نموّ ماليزيا ليس مرتبطا بنموذج تنموي محدد وخاصية قيادية محددة أو بشخص رئيس الوزراء مهاتير محمد فقط، وِفقَ أليزان مهادي، عضو شعبة التكنولوجيا والابتكار والتّنمية المستدامة بمعهد الدّراسات الإستراتيجية الدّولية بماليزيا، بل يتعلّق بالاستجابة الإستراتيجية لأحداث داخلية، وأحداث خارجية، خاصّة الاقتصادية منها، وهو ما أثّر في نموذجها التّنموي وانعكس على تنميتها. الباحث الذي سبق أن كان مستشارا علميا لدى الوزير الأوّل الماليزي، عدّد في محاضرة قدّمها، مساء الأربعاء، بأكاديمية المملكة المغربية في الرّباط، مجموعة من المحطّات التي تُجُوبَ معها بفعالية، ما ساهم في نموّ بلده، انطلاقا من أحداث "الشّغب العرقيّ" في 1967 التي تلَاها توزيع بَي - إثني عن طريق إعادة تنظيم المجتمع تحت "الخطّة الاقتصادية الجديدة"، وتمويل الشّركات المملوكة للدّولة في بداية السبعينيات، بما في ذلك لاحقا الخدمات والاستثمارات، ثم خوصَصة هذه الشّركات واللّبرَلَة ورفع القيود في أوائل الثمانينات، إضافة إلى الخفض الإرادي لقيمة العملة الماليزية، تفاعلا مع اتفاق أمريكي ياباني رفع قيمة عملة هذه الأخيرة في 1985، والتّجاوب مع الأزمة المالية الآسيوية في 1997 بسياسات تقشّف بدل الاقتراض. وذكر أليزان مهادي أنّ من بين الخصائص الأساسية للنّموذج التنموي الماليزي أنّ هذا البلد اقتصاد صغير ومفتوح "مُلَبرَلٌ" وموجّه للتّصدير والتبادل، ويعمل بمقاربة مبنية على الحاجيات قصدَ استئصال الفقر، ومقاربة توزيعية بعمل إيجابي وتوزيع بين الأعراق، وبالاعتماد على موارده الطّبيعية. ويرى الباحث أنّ من بين التّحدّيات التي تواجه ماليزيا التعدد الثقافي، رغم السّلام الذي تعيشه، وإهمال الطبقة المتوسطة؛ لأن الإنجازات الاقتصادية تريد الاستجابة لحاجيات الأساسية، مثل الولوج إلى الماء والكهرباء والتعليم، بينما يجب أن تكون المقارَبَة التّنموية أكثر شمولا، وهو ما ورَد في المخطّطات دون أن يتحقّق فعليّا، إضافة إلى عدم توفُّر هذا البلد على طبقة صناعية قوية. وفنّد الباحث الماليزي مجموعة من التّمثّلات والأفكار الشّائعة حول بلده، قائلا إنّه ليس من بين "النّمور الآسيوية" لكونه اعتمدَ في نموّه على موارده الطبيعية المتوفّرة، كما أنّه مازال يسعى ليكون دولة مسلمة حديثة علما أنّ الشّعبويّة في ارتفاع ببعض ربوعه، مضيفا أنّ فكرة نجاح ماليزيا في الانتقال من التعدّد الاستعماري إلى التعدّد الثّقافي ما بعد الاستعماري صحيحة جزئيا؛ لأن التعدّد الثقافي مازال تحدّيا، نافيا أن يكون البلد قد عانى من "المرض الهولندي" لاستطاعتِه تنويعَ صادراته. وتحدّث مهادي عن اعتماد ماليزيا نموذجا مبنيا على القيم يرى في "مقاصد الشّريعة" مبدأ يكون المقصدُ الأساسيُّ للتّنميةِ في إطارهِ هو تقديمُ الخير والإنصاف للجميع في نهاية المطاف، وهو ما يقتضي، لتحقيقِه، التزام