لعل لعنة الإخفاق والفشل أصبحت السمة الرئيسية للمخرجة المغربية نرجس النجار. فالي اليوم، وبعد أربعة أشرطة طويلة، لم تقدم للجمهور المغربي أي عمل سينمائي متكامل قد يستأثر بالاهتمام. ويمكن الجزم أن ذلك راجع إلى أن المخرجة لا تبدع عن حب للفن وللسينما ولكن تبدع عن كره وعن إيديولوجيا قاتلة للإبداع. كره للذات أولا وكره للمجتمع ثانيا. وايديولوجيا "نهيلية" مؤطرة لأفلام المخرجة التي تعمل جاهدة على فرضها وإقحامها عنوة لردم كل ما هو جميل في الحياة وفي المجتمع المغربي الذي تصوره على انه ماخور كبير مكون من أناس لا شرف لهم ولا عرض لهم ولا تاريخ لهم. وكان المخرجة تحاول أن تقتل في نفوس المغاربة تلك النخوة والغيرة التي يتميز بها المغربي المعروف بكرمه (خاصة في أحاسيسه) والشرف (بمعناه الواسع) الذي تدافع عنه المغربية حتى ولو كلفها ذلك حياتها. ومن اجل هذه الغاية اختارت المخرجة منطقتين مغربيتين بارزتين لهما دلالتهما الرمزية والثقافية والتاريخية، بل وحتى الجغرافية. فبعد أن اتجهت إلى جبال الأطلس في شريطها "العيون الجافة" (2003) حيث صورت تلك المنطقة على أنها للدعارة فقط، مغيبة تاريخها الايجابي في مقاومة المستعمر الذي عمل على الإفساد في أهلها كعقاب على المقاومة، تصوب النجار كامرتها في شريطها الأخير "عاشقة الريف" نحو الريف ( الذي اختلطت تربته بدماء رجال عبد الكريم الخطابي) المعروف بثورته ضد المستعمر الاسباني بل وبانتصاره عليه، والمعروف أيضا بالشهامة والغيرة والقوة، لتجعل منه مرتعا لتجارة المخدرات (البارون في الشريط) وتجعل من رجاله وشبابه بياعين أعراض أخواتهم (اخو البطلة يبيع جسد أخته من اجل المال) ومن نسائه بائعات أجسادهن ( من اجل أن تخرج ابنتها من السجن، أم البطلة تذهب للقاضي تجثم على ركبتيها أمام القاضي في إشارة إلى عملية جنسية مخزية لم تتوانى المخرجة في إقحامها في مشهد آخر بين مدير السجن وسجيناته). وهكذا في دقائق معدودة وفي مشاهد تفتقد إلى الحرفة السينمائية، تحطم المخرجة كبرياء الإنسان المغربي، الأطلسي والريفي، تردم ذاكرته التاريخية والسوسيو ثقافية، لتجعل منه لقيطا ثقافيا، بل ابن عهر وابن زنا، وهذا يتماشى مع ما قالته بطلة الفيلم وهي ترفض الزواج:"إني اعشق الحرام" أو " أن اللذة لا توجد إلا في الحرام". وللكلمة دلالتها الدينية والقيمية...من هنا نفهم إقحام الجنس واللواط وكل ما هو شاذ جنسيا في الشريط. كما هو الشأن سابقا في الشريط المشترك مع مخرجين آخرين "محطة الملائكة" حيث العوازل الطبية فوق حبل الغسيل. سيميائيا اختيار عنصر من عناصر الطبيعة وهو الجبال لم يأتي من فراغ، فالجبل رمز القوة والكبرياء والشموخ. كما أن عملية الهدم قد تكون صغيرة أو كبيرة. وبالتالي لكي تكون عملية الهدم كبيرة بمعنى هدم الإنسان وتاريخه وهويته، فالمهدم يجب أن يكون كبيرا وهو الجبل. لكن هل يمكن أن نهدم جبلا؟ بالطبع لا إلا بقدرة قادر. فكذلك الإنسان والتاريخ والثقافة. وعليه فعملية التمرد التي تقوم بها المخرجة في شريطها أو أشرطتها التي تفتقر إلى جماليات الإبداع السينمائي، ليست فقط سلبية (لان التمرد قد يكون ايجابيا في حالة البناء) بل فاشلة لكون أن المخرجة (ومن ورائها كاتبة الرواية التي انبنى عليها السيناريو). ليس لديها تصور أو مشروع ثقافي أصيل نابع من ثقافة المغاربة، لكي تعمل على صياغتها من جديد. وفاقد الشيء لا يعطيه. وهذا الفشل صاحبه فشل تقني يتمثل في عجز المخرجة عن نقل عمل روائي إلى السينما مع مجز جمالية العمل الأدبي والسينمائي. هذا إذا اعتبرنا أن الرواية تستحق ذلك. وعليه فان الإخفاق هو المخيم على شريط "عاشقة الريف" (ذو الإنتاج المشترك بين المغرب وبلجيكا وفرنسا)، إخفاق على مستوى الكاستينغ أولا وإدارة الممثلين ثانيا، الذين ظهروا في مستوى ضعيف، وحتى جمالية الصورة التي راهنت عليها المخرجة والتي سخرت لها طاقم تقني أجنبي (بفضل الانتاج المشترك الذي يفرض شروطه) كان مبالغ فيها فحرمت المشاهد من الاستمتاع بها. ثم على مستوى الحبكة الدرامية والشخصيات، التي ظهرت بدون عمق إنساني، بل جاءت كلها مسطحة ومحشوة بأفكار ملقنة ورسائل فجة تريد المخرجة أن تفرضها على المشاهد مثل تشويهها للدين (ابتداء من اسم البطلة "آية" في إشارة