أنا عبد الكبير الميناوي من مواليد برج العقرب .. هل هي صدفة أن أكتب (كثيرا) عن مدينة بنيت على برج العقرب؟ في نونبر 2005، نشرت نصاً، تحت عنوان "ليل مراكش أو حين تبحث الإسبانية عن صيفها في عز الشتاء". كان هذا أول نص أنشره عن مراكش. "ليل مراكش أو حين تبحث الإسبانية عن صيفها في عز الشتاء"، كان، قبل نشره، تحت هذا العنوان، يحمل عنوان آخر ومضمونا عدلت، لاحقا، في كثير من عباراته وأفكاره، نزولا عند نصيحة من الصديق والكاتب المبدع حسن نجمي. كان عنوان النص، وقتها : "ليل مراكش أو حين تتحول الجولة إلى غزوة". من بين الجمل التي عدلت فيها كانت هناك جملة، تقول : "إذا جرك ليل مراكش إلى طيباته فلن تقنع بليلة واحدة ولا حتى بسبع ليال. الليل ساحر والصيد سهل، فقط، يلزمك المال الكافي ووقار الجلسة، أو فلتركن إلى بيتك، حيث قناة الجزيرة الرياضية ومباريات الليغا الإسبانية، أو إلى القنوات الإخبارية، حيث بقايا السيارات المفخخة والدم العراقي المراق في الأسواق الشعبية وعلى جوانب الطرقات". ثم، كان نص "شمس مراكش" ثاني نص أكتبه وأنشره عن مراكش. ومما جاء فيه : "مراكش.. مدينةٌ مفتوحةٌ على شعريتها وفتنتها. كلٌ يكتبها بحساسيته. كلٌ يفهمها ويعيشها على طريقته. كلٌ يأتيها من حيث اشتهى ورغب. في مراكش، لا يمكنك أن تقاوم شعوراً غريباً، قد تبدو معه كمن يشرب الدم في عشق حبيبته مِلحاً. كلما اقترب منها وأحبها ازداد عطشه وتعطُّشه إليها. ليس شرطاً أن تكون مغربياً، لكي تعشق مراكش. قد تكون عربياً، وقد تكون غربياً، أو حتى من أقصى الشرق. في مراكش، وعلى عكس الكثيرين، سواءٌ كانوا من بين ساكني المدينة، أو من بين زوارها، من المغاربة والعرب، يبدو سياح المدينة الحمراء، القادمون من مدن الثلج والبرد القارس، كأنهم يسابقون الزمن للتمتع بشمسها. السياحُ يعشقون الشمس، والشمس تعشقُ مراكش، ولذلك فهي تفضل أن تقضي معظم العام متسمرة فوق سطح المدينة. من لا يعرف علم تشريح أسطُح المدن، في بلداننا الدافئة، عليه أن يسأل نساءنا، اللواتي كن يجدن فوقها، في ما مضى، متنفساً في اتجاه السماء، بعد أن تضيق بهن الأرض، على رحابتها. اليوم، ضاقت الأسطح، على النساء، فهبط الجمال إلى الأرض، يتهادى عبر أسواق وشوارع المدن. في مراكش، كلما سكنت الشمس في سماء المدينة أكثر، كلما حل السياح أكثر، واستمتعوا أكثر. شمسُ مراكش هي مطرُ مراكش. مع الشمس يأتي الخير وتنشط السياحة. أن يتكهرب الجو وتهطل الأمطار وتختفي الشمس من السماء، يبقى، ذلك أسوأ ما يمكن أن يُعكّر مزاج السائح في مراكش. ** سياحُ مراكش ليسوا كلهم أغنياء. سياحُ مراكش أنواع : هناك الأغنياء، وهناك الآخرون. الآخرون تعريف وتصنيف يمكن أن نجمع تحته السائح المتوسط الحال أو السائح الذي يضع قرطاً في أذنه ويلبس جينزاً، معطياً الانطباع بأنه نسخة معدلة عن شباب سبعينيات القرن الماضي. لكن، سياح مراكش، أغنياءً كانوا، أو فقراء، ينتهون إلى عشق المدينة الحمراء. هم يشعرون، هنا، بدفء مفتقد، إذ تتمدد أعضاؤهم، التي أعْياها برد الشمال وصقيعه. مع سياح مراكش، لا تبدو المظاهر خادعة، في كثير من الأحيان. السائحُ الغني يلُوحُ لك من أقصى الشارع. الكاميرا يابانية الصنع، تتصيد ما يؤثث للأمكنة. الزوجة والصاحبة بوجه كالقشدة وشعر يلهث في الخلف. اللباسُ الباذخ، الموقَّع