البرامج التنموية بمبادئ الشّمولِ والحكامَة الجيّدة، وزاد موضّحا، في استحضار لنصّ إطار عمل السياسة الخارجية الماليزية في السّنة الجارية 2019، أن آمال وطموحات "ماليزياالجديدة" يمكن أن تحقَّقَ فقط إذا تبنّت القيادة الوطنية المبادئ المكنونة لمقاصد الشّريعة. وقدّم الباحث لمحة عن المسار الاقتصادي لماليزيا منذ بناء السّفن بها بفعل موقعها الإستراتيجي؛ ما جعلها مكانا لاقتصادِ التّصدير، ثم تغيير استثمار الموارد في القرن التاسع عشر والزّيادة في البنية التّحتية التي تصل مجموعة من المناطق الجغرافية بالبلد الذي ترتّب عن اكتشاف القصدير، ثم قفَز إلى مرحلة حصول ماليزيا على الاستقلال في 1957 ليعرج بعجالة على تكوُّنِها سنة 1963؛ ثم تحدّث عن اقتصادها الذي كان معظَمُه مصمّما للحفاظ على مصالح الأعمال البريطانية، وكانت تجارته مُسَيّرة في الغالب لصالح البريطانيين والأقلية الصينية. وتلَت هذه المرحلة، حَسَبَ المتحدّث، سياسة اقتصادية جديدة لمحاربة الفقر وإعادة تنظيم للمجتمع، جوابا على الشّغب العرقي في عام سبعة وستّين وتسع مائة وألف، الذي أودى بحياة ما يقارب 800 شخص بماليزيا، ثم التركيز على الأسواق الموجهة للتّصدير في 1970، ما مكّن من نمو اقتصادي سريع، فاكتشاف البترول، الذي تمّ في وقت ارتفع ثمن البرميل، وكانت معظم مداخيله على المستوى الفدرالي ولا يصل إلا القليل منها للدّولة. وتحدّث الباحث الماليزي عن مرحلة تغيير القيادة مع أب التحديث في ماليزيا الوزير الأول مهاتير محمد، الذي كانت مرحلته مرحلة تصنيع كبيرة، ثم مرحلة النموذج التنموي في رؤية 2020 التي انطلقت منذ 1991، فالتغيير السياسي في 2009 الذي عرف نموذجا تنمويا جديدا من أجل تحديث ولبرلَة الاقتصاد، قبل أن يرتبط اسم رئيس الحكومة بقضية فساد أدّت إلى أول تغيير حكومي بماليزيا، ليعود بعد ذلك مهاتير محمّد بنموذج تنموي جديد إلى 2030 قائم على "الرخاء المشترك" ويقصِدُ توفير "مستوى معيشة لائق لكلّ الماليزيين بحلول سنة 2030، بغضّ النّظر عن طبقتهم الاقتصادية، وعِرقهم، وموقعهم الجغرافي". من جهته وضّح محمد الكتاني، أمين السر المساعد لأكاديمية المملكة المغربية، أنّ أكاديمية المملكة المغربية تنظّم محاضرة أليزان مهادي في سياق إعدادها دورتها السادسة والأربعين، حول موضوع "آسيا أفقا للتّفكير"، مضيفا أنّ هذه محطة متميزة من توجه الأكاديمية للاستفادة من خبرات وتجارب مختلف دول العالم، في ما يتعلّق على وجه الخصوص بالتّنمية والتحديث والاندماج في التكنولوجيا المتطورة والعولمة، خاصّة والمغربُ يعيش لحظة تحول عميقة بقيادة الملك محمد السادس نحو التنمية والتقدم بكل حزم وعزم، ثم زاد مسلّطا الضّوء على مقصد وضع آسيا أفقا للتّفكير؛ فهي "القارة المعجزة في هذا العصر، التي كانت قبل نصف قرن قارة متسولة عاجزة وممزقة، ثم نهضت... بكل أقطارها وبلدانها".