من الواضح جدا أن المداخل التقليدية لتوصيف وتصنيف الدول في سلم التقدم ومواكبة أدائها العام كانت تتم عبر تتبع بعض المؤشرات ذات البعد الاقتصادي فقط؛ كنسبة النمو، مستوى العجز، التضخم، مستوى الدين... إلا أن هذه المؤشرات قد أبانت، مع التطور الحاصل في المجتمعات، كما يبدو، عن محدوديتها؛ لسبب بسيط مرتبط بالمعطى الذي لا يمكن اختزال الإنسان في بعد واحد أي البعد الاقتصادي، وأن تحقيق التوازن فيما بين المجالات التي يدور في كنفها الإنسان، من قبيل: المجال السياسي التربوي الثقافي، والنفسي، العمراني، الصحي، الحقوقي، البيئي، هذه المجالات في المحصلة هي من تحدد القيمة التي يوجد عليها هذا الإنسان من حيث احتساب قيمة تطوره من عدمه. نقول هذا ونحن نعرف السياق الذي يوجد فيه المغرب حاليا، سياق الرغبة في تحقيق قفزة نوعية في بعض المؤشرات الاقتصادية المهمة بالتزامن مع ما سماه عاهل البلاد بالنموذج التنموي الجديد، وهي مناسبة للتأكيد على أهمية اعتماد المقاربات التي تتجاوز البعد الاقتصادي في الانفتاح على مفهوم التنمية بغية مقاربته في شموليته، باعتبار التنمية أوسع من النمو ومستوعبة له في الوقت نفسه، ولذلكم وبموجب التفطن إلى هذا المعطي، فقد سارعت العديد من الهيئات والمنظمات الدولية إلى اقتراح بعض المؤشرات الدالة لقياس التطورات المسجلة على مستوى هذا المؤشر "مؤشر التنمية". برنامج الأممالمتحدة من أجل التنمية دعا إلى اعتماد المؤشر المعروف بIDH"مؤشر التنمية البشرية" لقياس التنمية والتنمية البشرية تحديدا، باعتبار محورية الإنسان في أية تنمية، فلقد تم تضمين هذا المؤشر وعلى سبيل التذكير فقط، الدخل الفردي أو ما يتم تحصيله الفرد من معدل بالنسبة للناتج الوطني الخام، بالإضافة إلى مؤشرات مرتبطة بالتعليم والصحة. البنك الدولي صار أبعد من ذلك، حيث اعتبر التقدم المحرز في المجال الاقتصادي ما هو إلا نتاج مجموع العمل الذي يتم القيام به في محوري الصحة والتعليم، مؤشر الرأسمال البشري الذي أنشأه ICH يمكن من تقدير قياس حجم الخسائر بمنطق اقتصادي "بالعملة يعني" التي تتكبدها الدول جراء عدم الاستثمار في العنصر البشري. المؤشر يقيس مستوى تحليق الطفل "مع قياس علو التحليق" إن تمت إزالة العوائق في التعليم والصحة، بقدر ما كان الطفل معافى صحيا ومكونا تكوينا حديثا ورفيع المستوى بإمكانه أن يحلق مع المقاولة عاليا ويصبح أكثر مردودية له وللمجتمع. ربط مؤشر مستوى النمو بالتطورات المسجلة على مستوى كل من التربية والصحة تعتبر طريقة ذكية لتحسيس الرأي العام على أهمية مؤشري التربية والصحة وإسهامهما الكبير في محور النمو ولتغيير طريقة التعامل مع هاذين القطاعين وحث الدول للمزيد من الاستثمار فيهما على اعتبار كونهما كانا يعتبران في عرف بعض الدول قطاعين اجتماعيين غير منتجين لا يفلحان إلا في التهام ميزانيات الدول. غني عن القول بأنه من دون التوفر على إنسان معافى بدنيا ينمو بشكل سليم، ومن دون التوفر على أفراد يمتلكون معارف ومهارات، لا سيما في الوقت الحالي الذي قد نكون فيه في أمس الحاجة إلى كفاءات في المستوى الرفيع والتي بإمكانها أن تتعامل مع التقنيات الحديثة ومع أدوات العولمة سواء في الاتصال والتواصل والتسويق لا يمكن للمقاولة أن تمضي بعيدا، لا يمكنها أن تكون ربحية بمعنى الإسهام في جلب الثروة والقيمة المضافة لها وللبلد. من منطلق الانتباه إلى الدور المحوري الذي تلعبه الكفاءة والاقتدار، فقد بدأت العديد من المقاولات في الغرب علاوة على توظيف الأشخاص ذوي الكفاءات أو ذوي المؤهلات العالية فقد بدأت أيضا تلتجئ إلى لغة التكوين السنوي أو الدوري عن طريق تخصيص جزء من الأرباح القارة بنسب مائوية جد محددة للوفاء بهذا الغرض. كما أن هناك مؤسسات ينحصر دورها في استصدار بعض المؤشرات لقياس العائد الاقتصادي جراء الاستثمار في التكوين، أي أن المقاولة تكون مطمئنة إلى كون درهم مستثمر وتم صرفه في التكوين قد تصل ربحيته إلى 15 في المائة وأكثر من ناحية العائد الاقتصادي على المقاولة. وبلغة عملية وجد بسيطة هذه المرة، دائما ما يتملك المغربي إحساس وكأن جزءا من المهن الحرفية التي تبدو بسيطة وبإمكانها أن تدر على أصحابها دخلا محترما، ليست مغطاة بالشكل المطلوب في المجتمع، ومتروكة لحالها، مهن كالحدادة، النجارة، رصاصي، كهربائي... ليس لها طاقم مهني متخصص وليست منظمة بالشكل الكافي وهو ما يصعب من مأمورية الأسر المغربية في رحلتها للبحث والاستعانة بخدمات هذه الفئة، تبدأ المعاناة في التنقيب عن المحترف والمتخصص من وسط دخلاء هذه المهن مرورا بالنقص المسجل في جودة العمل وانتهاء بعسر التوافق على ثمن جراء عدم وجود نظام محدد يحدد الأثمنة، في تقديرنا لغة التكوين المهني ستكون مفيدة من ناحية تكوين وتأهيل طاقم هام للمقاولة من خريجين من مستوى متوسط (من الطبقة الوسطى) كما بإمكانه أن يلعب دورا مهما في امتصاص جزء من عطالة الشباب ومن تغطية العديد من المناصب المجتمعية من المهن الحرفية السابقة الذكر والتي غالبا ما تكون موضوع توترات ونزاعات. قضية أخرى يطرحها سؤال المواءمة ما بين التكوين والتشغيل، مع ما يقتضيه ذلك من تلبية الحاجيات المستقبلية لمتطلبات سوق الشغل؛ وهو الأمر الذي أكدت عليه الخطب الملكية الأخيرة كما انتبهت إليه جيدا مقتضيات الرؤية الإستراتيجية والتي تعد خارطة طريق موجهة للمنظومة التربوية 30-2015، إلا أنه ومع ذلك يبدو من الأهمية بمكان استحضار بعد المرونة في التكوين وحسن التنبؤ بالمهن المستقبلية ما دام من الأهمية بمكان التذكير بأنه حسب آخر التقارير الصادرة عن البنك الدولي فإن جزءا كبيرا من المهن الحالية لم يكن لنا علم بها إطلاقا في الزمن القريب. كما أن بعض مهن المستقبل ربما لم تر النور بعد، وهو ما يدعو إلى شحذ العزائم وحسن الإعداد للمستقبل.