من أرقى الماركات العالمية. العطرُ القاتل يدغدغ الأنف ويهزُّ المشاعر. معظم هؤلاء يقصدون أرقى الفنادق. يقْضون الساعات في العوم في المسابح، أو في قراءة كتاب لأمبرطو إيكو أو دون براون. آخرون يفضلون الروايات البوليسية أو متابعة أخبار العالم، عبر صحف ومجلات بلدانهم. الغربيون، على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم، يعشقون القراءة. لكن، الأغنياء منهم، يتكلمون قليلاً ويخالطون الناس قليلاً، حتى أن منهم من قد يعطيك الانطباع بأنه هنا، فقط، لأنه، هنا". بعد شمس مراكش .. كان لابد أن أكتب نصاً عن قلب مراكش .. ساحة جامع الفنا ... وهو أول نص يطالعنا في كتاب "ساحة جامع الفنا .. أية هوية؟ أي مستقبل؟"، والذي أخذ عنوان "الطريق إلى جامع الفنا". المؤلف، الذي نزل إلى الأسواق، قبل أسابيع، هو عبارة عن نصوص "خفيفة"، نشرت بين 2005 و 2011، في جريدة "الشرق الأوسط". يتضمن المؤلف 11 نصاً، وهي نصوص ترصد التحولات التي تعرفها الساحة المغربية الشهيرة، من خلال التوقف عند أسماء معروفة، مثل خوان غويتصولو ومحمد باريز، وغير معروفة مثل الرايس وبن لحسن، وأمكنة مشهورة، مثل مقهى "فرنسا" وساحة "مراكش بلازا"، مع العودة إلى كتابات أرخت لماضي الساحة، سواء من طرف كتاب أجانب، مثل إلياس كانيتي وكلود أوليي وأدونيس، أو مغاربة، مثل سعد سرحان وياسين عدنان وعبد الرحمن الملحوني، وغيرهم. إلى الماضي والحاضر، تنفتح النصوص على سؤال مستقبل الساحة، آخذة بعين الاعتبار معطى تصنيف فضائها الثقافي، من طرف منظمة اليونسكو، "تحفة من التراث الشفوي واللامادي للإنسانية"، لذلك ينطلق الكتاب بنص "الطريق إلى جامع الفنا" وينتهي، في إشارة تحمل أكثر من دلالة، إلى نص "مراكش .. بلازا"، الساحة الحديثة، التي تلخص الوجه الجديد والحداثي الذي صار لمراكش ... المدينة التي استهوت، على مدى تاريخها، الشعراء والكتاب، كما سحرت الفنانين، فأرخوا لمرورهم منها. مراكش، حيث تتوالي الأيام والسنوات، فيما تعدل المدينة من مشيتها، قليلا أو كثيراً. مدينة يهيم بها سياح الداخل والخارج، على حدٍّ سواء. كلٌّ يأتيها من حيث اشتهى ورغب : الشعراء والمقاولون، السياسيون والرياضيون، الفقراء والأغنياء، المُبدعُون والمُدّعون... لكلٍّ حكايته مع المكان والحياة. مراكش الحمراء، التي تساءل، بصدد تحولاتها، الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، قائلا : "مرّاكشُ الحمراءُ تُبنى الآنَ / عالية / وعاصمة / فهل نحن الحجارة؟" : جملة شعرية "لعينة" (وسؤال حارق) ختم بها الكتاب صفحاته. وتستمر حكاية كتاباتي عن مراكش، بشكل عام. لذلك، ينتظر أن يصدر لي كتاب "شواطئ مراكش"، حيث نكون مع محور مراكش .. جامع الفنا، مع عناوين "ليل مراكش" و"شمس مراكش" و"جامع الفنا" و"ألوان مراكش" و"ملعب النجوم" و"الرجال اللقالق" و"البهجة"، ومحور مراكش .. بْلازا، مع عناوين "دوخة عبد السلام ..!" و"مراكش بْلازا" و"مراكش .. هذه الأيام". من كان يتصور أنني .. أنا القادم من قرية تنام وسط المغرب، في سهل تادلا، سأكتب عن مدينة حمل المغرب اسمها ذات زمن. مدينة بناها مؤسسوها على برج العقرب حتى تبقى دار سرور وحبور. وقبل هذا وبعده، هل هي صدفة أن أكون أنا من مواليد برج العقرب وتكون المدينة الحمراء قد بنيت على برج العقرب ؟ أنا ابن القرية ... أذكر أني عشتُ مرحلة الطفولة أختصرُ تعريف المدينة في الشوارع الفسيحة والبنايات الشاهقة والملاعب المُعشوشبة وقاعات السينما ودور الشباب، فضلا عن ساعي البريد، الذي يُوزع الرسائل على عناوين المنازل (بدَل المْقدم، كما كان يحْدُث في القُرى والبوادي)، وبعد هذا وقبله، بْنات المْدينة، الجميلات والصافيات الوجْه والكْلام. في طفولتي، اقتنعتُ مُبكراً بأن المدينة ليستْ هي القرية، لذلك عشتُ أضع المُقارنات بين المدينة التي أهفُو إليها والقرية التي ولدتُ بها. كانتْ المسافة الفاصلة بينَ قرية البْرادية، حيث ولدت، ومدينة بني ملال، أقل من 27 كيلومتر. كانتْ تلكَ هي المسافة التي يُمكن أن تفصل، في نظري، بين مدينة وقرية. لأجل هذا كنتُ أتساءلُ عن اليوم الذي ستمتلئ فيه المسافة الفاصلة بين البرادية وبني ملال بالبنايات، لكي تصيرَ قريتي جزءً من بني ملال، وأصير أنا ابْن مَدينة. بْني ملال، هي إحدى المدن المغربية القليلة التي تغنى بجمالها وطبيعتها الشعراء والفنانون، مدينة تميزت بطبيعتها الفاتنة وبعيون الماء فيها وعلى جنباتها. "تونسْ الخضْرا ... يابْني ملال"، تماما كما تغنى بها شيوخ العيْطة والفن الشعبي. بْني ملال، أو "العمالة"، عاصمة الجهة والإقليم، التي ظلت تثير خيال المغاربة بشلالاتها وخيراتها الفلاحية ومؤهلاتها الطبيعية والسياحية، هي تاريخ يُلخص لسهل تادلا بموقعه الجغرافي الهام، الذي ظل، على امتداد القرون والسنوات، منطقة صراع لفرض النفوذ بين الأسر، التي تعاقبت على حكم المغرب، قبل أن تتوالى سنوات الاستعمار وأيام الاستقلال. بْني ملال، بعربها وأمازيغييها، هي المنطقة التي لخص لها فنان الأطلس محمد رويشة بعبارة ... "شلح وعرْبي حْتى يعْفو ربّي". كانتْ بني ملال مدينة هادئة وجميلة : النافورات والشوارع والمتاجر والبنايات الحكومية. مقاهي "فلوريدا" و"الورود" و"دنيا داي" و"فرنسا" و"الليمون" و"الفرح" و"المنزه". ظلال وشلالات عين أسردون الفاتنة، وجبال الأطلس المتوسط في خلفية المشهد، فيما مرتفعات "تاسميط" تغري بالتسلق. ضريح سيدي حْمد بن قاسم و"بوعشوش". باب افتوح و"الغْديرة الحَمْرة". تامكَنونت وساحة الحرية. سوق "الثلاثْ" والعامرية. الهُدى والصفا والوفا والأدارسة واولاد حمدان. "أطلس" و"فوكس". العامرية و"ملعب" باعلال، ومباريات رجاء بني ملال. للرجاء تاريخها ونجومها : كبور والحبيب ومازي ونجاح والولد واعشيبات ونسيلة. توالتْ السنوات، ولم تلتصقْ القرية الصغيرة بالمدينة الجميلة، بعْد أن ظلتْ المسافَة الفاصلة بينَ البرادية وبني ملال على حالها، فلمْ يتحقق حُلمي في أن أصير "مْدينياً". قبل أسابيع، وقفتُ أشاهد البناية الإسمنتية، التي عوضت سينما "أطلس". لم أجدْ إلا أن أعود بذاكرتي إلى الأيام التي كانت فيها تلك القاعة موعداً يومياً لأبناء المدينة والضواحي : أفلامٌ هندية وصينية، في الغالب. شاه روخ خان وجاكي شان وبروس لي وكلينت إيستوود : الخيل والكراطي والدْموع والمْداقّة. الفرْدي مايْخْوا والعَوْد ما يْعْيَا والولْد ما يْموت. كانتْ أياماً جميلة، قبلَ أن تهجُم علينَا تكنُولوجيا القرن الواحد والعشرين، حيثُ الأفلام تسافر بين الجغرافيات في خفة اليد والقرصنة، وحيث الفضائيات قَرّبَت مباريات الكرة والمصارعة وأخبار الدم والغَم وجميلات الغناء، وكثيراً