميست: الملك مهيمن قبيل الانتخابات التشريعية الماضية، وفي الوقت الذي كانت فيه القوى الرافضة لاستمرار التجربة الحكومية الماضية تخوض حربا شرسة ضدها، كتبت مجلة «دي إيكونوميست»، البريطانية المرموقة، إن المغرب، وبعد مرور خمس سنوات على الربيع العربي، بلد مستقر و«نسبيا حر» مقارنة بمحيطه. وأضافت المجلة أن الملك، وبعد مرور كل هذه الفترة، مازال «مهيمنا» على جميع السلطات، لكنه «يتمتع بشعبية واسعة بفضل جهوده لصالح المرأة ومحاربة الفقر، بالإضافة إلى التموقع الاقتصادي الذي بدأ يتغيّر من خلال ظهور صناعات جديدة، مثل السيارات والطائرات ومشروع الطاقة الشمسية». في المقابل، سجّلت المجلة استمرار بعض العوائق التي تحول دون تعزيز حرية الرأي والتعبير، وأوضحت أن ثلاثة خطوط حمراء مازالت قائمة، وهي كل من الإسلام والملكية والوحدة الترابية. قبل ذلك، كان الباحث في جامعة بريستول البريطانية، تيل بركنر، قد قام عام 2015 زيارة استكشافية للمغرب، وبعد مكوثه فيه 6 أشهر، كتب مقالة عنونها ب«الأساطير السبع حول الديمقراطية في المغرب». الباحث وجّه، عبر خلاصاته الأولية هذه، انتقادات إلى الكتابات المتداولة حول المغرب، معتبرا أنها تتضمن الكثير من المغالطات والصور النمطية الخاطئة. أولى الأساطير التي سجلها، تتمثل في مقولة «المغرب ملكية دستورية». الكاتب علّق بالقول إن هذا الأمر خاطئ تماما، «المغرب ليس ملكية دستورية، بل هو عبارة عن ملكية تتوفر على دستور مكتوب. هناك فصل بين الأدوار، لكنه ليس فصلا بين السلطات. فكل الاختصاصات السياسية والاقتصادية والدينية تتركز داخل القصر الملكي. وهذا الأخير يتولى اتخاذ كل القرارات، وعمليا يراقب كل شيء، بما في ذلك البرلمان والقضاء والقوات الأمنية، بل وحتى القسم الأكبر من الإعلام والفضاء المدني غير الحكومي». بركنر أوضح أنه وعلى هامش كل هذا، تدور «مسرحية كراكيز» تسمى الحكومة، و«كوميديا طويلة» اسمها البرلمان، وشدد على أن الانتخابات التي تجرى كل بضع سنوات تنظم للإيحاء بحدوث تغيير ما. «أسطورة» أخرى تحدث عنها هذا الباحث الغربي، تتمثل في القول بوجود مسار ديمقراطي. بركنر قال إنه وبمجرد مرور موجة الربيع العربي، تم تجميد عملية الدمقرطة التي انطلقت، «فالديمقراطية في المغرب طريق باتجاهين، وفي الوقت الحالي، توجد البلاد في مرحلة تراجع نحو الخلف. وكمثال على ذلك، يكرس الدستور حق الوصول إلى المعلومات لجميع المواطنين، لكن مشروع القانون الخاص بذلك يقول إن من حق المواطنين الوصول إلى المعلومات، لكن في حال قيامهم بنشرها فإنهم يذهبون إلى السجن». الباحث قال إنه ومنذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم في 1999، شهت الكثير من البنيات التحتية تطورا كبيرا، مثل الكهربة القروية وإطلاق حرية التعبير وممارسة تعذيب أقل في السجون… «لكن أيا منها لا يشكل إصلاحا ديمقراطيا». وذهب بركنر إلى أنه ومع انطلاق الربيع العربي، وضع المغرب دستورا شبيها بدستور ألمانيا الشرقية في العهد الستاليني، «وكما يقول المثل، فالورق يتمتع بصبر كبير، ويمكنك أن تكتب ما تشاء فوقه، فإنه لن يشتكي أبدا. القصر وعد بالديمقراطية منذ ما قبل الاستقلال، وسيستمر في تقديم الوعود بالإصلاحات الديمقراطية في المستقبل، لا شيء جديد في ذلك».
