(1) إن الركن الأساس في أي منظمة أو تجمع بشري يتجلى في قيمه الجامعة، في معتقداته وأنماط التفكير التي تتحكم في مختلف السلوكيات والتصرفات التي يتم إنتاجها بشكل جماعي على مستوى المجتمع. إن الأمر يتعلق بالروح التي تبعث إرادة الأفراد وتدفعهم إلى القيام بكل الأفعال التي يأتونها في كل وقت وحين، وفي كل شأن وسلوك. ولعلنا لا نحتاج إلى التذكير بالإجماع الحاصل اليوم حول الانهيار الأخلاقي والقيمي في بلادنا، الذي تتجلى آثاره في كل مناحي حياتنا، مع ضرورة التخصيص اللازم للإشارة إلى مربع الانهيار الأكثر خطورة، المتعلق بالقيم والأخلاق المجتمعية التي تبني سلوكنا في اتجاه الآخر والآخرين، أي المجتمع. ولعل من أمهات القيم والمعتقدات التي يجب إعادة تثبيتها وتنقيتها مما شابها من العيوب والانحرافات قيمة العمل والاستحقاق كمدخل وحيد للامتياز والرقي الاجتماعي. لا يوجد مجتمع متقدم إلا وتجد فيه قيمة العمل مركزية وفي قلب نظام القيم والسلوك الفردي والجماعي. إن قيمة العمل هي الركن الأساس في بناء أي حضارة وثقافة مزدهرة، منفعلة ومنتجة. ولنا أن نتساءل حول سر كل هذه المنجزات والبنيات التحتية والنتائج المبهرة في مردودية مؤسسات هذه الدول، سواء في المدارس والجامعات أو المستشفيات أو المطارات أو غيرها من المرافق العمومية. إن السر الوحيد وراء كل هذا هو العمل المتقن، حسب قاعدة أداء كل فرد ومؤسسة لما يجب أداؤه في الوقت المحدد وعلى الصورة الأكمل. فلا سر وراء أداء الحافلات والقطارات والطائرات مثلا، حتى لا نذكر غيرها، لمهامها في الوقت المحدد وعلى الصورة المثلى التي نعيشها ونلحظها كلما سافرنا إلى هذه الدول، إلا العمل المتقن. إننا في بلادنا في حاجة إلى تقديس العمل، وإعادة الاعتبار إليه داخل كل فرد، وبيت، ومؤسسة، وهذا ليس بغريب على ثقافتنا الإسلامية التي تجعل العمل على أسمى مراتب القيم المجتمعية. ولا بد كنتيجة لذلك من القطع مع قيم الريع و"الهمزة" والاحتيال والمدخل الخلفي في الوصول إلى كل ما يدخل في باب الأجر أو الدخل من المال والمنصب والسلطة، حيث لا يعقل أن يصعد فردٌ إلى منصة التتويج ويعلن فائزا في أي سباق دون تحمل مجهودات وصعوبات قطع مسافات السباق والتغلب على العقبات الذاتية والموضوعية في ذلك، بالدخول من الباب الخلفي إلى المنصة أو باستعمال أية وسائل غير أخلاقية تقفز على قاعدة الجهد والاستحقاق. عندما تصبح هذه القيمة راسخة في سلوكنا، وقاعدة في أفعالنا ومنهجا في تعاملنا، أفرادا ومنظمات، نكون قد وجهنا جميع طاقاتنا نحو العامل الوحيد الذي يؤثر إيجابا فيما يحيط بنا ويغير إيجابا معالم حياتنا ويسهم في ازدهار أحوالنا وفي حل إشكالاتنا وتنظيم تدافعنا بالشكل الذي يخرج أحسن ما فينا، وهو التنافس الشريف بالعمل، والامتياز الاجتماعي بالاستحقاق والشرف والمكانة بالتضحية والعطاء. آنذاك، لا بد ستصلح أحوالنا، وسنؤدي جميعا مسؤولياتنا ومهامنا أحسن أداء، فتصلح مدارسنا ومستشفياتنا وإداراتنا وكل مؤسساتنا، وترتفع فعاليتنا وننجح في تحقيق أهدافنا في ذلك، لأن كل واحد منا سيكون قد أدى عمله الواجب عليه على الوجه المطلوب لذوي الحق في ذلك، حيث يحفظ السائق حقوق الركاب والعامل حقوق المشغل والمشغل حقوق الأجير والأستاذ حقوق الطلاب والموظف حقوق المرتفقين والمدير حقوق المؤسسة والبائع حقوق المشتري والقاضي حقوق الضحايا والشركات حقوق الزبائن، إلخ... هذه السلسلة الفاضلة التي تنطلق من قيمة العمل وتنتهي بنا إلى ضمان حقوق المجتمع، تأخذنا إلى قيمة أخرى أساسية ومكملة لها، نعود إليها فيما بعد، وهي قيمة أداء الوجبات قبل طلب الحقوق.