ظلت مدونة الشغل موضوع اهتمام كبير من طرف الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والقضاة والمحامين والجمعيات الحقوقية ووسائل الإعلام والمهتمين من مختلف المجالات ومن الرأي العام الوطني ونظراً لما لها من دور في تنظيم علاقة العمل بين الأجراء والمشغلين وما لذلك من تأثير على الأوضاع المهنية والاجتماعية والاقتصادية وتحقيق السلم الاجتماعي سأقوم بتحرير هذا المقال بعنوان : "مدونة الشغل بعد 16 سنة من التوافق عليها : تقييم اجتماعي واقتصادي" من خلال ثلاثة محاور : - المحور الأول : ما تم القيام به من خطوات إلى أن تحقق التوافق عليها. - المحور الثاني : المراحل التي مرت منها بين 2003 و 2019. - المحور الثالث : ما يتعين القيام به خلال المراحل المقبلة. واكبتُ المراحل التي مرت منها مدونة الشغل منذ أن تقدم السيد رفيق الحداوي وزير التشغيل بمشروع سنة 1994 هذا المشروع كان متقدماً ومتوازناً يضمن حقوق العمال وحقوق المقاولة، إلا أنه بعد ضغوط كبيرة من طرف أرباب العمل تم سحبه، وبعد أن تسلم السيد أمين الدمناتي حقيبة الوزارة تقدم بمشروع جديد سنة 1995 وكان متراجعاً بشكل كبير مقارنة مع المشروع السابق وهو ما تطلب وقتاً طويلا في المناقشة داخل مجلس النواب، وعلى إثر ذلك تم تكوين لجنة داخلية من طرف ك د ش والفريق الاتحادي حيث قامت هذه اللجنة بإعداد ورقة شاملة عن المشروع، تم اعتمادها فيما بعد من طرف الفرق الممثلة لكل من الاتحاد والاستقلال والتقدم والاشتراكية والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وقد شكلت هذه الورقة مساهمة قوية أدت إلى تعديل حوالي 60% من المشروع الذي جاء به السيد خالد عليوة وزير التشغيل سنة 1998 في حكومة التناوب التوافقي برئاسة السيد عبد الرحمان اليوسفي هذا المشروع الذي استمرت مناقشته إلى أن تم التوافق عليه سنة 2003 بعد عقد العديد من اللقاءات والاجتماعات لمناقشته داخل البرلمان بمجلس المستشارين وخارجه ونذكر هنا مناسبة تنظيم يوم الاستشارة الوطنية حول مشروع المدونة المنظم من طرف الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في 14 يوليوز 2001 بالدار البيضاء بمشاركة نقابيين وخبراء، وخلال هذه الفترة كتبت مقالين بجريدة الرهان الآخر التي كان يديرها الأستاذ شعيب حليفي حيث تم نشر المقال الأول بالعدد الثاني منها بتاريخ 23 غشت 2011 والثاني بالعدد الثالث منها بتاريخ 30 شتنبر 2011 تطرقت فيهما إلى موضوع النقط الخلافية في المدونة كما كانت تسمى في تلك المرحلة ومنها : - اعتبار عقد الشغل المستمر قاعدةً وعقد الشغل المحدد المدة استثناءً يمكن العمل به عندما تستدعي الضرورة ذلك. - حذف عرقلة حرية العمل أثناء الإضراب من لائحة العقوبات التي تخول المشغل القيام بها عند ارتكاب الخطأ من طرف الأجير لكي لا يكون المشغل خصماً وحكماً. - السماح بممارسة العمل النقابي داخل المقاولة. - الرفع من الجزاءات عند مخالفة المشغلين للقانون. - إعطاء الحق للمكاتب النقابية للدفاع عن العمال داخل المقاولة عند ارتكاب الخطأ. - اعتبار مدونة الشغل قانون الحد الأدنى ويطبق على أُجَرَاء القطاع العام الذين لا يسري عليهم أي قانون. - تقوية دور المفاوضة الجماعية واتفاقيات الشغل الجماعية لما لذلك من أهمية في تقوية العلاقات المهنية. - تقليص فترة الاختبار بالنسبة للعمال والمستخدمين والأطر في حدود ما هو ضروري. حيث كان عدد النقط الخلافية حوالي 59 منها ست قضايا جوهرية ومنها ما هو جزئي. والهدف من التذكير بما جرى من نقاش في تلك المرحلة هو إبراز المجهودات الكبيرة التي تم بذلها والتي أدت للوصول إلى التوافق إثر اتفاق 30 أبريل 2003 حيث صادق البرلمان عليها بالإجماع دون مناقشة مزكياً بذلك التوافق الذي تم بين الأطراف الثلاثة وهو ما اعتبر آنذاك حدثا ذا أهمية كبيرة في مجال تشريع الشغل والعلاقات المهنية. - المحور الثاني يتعلق بالفترة الممتدة ما بين 2003 