ملك كل السلطات الملك رئيس فعلي للدولة ورئيس فعلي للوزراء، وهو الدبلوماسي الأول، والإمام الأول حين يرتدي جلباب أمير المؤمنين. هو الاقتصادي الأول، والفاعل المدني في الحقل الاجتماعي الأول، يحكم بالنصوص والأفعال والأقوال والحركات والسكنات. على مدى السنوات ال18 التي قضاها في الحكم، جرت جلّ الأنشطة الملكية داخل أسوار القصر، وعلى منصات الخطابة في المناسبات الوطنية، وأمام منبر الجمعة وكرسي الدروس الحسنية، ومن قلب عدد كبير من العواصم الغربية والشرقية. عمل الملك امتد ليمارس في قلب المناطق الجبلية والقاحلة، وتلك المصابة بلعنات التاريخ. وحمل الموكب الملكي في تحركاته، بالإضافة إلى البرامج الرسمية لمختلف قطاعات الدولة، برامج مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة محمد الخامس وبرنامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالإضافة إلى وكالة تنمية الأقاليم الشرقية. دور الملك مهمّ وحاسم في جميع الأحيان والمجالات، وذاكرة المغاربة تذكر كيف كانت الطبقة السياسية صيف 2013 في أعلى درجات الترقّب والانتظار، بعد طول مقام الملك في الديار الفرنسية حيث كان يقضي إحدى عطله الشخصية. الحزب الثاني في الحكومة (حزب الاستقلال) قرّر حينها الانسحاب من أغلبيتها، والانتظار كان يعمّ البلاد منذ ذلك الحين، في انتظار العودة الملكية، وتبيّن القرار الذي سيتخذه الجالس على العرش أمام أولى أزمات حكومات الدستور الجديد. أما ديوان محمد السادس، الذي هو بمثابة مكتب عمله الشخصي، فقد اتخذ بعدا وأهمية جديدين مقارنة بديوان والده. أصبح منصب المستشار في الديوان الملكي منصبا مؤثرا، ويعبّر عن حظوة صاحبه، وترقيته إلى أحد أسمى مواقع المسؤولية في البلاد. وبعد إعلان محمد السادس، رسميا، تخليه عن مجموعة «مؤنسي» والده ومستشاريه القدماء، أصبح مستشار محمد السادس حاملا ملفا، أو مكلفا بجانب من جوانب السياسة والاقتصاد والثقافة أو الدبلوماسية. كما لو أن جلباب أمير المؤمنين اتسع ليضم ما بدا أن الدستور سحبه من الملك وأسنده إلى رئيس الحكومة والبرلمان، حيث باتت الصفة الدينية للملك أكثر حضورا وظهورا. بل إن أدوارا دبلوماسية على الواجهة الدولية باتت تتم في إطار جلباب إمارة المؤمنين، حيث أصبحت ورقة الإسلام المعتدل والمذهب المالكي، والتجربة «الناجحة» في تأطير الحقل الديني، قناة دبلوماسية جديدة تجاه دول المحيط المغاربي والإفريقي. رسائل مكثفة موجّهة إلى الداخل والخارج، باتت توجّه عن طريق افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية، وخطب الجمعة، والاستقبالات والأنشطة التي تتم في ثوب ديني خالص، إلى جانب مناسبتي العيدين الدينيين، عيد الفطر وعيد الأضحى، واللتين تشهدان ظهورا ملكيا في هيئة دينية لتلقي التهاني والاضطلاع بمهام الإمامة. الاستقبالات والاتصالات والمشاورات والتهاني والتعازي واعتماد سفراء واستقبال آخرين، كلّها مظاهر تجعل الملك الدبلوماسي الأول وشبه الوحيد في المملكة. كلّ العاملين في حقل الخارجية وتمثيل المملكة يحرصون على ربط حركاتهم وسكناتهم بالتوجيهات الملكية وتنفيذها. فبينما تعرف باقي الأنشطة الملكية فترات من البياض والاستراحة، يكاد لا يمرّ يوم دون أن يصدر عن الملك فعل دبلوماسي. ضرورة التفاعل الفوري مع التطورات التي تحصل في السياسة الدولية، والأوضاع الداخلية للدول، وأعيادها الدينية والوطنية، وما يقع فيها من كوارث طبيعية… عوامل تجعل المبادرة الدبلوماسية الملكية حتمية في جميع فصول السنة وشهورها، وحتى في الفترات التي تعتبر فترة عطلة شخصية للملك، والتي غالبا ما يقضيها في الخارج.
