لست على يقين من أن نخبنا على مستوى الرقعة العربية تعي حقيقة الفرق الواقعي بين النكتة والسخرية والاستهزاء، إذ النكتة لها نطاقها العفوي أو الترفيهي، والسخرية لها مجالاتها وسياقاتها الفنية والأدبية والإعلامية، بينما الاستهزاء وإن كانت له فروع - ولا يقتصر على اتجاه كما لا ينحصر في زاوية - فإنها تتقاطع جميعها لتجتمع في الذهنية الاستعلائية والعقلية الحاقدة الفاسدة والأنانية الضالة عن القيم والنظم والمواثيق. وإذا كان ما يجري في العالم وحوله اليوم - كما في عالمنا الخاص (...) - من تطاحن وتضارب وصراع مختلف الأوجه تعدى مجال الإيديولوجيا ومجال الفكر إلى استعراض القوة وحب الهيمنة والتسلط من أجل بسط "الرأي" الواحد قد تعدى نطاق النكتة يقيناً ليلج ساحة السخرية بكل أبعادها وتلاوينها الفنية والإبداعية، إن على مستوى الكلمة أو الصورة أو غيرهما، مما يسمح به الفكر الإنساني والذكاء البشري ليوصل رسالة ما، في الإطار الفني والإعلامي والتوعوي، وفي إطار استنهاض الهمم للتفاعل والمواكبة بكل الأبعاد المأمولة...، فإن التوازن لم يحصل بعد - فيما يبدو بالنظر لشساعة الهوة القائمة ! - بين قوى الظلم ودعاة القتل والهدم والدمار لسعيهم الحثيث إلى التضييق على الأنفاس بكل الوسائل "المشروعة" وغير المشروعة، غير آبهة بأعداد الضحايا ولا بفظاعاتها، حتى أنها غير واعية ولا مبالية ولا منصتة للعواقب الكارثية المحتملة بلا ريب على.. الأعقاب، وبين مجال السخرية الراقية باللحن وعذب الكلام، أو الصورة ودقة الاختيار وأداء الريشة وحس الرسام، أو غيرهما من أساليب الرقي في تعابير الإيمان بسبل البناء ومنطق السلام، حتى ببلاغة الشعر الفصيح وصدح الزجل القوي المليح، ويحضرني هاهنا ذلكم الأداء الرائع المؤثر في الكلام المتزن الرصين واللحن شجي الترانيم ، سواء باللهجة الأمازيغية أم اللهجة العربية الجزائريتين اللتين أضحتا في ظرف قياسي لغتين "عالميتين" بامتياز (على الأقل إعلاميا) في إطار الحراك الشعبي السلمي المتحضر الذي تشهده الجزائر منذ أزيد من شهرين، والذي يستحق كل الاحترام كما يستحق بالطبع كل التنويه. لكن وجه الاستهزاء يكمن بكل أسف في تعاطي قوى الظلم والطغيان مع منطق الحق والعدل والنظم المسطرة، والتي غالبا ما يعلن "آباء" الفساد التزامهم بها أمام أضواء الإعلام متوهمين أن بإمكانهم حجب شعاع الشمس بما يزعمون ضلالا وتضليلا، هذا الاستهزاء بالازدواجية البارزة المفضوحة التي لم تعد تنطلي حتى على أبسط السذج ولا على أتفه المغفلين، وطبعا لا يقتصر الاستهزاء البليد على قوى الظلم العالميين وحسب، وإنما ينجلي أيضا على جميع الطغاة والمفسدين عالميا وقاريا ومحليا، وحتى في الإطار الضيق، حيث ليبدو للبعض أن ليلهم غالب وسابق، وأن ظلمته هي الضياء، وأنهم الدهاة.. السائرون في النهج "الصحيح" بعيداً عن الرصد (...)، بينما الاستهزاء بَالِغُهُم، والحق أنهم ما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون... وجدة في: 30 شعبان 1440 // 06 ماي 2019.