من "الأشياء" الأخرى. بين الأمس واليوم، يبدو أن أشياءَ كثيرة قد غيّرت منْ حال وحاضر بني ملال : الرّجَا "طاحتْ". الوْجوه "اتْبدلتْ". المْقاهي "كثْرتْ" ... وحدها سيارات الأجرة الصغيرة حافظتْ على صُفْرتها. بْني ملال، هذه المدينة الجميلة، التي حلمت، في طفولتي، بأن تصير قريتي الصغيرة جزء منها، حتى أصير، أنا، "مْدينيا"، ابْن مدينة، ليست، في نهاية الأمر وبداية الألفية الثالثة، إلا "قرية كبيرة" ... هكذا، نقلت بعض وسائل الإعلام عن مولاي الطيب الشرقاوي، وزير الداخلية، حيث وصف هذه المدينة، التي كانت جميلة، ب"القرية الكبيرة"، التي "تعج بكثير من الاختلالات في مختلف الميادين"، وذلك بعد أن تكفل بنقل "ملاحظات الملك حول المدينة إلى المسؤولين والمنتخبين في لقاء مفاجئ". لكن، قبل مراكش .. كتبت عن الرباط .. كان الأمر أشبه بتسخينات، قبل الخوض في الكتابة عن مراكش. كان نصاً حمل عنوان "أيام الرباط"، كتب ونشر ذات صيف من العام 2003، وقد جاء فيه : "أعترف أنه سبق لي أن غامرت بدخول أحد مطاعم الماكدونالدز. حدث هذا قبل أكثر من عشر سنوات. كانت تلك أول مرة أدخل فيها مطعما للماكدونالدز. كنتُ طالباً، وقتها. وكنتُ أعي أن الدخول إلى مثل هذه الأمكنة قد يوقظ مشاعر الانفتاح على متع الحياة في داخلي، فأضيع بين جمال وفتنة الجالسين وأسئلة الامتحانات وعناوين وفهارس البحوث التي تتطلب منك أن تبقى طالباً في سلوكك وأكلك وشربك. في المغرب، أن تكون طالباً، يعني أن تتدبر حالك بالقليل من المال، وأن تعيش حياتك الطلابية بالكثير من الاقتناع بالحدود والهوامش التي سيكون عليك أن تضبط على إيقاعها نمط أيامك. عليك أن تبقى مبتعداً عن كل ما يشتت تفكيرك وتركيزك. عليك أن تحافظ على ميزانيتك المتواضعة. أكلٌ مشترك مع الأصدقاء. لحمٌ في المناسبات، وقطاني في معظم الأيام. كنتُ دخلت المطعم تابعاً خطى صديق تعرف قبلي على طبيعة ما بالداخل من تعقيدات اختيار وأداء. صديقي، ودّع الجامعة مبكراً. تدبر أمره بعيداً عن مارتن هايدغر ويورغن هابرماس وقدامة بن جعفر وهنري ميشونيك ومحمد بنيس والحافلة رقم 11. صديقي يموت فْ "النشاطْ". حين يأتي إلى الرباط ... يأتي برغبة واحدة : أن يُفرغ جيوبه في الأكل والشرب، في المحلات التي توجد فوق الأرض .. وتحت الأرض. في المرات التي كنت أرافقه فيها، والتي كنتُ أتذكر خلالها أسطورة باخوس، كنت أتعجب من قدرتي على الصبر كل تلك السنين طالباً ينتقل من سنة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، كمن يبحث عن وردة ضيعها في الصحراء. كنتُ أتصور نفسي سيزيفاً يلبس الجينز ويدحرج الصخرة عبر شوارع وأزقة المدينة. ** في المغرب، أن تكون طالباً، يعني أن تتعب كثيراً. أنْ تتعب معك الأسرة. أن يتعب معك الأصدقاء والجيران. أن يتعب معك الخضار والجزار وسائق الحافلة ومراقبها. وأن تتعب معك الطالبة التي طاوعتْ قلبها فصاحبتك. من هؤلاء من يتعب معك بالمال. منهم من يتعب معك بالدعاء لك أو عليك. منهم من يتعب معك بالشفقة عليك. منهم من يتعب معك، فقط، لأنه يرى أنك محظوظ وأنت تتفوق في دراستك. منهم من يذهب مع التعب إلى نهايته. منهم من يودعك في منتصف التعب. سيتعب معك اللحاف. ستتعب معك الوسادة، وأنت تجرجرها خلفك من بيت لبيت ومن مدينة لمدينة. ستفقد الوسادة لونها الأول، ومع