بروكينغز: نسخة مغربية من «معضلة الملك» ل«مهنة» الملك برنامج مكثّف طيلة شهور السنة. برنامج طرأت عليه، في ظلّ الوضع الجديد لما بعد «الربيع العربي»، تعديلات وتغيّرات، أبرزها، في الواجهة الداخلية، جلسات العمل التي باتت تنعقد في الديوان الملكي، بحضور ورئاسة شخصية من الملك، وبمشاركة مستشارين ووزراء ومسؤولي مؤسسات عمومية. حتى الأطراف الخارجية أخذت تتصرّف بمنطق العارف بمكمن السلطات ومصدر القرارات. في العام الماضي، وحين قررت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، تغيير سياستها في مجال الهجرة وترحيل فائض المهاجرين لديها، سارعت إلى الاتصال بالملك، الذي أعطى «تعليماته السامية لوزير الداخلية قصد القيام، إلى جانب فريق من الخبراء من وزارة الداخلية، بزيارة إلى ألمانيا، بغرض تسريع تحديد هوية وإعادة ترحيل المواطنين المغاربة المعنيين بهذه العملية»، يقول بلاغ للديوان الملكي. باحثان من معهد «بروكينغز» أصدرا، في بداية شهر مارس الماضي، دراسة بعنوان: «معضلة الملك». العبارة تشير إلى كتاب قديم للأمريكي صامويل هنتنغتون، يتطرق إلى كيفية دمقرطة الأنظمة السياسية دون أن تفقد زمام السلطة. «بالنسبة إلى هنتنغتون، كانت الخيارات واضحة؛ فإما أن يحاول الملك الحفاظ على سلطته من خلال الاستمرار في التحديث، لكن مع تكثيف القمع اللازم للمحافظة على السيطرة، وإما أن يحوّل ملَكيته إلى ملكية دستورية، حيث «يسود الملك ولكنه لا يحكم». وبعد مرور ست سنوات على اندلاع الانتفاضات العربية، يواجه العاهل المغربي محمد السادس نسخته الخاصة من معضلة الملك. وتشكّل الأزمة الحالية في تشكيل الحكومة المغربية اختباراً مهماً له»، يقول الباحثان، عادل عبد الغفار وأنّا جاكوبز، أياما قليلة قبل صدور قرار إعفاء عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة. حالة البلوكاج الطويل، التي عاشها المغرب في الشهور الأخيرة، تشير، حسب الدراسة، إلى أن «الوعود التي أعقبت الثورات العربية عام 2011، بتقاسم السلطة والملكية الدستورية، لم يتم الوفاء بها. والانقسام اليوم هو أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فالدولة مازالت تعمل دون وجود حكومة برلمانية فعالة، من خلال نموذج الحكم التقليدي في المغرب: أي النظام الملكي وديوانه». ويخلص الباحثان إلى أن القصر يتحكم في النظام من الداخل. «فالحفاظ على حلفاء القصر في الأحزاب السياسية الرئيسة، في كل من الحكومة والمعارضة، هو أساسي لسيطرة العائلة المالكة على السياسة المغربية. في الوضع الحالي، فإن أخنوش (الصديق المقرب من الملك) موجود في المقدمة، ومن المرجح أنه سيدخل التحالف الحكومي وسيؤثر في القرارات السياسية… وبالتالي، فإن الوعود التي قُطعت في العام 2011 بتقاسم السلطة ضمن نظام ملكي دستوري لم تتحقق».
