بدأت رحلتنا يوم اثنين بعد لقاء مميز السبت الذي قبله بدرب الفران بالمدينة القديمة بمراكش، حيث كان اللقاء بمجموعة من الباحثين والفنانين المهتمين بالشأن البيئي والاجتماعي بإميضر وجرادة. ومن غريب الصدف أو محاسنها أن اللقاء ذاته عرف مشاركة فنان تشكيلي من جرادة (محسن) أعاد تشكيل قصة المنجم وحكايات الموت بها بجمالية وواقعية مميزة، حيث الفحم والفقر والموت وتجارب إنسانية كثيرة تشاهد في مجسماته وأدوات الحفر التي قدمها لزوار معرضه كعناصر تشكل الموت بالمنطقة. تحدث محسن عن والده الذي كان عاملا بشركة "مفاحم المغرب"، وتجارب المرض بالسليكوز والموت الذي كان يحيط بالعمال في كل لحظة وحين. فالعمل بالمنجم كان يعني إما موتا مباشراً عبر حادث فيه أو موتا مؤجلا عبر مرض يصيب صاحبه آجلا أم عاجلا. اللقاء نفسه عرف مشاركة عمر، مناضل ومعتقل سابق وباحث، قدم في تجربة نضال ضد شركة مناجم منذ ما يزيد عن ثمان سنوات، يطالب سكان إميضر فيه بحقهم الطبيعي والاجتماعي في الماء والأرض، التي ترامت عليها الشركة بدون وجه حق، وببعض حقوقهم الاقتصادية التي يكفلها لهم القانون بحكم وجود المنجم على أرضهم التاريخية. فالحق في التشغيل بالمنجم أو ابتكار بعض آليات العمل التشاركي يبقى أمراً سهلا يجب على الشركة والدولة الوصول إليه بسهولة. عرف اللقاء مشاركة المخرج نادر بوحموش، مثقف فوضوي يدافع عن قضايا الهامش والمهمشين، ويحاول أن يكون صوتا لمن لا صوت لهم داخل المجتمع، ومخرج متميز يوظف الفكر الأنتربولوجي المعاصر مناهض الليبرالية المتوحشة والنيوليبرالية في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع لإنتاج أفلام وثائقية تكشف عن آليات السيطرة والهيمنة الجديدة. تجد في أعماله ملامح واضحة لأفكار جيمس سكوت وكرويبر وكتاري سبيفاك ولوفيفر...إلخ. قدم نادر بعض أعماله الوثائقية في تونس والمغرب، وانتهى بعد رحلة في أكثر من موقع استخراجي، إلا أن كلفة انتهاك البيئة وتدميرها أغلى وأعلى من كل ربح يمكن أن نتخيل، لأن المستفيد الوحيد من استخراج المعادن والاستثمار فيها هو عدد محدود من أصحاب الرساميل، بينما يؤدي تكلفتها عدد كبير من الناس، بل ستؤدي الأجيال القادمة كلها تكلفتها من عيشها وحريتها. عرف اللقاء مشاركة شباب يعتبر أن البيئة ليست قضية طبيعة، وإنما هي مسألة سياسية واجتماعية، وتحتاج إلى تدبير حكيم وعقلاني، بل أخلاقي يحافظ للأجيال المقبلة على حقها في الموارد الطبيعية، ويحفظ للأجيال الحالية حقها في الاستعمال والاستثمار العادي للموارد. كانت فرصة مميزة بالنسبة إلينا كباحثين للتعرف على مواقف وتصورات فريدة لشباب يرى أن قضايا العدالة والحق والحرية والمساواة والبيئة لا توجد فقط في النقاشات الكبرى التي يطرحها الفاعلون في المؤسسات الرسمية بشكل معقول ومقبول أحيانا، وبطريقة كاريكاتورية مثيرة للاشمئزاز في معظم الأوقات. تبادلنا أطراف الحديث مع البعض حول اهتماماتهم، تعرفنا على البعض الآخر ومجالات تفكيرهم، وتحدث لنا كثير منهم عن تجاربهم مع البحث في البيئة وصعوبات تدبير وإجراء بحوثهم. كنا نستمع فقط مشدودين بحماس هؤلاء الشباب للبحث والتفكير وإنتاج المعرفة. انتهى اللقاء في وقت متأخر نسبيا. أخبرنا بعض الأصدقاء والحاضرين بسفرنا وموضوعه، وباهتمامنا بالبيئة والتدبير الاجتماعي للموارد، وبالحياة والموارد في المناطق المنجمية، وبالحياة في المناطق نفسها بعد إغلاق المناجم. وضحنا أن غرضنا هو محاولة فهم المفارقة الكبرى، التي لا تغيب عن المهتمين بالشأن البيئي والاجتماعي، وهي أن المناطق المنجمية تؤدي فقط تكلفة وجود المناجم بها، دون أن تستفيد منها، ففي المناطق المنجمية مثل التي سنزورها تكثر معدلات الفقر والمرض والهجرة وضعف سنوات التمدرس وغياب شبه كلي للخدمات العمومية، وهي المناطق نفسها التي يطالب الناس فيها ليس بحقهم في المناجم، وإنما فقط بكف أذى المناجم عنهم. "سنتحدث في الحلقة القادمة عن أول يوم من رحلة الذهاب إلى إميضر" الحلقة الأولى: من إميضر إلى جرادة .. يوميات البؤس والفقر في "المغرب المنسي"