ذلك ستكمل معك المشوار، حتى وهي تبدو مثل شاة تقطعت أوصالها وخرجت مصارينها. ** صديقي يسخر مني. في كل مرة يحل بالرباط يجدُني أكتب وأُراجع بحثي. يُكرر سؤالهُ الساخر ... نفس السؤال. دارجةُ صديقي صادمة. "باقي غيرْ كتْقْرا، باغي تْولّي اوْزيرْ ؟؟". كان دخولي مطعم الماكدونالدز امتحاناً شخصياً لقياس مدى قابليتي للتأقلم مع عوالم جديدة ومغايرة في ثقافتها ومضمونها وشكلها. تجرأتُ يومها فطلبتُ بإنجليزية فيها كثير من بداوة بني عمير: ... تشيز بيرغر !!! بدا الأمر مضحكاً بالنسبة لي، بعد أن استبد بي، قبل لحظات من ذلك، شعورٌ بالحرج من تواجدي بمكان ليس بيني وبينه غير الخير والإحسان، أنا الذي نشأت عْلى "اكْسكْسو" و"المرْقة"، حتى صرتُ غير قادر على تدريب معدتي على نمط آخر من الأكل. أحسستُ بالغربة عن المكان الذي تواجدتُ به بمحض إرادتي، حتى بدا لي أني بنيويورك، أو باريس، حيث يمكن أن ينتابك الخوف من إلقاء القبض عليك بتهمة التسكع بدون أوراق الإقامة وشحنك على متن أول طائرة متجهة إلى بلدك. هواءُ داخل المطعم هو غير الهواء المتواجد خارجه. هواءُ الداخل متحكم فيه عبر أرقام وأجهزة إلكترونية، كورية الصنع، على الأرجح. هواءٌ مستوردٌ من أجل راحة الرواد. من المفارقات اللافتة أن هذا المطعم كان في إحدى اللحظات، المعبرة عن مكر التاريخ ومآل الإيديولوجيات، مركزاً ثقافياً سوفياتياً. ** تفتت الاتحاد السوفياتي ونقل تحويل البناية، من مركز ثقافي على النمط الاشتراكي إلى مطعم وجبات سريعة على النمط الليبرالي، صورة معبرة وملخصة لمآل صراع دام أكثر من نصف قرن شاطرًا العالم إلى نصفين. أتخيلُ الكتب الحمراء ممزقة. أتخيل عناوينها تتحول إلى كينغ بيرغر وتشيز بيرغر. أتخيلُ الأفلام الوثائقية الطويلة، عن لينين وستالين والثورة الروسية وموت قيصر، تتحول إلى أفلام مكسيكية وبرازيلية، أجمل ما فيها بطلاتٌ في نصف لباس بقُدُود بَحْرية وشعر اسكتلندي. أتخيلُ الكيتشوب الأحمر شماتة ليبرالية في الثورة الحمراء !! أمعنُ النظر في لون الكيتشوب، فأقولُ مع نفسي، إن ذلك هو كل ماتبقى من أغلفة الكتب الحمراء وأشرطة الثورة والرايات المزينة بالمطرقة والمنجل. ** المُهييمْ ... لندخل المطعم. يبدو رواد المطعم على درجة عالية من الرفاهية وراحة البال. أطفالٌ يرطنون بفرنسية أجد إلى اليوم صعوبة في تمريرها في الحلق ماءً. أمهاتٌ يختلفن عن نساء القرية التي جئت منها. نساءُ القرية غارقاتٌ في حياتهن البسيطة، قانعاتٌ بالنصيب، متحملاتٌ لشقاوة الأبناء. في مثل هذا الواقع، يمكنك أن تُحس ب "الحكرة"، كما يمكن أن ينتابك إحساسٌ بالبطولة. الطفلُ الذي يأتي العالم من قرية هامشية، ليطالب، بعد مسار دراسي ناجح، بحصته من الصراخ أمام بناية البرلمان وبوظيفة عمومية، لايمكن إلا أن يكون بطلاً. في مثل هذه اللحظات من عمر الفرد، قد يتولد لديك إحساس بالبطولة، وربما انتابك شعور بأنك مسْخُوطْ الوَالِدِينْ، أنتَ القادمُ من قريةٍ خاف سكانُها، على امتداد السنوات، وشايات المْقدّمْ واسْتدْعاءَاتْ القايْد والغبار الذي تخلفه سيارة الجّدارمية، خلال زياراتهم المتقطعة للقرية، بحثاً عن بائعٍ للكيفْ أو الماحيا أو سارقِ بقرة. واليومْ ؟ غادرتَ الرباطْ ؟ أدْمنتَ الأكلات السريعة ؟ لم يعدْ يستهويكَ ركوبُ الحافلات ؟ وماذا بعد ؟؟؟؟