BTI: المغرب غير ديمقراطي قبل بضعة أسابيع، صدر تقرير مؤشر «BTI» الجديد، والذي يرصد مؤشرات التحول الديمقراطي في الفترة ما بين فبراير 2013 ويناير 2015. التقرير صنف المغرب في الرتبة 93 ضمن 129 دولة شملها التقرير. واستهلت الوثيقة الجزء الخاص بالمغرب بالقول إن المؤسسات الديمقراطية والعملية الانتخابية المنتظمة، وكل ما يرتبط بها، أمور موجودة شكليا، «لكن النظام السياسي يظل غير ديمقراطي. فالبرلمان لا يمكنه أن يشرّع في استقلال عن المؤسسة الملكية، والنظام يستعمل أنظمة مختلفة للضغط والتأثير من أجل الحفاظ على السيطرة على المؤسسة التشريعية. والأهم من كل ذلك، أن الملك مازال يحتفظ بصلاحية وضع جدول أعمال المجلس الوزاري الذي يوافق على مشاريع القوانين قبل أن تحال على البرلمان، كما أنه يعين الأمين العام للحكومة الذي يستطيع تجميد القوانين حتى بعد المصادقة عليها من البرلمان. وإذا وضع الملك ثقله خلف أحد القوانين، فإن الأحزاب السياسية لا تغامر بالاعتراض عليه، وهو ما جرى مع الحزب الإسلامي حين جاءت إصلاحات مدونة الأسرة عام 2003». التقرير ذهب إلى درجة الحديث عن سلطات العمال الكبيرة أمام المنتخبين المحليين، معتبرا أن هؤلاء العمال معينون من طرف الملك. والإصلاحات الدستورية الأخيرة، التي جرت بعد 2011، لم تغير شيئا، حسب معدي التقرير، «حيث لم تمس بالتوزيع الحقيقي للسلطة في المغرب»، ويذهب التقرير إلى أن الأحزاب السياسية المغربية ضعيفة، وباتت جزءا من النظام السياسي. «فأحزاب مثل الأصالة والمعاصرة، والاتحاد الدستوري، والتجمع الوطني للأحرار، لا تنتظر أن تستفيد من الإصلاحات الديمقراطية، بما أن سندها الانتخابي مشروط بقربها من القصر. «أغلب الأحزاب اليسارية تحولت، بدورها، إلى أدوات في يد القصر، كما أصبحت الأحزاب من مختلف التوجهات عاجزة عن اقتراح بدائل عما يقترحه القصر، وأصبحت، بالتالي، أكثر ارتهانا إلى النظام. وحتى حزب العدالة والتنمية، الذي صعد إلى رئاسة الحكومة في 2012، بدا عاجزا عن متابعة إنجاز إصلاحات كبيرة، ومن تبقى من فاعلين قادرين على الدفع في اتجاه إصلاحات ديمقراطية، يأتون من خارج النظام، كما هو الحال مع حركة 20 فبراير التي أصبحت مثالا جيدا».
حضور رمزي كبير ظاهرة الحضور القوي للملك وصوره وأخباره في العالم الافتراضي والإلكتروني، تضاف إلى ما تشهده تنقلاته وزياراته الميدانية داخل المغرب من حضور غفير ولقاءات مباشرة، وتوالي حالات اعتراض الموكب الملكي بشكل أدى بالبعض إلى التعرّض لحوادث خطيرة أو أحكام قضائية قاسية. أنشطته الرسمية تتصدّر عناوين النشرات الإخبارية، التي تحتفظ، حسب نتائج قياس المشاهدة، بالصدارة بين البرامج التلفزيونية، خاصة في القناة الأولى. صوره معلّقة في جلّ المكاتب والمرافق والمقاهي والمطاعم، وأخبار قراراته وتحرّكاته تصل إلى القاصي والداني، فيما تشكّل الأعطيات والهبات والمساعدات، التي يقدّمها الملك لعدد كبير من الفئات، أحد العناصر الأساسية المكوّنة لصورة الملك في المخيال الشعبي، حيث يعتبر «السلطان» أقدر الناس على العطاء بلا حدود، وتحقيق الأمنيات التي تبدو، في بعض الأحيان، مستحيلة. صورة تفسّر الظاهرة التي برزت أخيرا، والمتمثلة في اعتراض سبيل الموكب الملكي بطرق تكاد تكون «انتحارية»، بهدف طلب الاستفادة من الكرم الملكي، والحصول على فرص شغل، أو رخص استثنائية، أو منح تخرج السائل من حالة الفقر والفاقة إلى حالة الكفاف، وربّما الغنى. «هذا القدر من الشعبية والتأييد الشعبي يمنح الملك شرعية أخرى مفادها ألا شيء يمكن تحقيقه بدون موافقة الملك ودعم الملك»، يقول الخبير الدستوري مصطفى السحيمي، موضحا أن القرارات والخطوات الملكية، التي تلامس مباشرة الشعور الوطني للمغاربة، «تولّد نوعا من الاحترام. هذا الأمر يمنح الملك شرعية إضافية إلى جانب وضعه كأمير للمؤمنين وملك ورئيس للدولة». السحيمي يضيف أن محمد السادس يحرص على الذهاب إلى الناس حيث يوجدون، «وقد زار أماكن لم يطأها السلاطين