للقران) و للتدين (اخو البطلة المتدين والذي يبيع شرفها) للحجاب (لاختيارها لمنقبة في صورة بشعة)، ولصورة الرجل (الهارب والقاسي والغير المسؤول)... موازاة مع ذلك تم الإقحام التعسفي لمشاهد جنسية يطبعها العنف والشذوذ، فضلا عن لقطة (الأولى من نوعها في سينما المغربية ) يظهر فيها الممثل فهد بنشمسي (أخ البطلة) وهو عار وتجره الممثلة نادية نيازي (أمه) من الحمام، كي تعطيه درسا في "الرجولة" في مشهد سخيف و مقرف ، مثله مثل مشاهد السجن "السريالية" والمضحكة في الشريط. مشهد (لا نعرف من أي ثقافة مستوحى) لم نراه حتى في الأفلام الغربية. من جهة أخرى تبدو شخصية البطلة " آية" (الممثلة نادية كوندة) ضعيفة (فكريا) بالمقارنة مع حجم الفكرة التي يدافع عنها الفيلم. ومع حجم الشريط الاسباني المتميز و المشار إليه وهو "كارمن" للمخرج كارلوس سورا. فلا وجه المقارنة بين "آية" التي تحب الرقص وشخصية البطلة في "كارمن" (المأخوذة عن أوبرا الفنان بيزي). فآية مراهقة ولها أحلام مراهقة (فارس الأحلام، الرقص، اللهو، التمرد، اللانفلات من الضغوطات). و لذلك جاءت نهاية الفيلم ضعيفة : قبلة الوداع ثم الانتحار. فأي إبداع يعكسه هذا الشريط؟ وما قيمته المضافة في السينما المغربية؟ إن الإبداع الذي يجسده الشريط هو إبداع القبح (السلبي) وليس الجمال، إبداع الشذوذ وليس التوازن، إبداع اللاابداع ذلك أن المخرجة التي لم تقدم رؤية فنية متجانسة ولا معالجة سينمائية، لا يهمها الإبداع بقدر ما يهما الفرصة الذهبية التي أتيحت لها للتنفيس عن مكبوتات (كان بالإمكان معالجتها دراميا لو كانت النية سليمة)، لتشويه صورة المغاربة وتحقيرهم خاصة لدى الأجنبي، في وقت يعرف فيه الشارع المغربي حراك ثقافي وسياسي متنور يساير الحراك الذي يعيشه الوطن العربي والذي اثر أيضا على الشعوب الغربية. إن الذي يكره ذاته لا شك انه يكره الآخر، والذي يكره ذاته و الآخرين يسعى دائما لتدمير نفسه والآخرين والانتقام منهم. لأنه يفتقد إلى التوازن النفسي الذي يتغلب على الصراعات الداخلية، والى الرؤية الفلسفية السوية للحياة وللوجود. وكل ذلك ينم عن أزمة هوية يعيشها داخليا تجعله في انفصال تام عن محيطه الخارجي الذي لا يرى فيه إلا حائط للهدم. إن الإبداع ينبني على الحب والحياة ومن يحب الحياة يذهب إلى السينما كما يقال، لأنها تعلمنا كيف نحلم وكيف نتغلب على صراعات أنفسنا وكيف نحب الجمال وليس القبح. فأين هو هذا الحب في "عاشقة الريف"؟ المؤسف أن منظمو مهرجان مراكش في دورته الحالية اختاروا هذا الشريط لتمثيل المغرب في المسابقة الرسمية، وفي الافتتاح الذي عادة ما يعرف عرض أفلام ذات قيمة فنية عالية. فالشريط بدا ضعيفا أمام مجموعة من الأشرطة الأجنبية المشاركة في المهرجان ذات قوة فنية وعمق إنساني عال. فلماذا يخفق السينمائيون المغاربة رغم سخاء الجهات الممولة؟ على أن هذا الاختيار الغير الموفق خالف معطيين أساسين: المعطى الأول يخالف الأعراف السينمائية الدولية، ذلك أن فيلم الافتتاح لا يشارك في المسابقة الرسمية. المعطى الثاني وهو مخالفة بند من بنود المشاركة في المسابقة الرسمية والمتمثل في أن الفيلم يكون العمل الأول لمخرجه وليس الرابع كما هو الشأن لنرجس النجار. فلماذا تم خرق هذا البند؟ إن المنحى الذي أخذته السينما المغربية في الآونة الأخيرة منحى سلبي، جعل منها مرتعا للعبثية والامسؤولية والاابداع والخروج عن القانون والتعالي على الناس. إن المستوى المتدني الذي وصلت إليه السينما المغربية اليوم (باستثناء بعض الأفلام المتميزة والتي لا يروج لها) يجعل منها سينما بعيدة عما يجري في محيطها الاجتماعي والثقافي من تطور ومن مطالبة بإبداع ثقافي وفني يحترم المجتمع المغربي، يحترم كينونته وكبريائه ويحترم هويته. ولقد اثبت هذا المجتمع مسؤوليته ووعيه بما يجري في الساحة السينمائية عندما انتفض ضد عدة أفلام قاسمها المشترك الجنس والكلام المنحط، مفضلا إما الانسحاب عند عرضها أو مقاطعتها. مما جعل بعض الأشرطة لا تعمر طويلا في القاعات السينمائية وأخرى تمر كمر السحاب لان البقاء للأصلح. فهل استوعب السينمائيون المغاربة ومعهم القائمين على الشأن السينمائي الرسالة، أم سنرى مزيدا من الإسفاف والاستخفاف بعقل وذوق الجمهور؟ *ناقد سينمائي