و 2019 : إن التوافق على المدونة بالشكل الذي تم به كان يستدعي الإسراع بتنفيذ ما تضمنه، غير أن وتيرة التطبيق لم تَسِرْ وفق السرعة المطلوبة مباشرة كتبتُ العديد من المقالات بعنوان "من أجل أن يؤدي خروج مدونة الشغل إلى تحقيق الأهداف المطلوبة"، ومنها ما كان يتعلق بمواضيع محددة مثل حقوق المرأة العاملة في مدونة الشغل والتكوين المستمر، ودور جهاز تفتيش الشغل، وغيرها وخلال هذه الفترة تكرر تنظيم العديد من اللقاءات والندوات التي تم تنظيمها في هذا الشأن ومنها : - اليوم الدراسي والتكويني الذي نظمته النقابة الوطنية للنسيج والألبسة والجلد المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بتعاون مع نقابة CSC البلجيكية في 5 يونيو 2005 بمكناس بعد سنة على صدور المدونة. - اللقاء الدراسي الذي نظمته محكمة الاستئناف بفاس حول مدونة الشغل بعد سنتين من صدورها والذي تم نشر أشغاله في المجلة الإلكترونية لندوات محاكم فاس في عددها الرابع لشهر يونيو 2006. - الندوة التي نظمها المعهد العالي للقضاء حول موضوع مدونة الشغل بعد سنتين من التطبيق والتي تم نشر أشغالها في العدد التاسع من سلسلة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية التي يصدرها المعهد العالي للقضاء الصادر سنة 2007. - الندوة التي نظمها الفريق الفيدرالي بمجلس المستشارين حول موضوع مدونة الشغل بعد عشر سنوات من صدورها بتاريخ 23 نونبر 2013. - الندوة التي نظمتها وزارة الشغل والشؤون الاجتماعية حول مدونة الشغل بعد عشر سنوات من التطبيق بين متطلبات التنمية الاقتصادية وضمان العمل اللائق بتاريخ 22 – 23 شتنبر 2014. - ويصعب حصر عدد اللقاءات والندوات التي تمت في هذا الشأن نظراً لكثرة عددها سواء التي نظمت بشكل مشترك أو التي نظمت من طرف كل جهة على حدة من الجهات المعنية. - ورغم الخطوات التي تم بذلها خلال المراحل السابقة فما زال الموضوع يتطلب القيام بمجهودات كبيرة من أجل تطبيق مقتضيات مدونة الشغل. - المحور الثالث يتعلق بما يتعين القيام به خلال المراحل المقبلة : ونظرا لأهمية تطبيق القانون الذي أعطاه دستور فاتح يوليوز 2011 ما يستحق من أهمية، خاصة الفصلان السادس والثامن منه وعلاقة بالمقالات التي كتبتها خلال المراحل الأخيرة حول الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية وبالأخص المقال الأخير حول الحوار الاجتماعي والحماية الاجتماعية ولكون القانون الاجتماعي ينقسم إلى فرعين : الحماية الاجتماعية وقانون الشغل سأتطرق إلى ما يتعين القيام به لتطبيق مقتضيات مدونة الشغل. وفي البداية لابد من التأكيد على ضرورة احترام ما تنص عليه المواد 3 و 9 و 11 فبالرجوع إلى هذه المواد وإلى النظام الأساسي للوظيفة العمومية وإلى المواثيق والأعراف المعمول بها في مجال تشريع الشغل والعلاقات المهنية ستكون الحكومة ملزمة بإعادة النظر في ما تقوم به حول التشغيل بالعقد في القطاع العام وفي ما يتعلق بوضعية عمال التعاون الوطني والإنعاش الوطني وتوظيف الخبراء لضمان استقرار العمل لفئة واسعة من المواطنين الذين يعيشون أوضاعًا جد صعبة بسبب عدم الاستقرار في العمل وهزالة الأجور التي يتقاضونها بالإضافة إلى ما هي ملزمة أن تقوم به فيما يتعلق بالتدبير المفوض وعند إبرام عقود الشراكة بين القطاع العام والخاص وإبرام الصفقات العمومية. وبالنسبة للقطاع الخاص فإن ومدونة الشغل تضمن التوازن بين حقوق الأجراء وحقوق المقاولة، غير أنه يجب أن يتم التعامل مع مقتضياتها وفق منظور شمولي لكونها تتكامل مع بعضها : - باحترام ما تنص عليه المادتان 16 و17 من المدونة على إبرام عقد الشغل المستمر عندما يكون العمل بطبيعته مستمرا ويمكن إبرام عقد الشغل المحدد المدة عندما يكون العمل بطبيعته مؤقتا أو عند خلق مقاولة جديدة أو إطلاق منتوج جديد خلال فترة سنة قابلة للتجديد مرة واحدة وهذه القاعدة تضمن حقوق العمال وحقوق المقاولة. - احترام ما تنص عليه