منذ قرون طويلة، حيث كان الراحل الحسن الثاني نفسه يتحرّك داخل مجال محدد لا يكاد يتجاوز فاسومراكش، فيما محمد السادس له حضور فعلي وميداني، ولا يقتصر في تنقلاته على المكوث داخل القصور وحضور الأنشطة الرسمية، بل يتابع بشكل شخصي كل ما يُفعل، ويحرص على إتمام المشاريع». الوجه التنفيذي للملكية تعزز في سنوات الولاية الحكومية الماضية بشكل متواتر. من قانون التعيين في المناصب السامية، الذي خصّص للملك لائحة من المؤسسات الاستراتيجية، إلى اجتماعات الديوان الملكي، التي تحيل قراراتها على المجلس الحكومي والبرلمان لكي يصادق عليها، كما جرى في موضوع الطاقات المتجددة، وصولا إلى الانتقال من اختيار الوزراء التقنوقراط ضمن الحكومة وتعزيزهم في التعديلات المتلاحقة، إلى هندسة حكومية شاملة تغرق مؤشر الإرادة الشعبية في بحيرة من الأحزاب الآسنة. وزير الداخلية الجديد ليس سوى والي الرباط الذي «قهر» منتخبي حزب المصباح في العاصمة وهمّش عمدتهم؛ ووزير الخارجية ليس سوى التقنوقراطي الذي خرج من الظل أول مرة في المجلس الوزاري لمدينة العيون، شهر فبراير 2016، ليصبح وزيرا منتدبا في الخارجية. ووزراء المالية والصناعة والتجارة والسياحة والفلاحة ليسوا سوى «تقنوقراط» حزب الحمامة. في مبادرة تواصلية نادرة من نوعها، أقدم الديوان الملكي، في متم نونبر الماضي، على إصدار بلاغ بعد انتهاء أشغال القمة في مؤتمر «كوب22»، الذي احتضنته مراكش، يتضمن شكر جميع الأطراف التي أسهمت في إنجاحه. الشكر شمل جميع الهيئات والأطراف وعموم المواطنين الذين أسهموا في نجاح هذا المؤتمر، فيما بقيت الحكومة، التي كانت مشاورات تشكيلها تواجه جمودا قاسيا، خارج لائحة المعنيين بالشكر. البلاغ قال إن الملك يعبّر «عن شكره وتقديره السامي للجهود الخيرة التي بذلتها اللجنة المنظمة ولجنة القيادة، ومختلف السلطات المحلية والترابية، والأمن الوطني، والقوات العسكرية والمساعدة، وفعاليات القطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، وسكان مدينة مراكش عموما. كما يشيد جلالة الملك بروح المسؤولية والالتزام والتعبئة القوية، والانخراط الإيجابي، التي أبان عنها مختلف الفاعلين المعنيين، من أجل إنجاح هذه القمة العالمية». أي أن المؤسسة الملكية تولّت، بشكل مباشر، تنظيم ذلك الاستحقاق الدولي، وتعاملت في ذلك مباشرة مع جميع المؤسسات والسلطات، بعيدا عن الحكومة ومجالسها.
ARI: الملكية نجحت في تحييد تنازلاتها ل20 فبراير المعهد الملكي للدراسات (ARI)، الموجود في العاصمة الإسبانية مدريد، أصدر يوم 9 مارس الماضي، أي تزامنا مع الذكرى السنوية لخطاب 9 مارس الشهير، تقريرا يحلل الوضع السياسي بالمغرب. أبرز خلاصات التقرير تقول إن «الملكية في المغرب نجحت في تحييد أو، على الأقل، الحد من تأثير عدد من التنازلات التي اضطرت إلى تقديمها ردا على حركة 20 فبراير». هذه الأخيرة طالبت، حسب التقرير، بملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، «وهو ما جاء دستور 2011 لمحاولة تلبيته. ومناخ التغيير والإصلاح هذا، مهد الطريق لحزب العدالة والتنمية الإسلامي لينتصر في الانتخابات… زعيمه، عبد الإله بنكيران، قبل بالوضع القائم، المتمثل في هيمنة المؤسسة الملكية، وردد ذلك عدة مرات علنا، وبشكل غير مباشر في استجواباته وخطبه، حيث ردد أن رئاسة الحكومة لا تعني حيازة السلطة، وأن علاقته بالملك تقوم على التعاون والتنسيق. لقد حرص بنكيران كرئيس للحكومة على تقديم الكثير من التنازلات بهدف نيل ثقة الملك… من جانبها، قامت المؤسسة الملكية بإعادة هيكلة الديوان الملكي، عبر تعيين مستشارين جدد من داخل الدائرة المقربة من الملك، كما استعادت السيطرة على أهم الوزارات السيادية، باستثناء وزارة العدل، حيث عين صلاح الدين مزوار وزيرا للخارجية، ومحمد حصاد وزيرا للداخلية، ورشيد بلمختار وزيرا للتعليم، فيما وجدت وزارات المالية والاقتصاد الوازنة طريقها إلى أيدي تقنوقراط من حزب التجمع الوطني للأحرار».