المواد من 86 إلى 91 حول عقد المقاولة من الباطن الذي يتم التعامل به عندما تكون المقاولة لها طلبات استثنائية يمكنها أن تتعاقد مع مقاولة أخرى من أجل تسريع العمل لكي تفي بالتزاماتها مع زبنائها، غير أن المقاول الأصلي هو الذي يتحمل المسؤولية إذا ما وقع المس بحقوق العمال. - احترام ما تنص عليه مواد المدونة من 495 إلى 506 عند اللجوء إلى مقاولات التشغيل عندما يكون العمل مؤقتا بطبيعته. - احترام القانون عند استعمال عقود تدريب من أجل الاندماج المهني الذي يتم عن طريق الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات وفق ما ينص عليه القانون رقم 93.16.1. - تفعيل القانون المتعلق بمقاولات الحراسة ونقل الأموال وفق ما جاء به القانون رقم 27.06 الصادر في 30 نوفمبر 2007 حماية لحقوق العمال بدل التشغيل المؤقت لما لذلك من أهمية كبيرة في المساهمة في توفير الأمن ولكون نوعية العمل ذات طبيعة مستمرة. - تقوية دور الوساطة في التشغيل الذي تقوم به الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات المحدثة بقانون 51.99 والتي حلت محل مكاتب التشغيل التي كان ينظمها ظهير 27 شتنبر 1921 لكي تقوم بمهامها على الوجه المطلوب بأن تعمل على تشغيل جميع العاطلين من حملة الشواهد ومن المهنيين من مختلف القطاعات مع تطبيق ما تنص عليه المادة 511 من مدونة الشغل حول التصريح بكل عملية تشغيل عند حدوثها. وبالرجوع إلى الواقع يتبين أن كل هذه المجالات تعرف اختلالات كبيرة. ومن أجل استثمار الإمكانيات القانونية التي توفرها المدونة في مجال التدبير وتطوير العلاقات المهنية سواء على مستوى المقاولة أو على المستوى المهني أو على المستوى الوطني بكيفية مشتركة بين طرفي الإنتاج، هناك مجموعة من الآليات يجب تفعيلها، ومنها : - لجنة المقاولة وفق ما تنص عليه مواد المدونة من 465 إلى 469. والتي لها دور كبير في تقوية وتطوير العلاقات المهنية بالمقاولة. - لجنة السلامة والصحة حسب ما تنص عليه مواد المدونة من 336 إلى 344. والتي تقوم بدور أساسي في هذا المجال لما له من أهمية. - المجالس الاستشارية المنصوص عليها في مدونة الشغل والمتمثلة في : المجلس الأعلى لإنعاش التشغيل والمجالس الجهوية والإقليمية لإنعاش التشغيل وفق ما تنص عليه المواد من 522 إلى 525. مجلس المفاوضة الجماعية حسب ما تنص عليه مواد المدونة من 92 إلى 103. مجلس طب الشغل والوقاية من المخاطر المهنية حسب ما تنص عليه مواد من 332 إلى 339. اللجنة المكلفة بمتابعة التشغيل المؤقت حسب ما تنص عليه المادة 496. إذ يمكن وضع برنامج على مستوى كل هيأة على حدة يتم فيه رصد الاختلالات مع وضع تصور لإزالتها من خلال اجتماعاتها على أن يتم الرفع من مستوى حضورها حتى لا تظل اجتماعاتها روتينية تجتمع فقط لكي تجتمع. - تقوية دور لجان المصالحة والتحكيم : بالعمل على الرفع من مستوى تركيبتها وحضور أشغالها وفق ما تنص عليه مقتضيات المدونة من 549 إلى 585 حتى تتمكن من أداء مهامها على المستوى المطلوب. - تقوية دور الأعوان المكلفين بتفتيش الشغل بالرفع من العدد الحالي مع توفير وسائل العمل إلى المستوى الذي يجعلهم قادرين على القيام بمهامهم على الوجه المطلوب. وأعتبر أن تشريع الشغل المغربي بما في ذلك قانون الشغل وقوانين الحماية الاجتماعية متقدم بشكل كبير، ومع الأسف لا يتم استثماره بالشكل المطلوب وهو ما يتطلب فقط توفر الإرادة القوية لدى الجهات الحكومية المسؤولة ولدى المشغلين مما يقتضي أن تتحمل المقاولة مسؤوليتها الاجتماعية وأن يتم العمل على هيكلة القطاع غير المهيكل الذي أصبح يشكل خطرا على حقوق العمال وعلى حقوق المقاولات التي تطبق القانون وأن يتم وضع برنامج لتطبيق القانون الاجتماعي في شموليته بما فيه مقتضيات مدونة الشغل وقوانين الحماية الاجتماعية وهو ما سينعكس بشكل إيجابي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ويؤدي إلى توفير مناخ اجتماعي سليم.