محمد بنشريفة علاَّمة تُشَدُّ إليه الرحال في حياته وبعد مماته. الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمتْ عالم منها يمتْ طرف وصدق الحسن البصري عندما قال: تمرُّ بنا الأيام تترى وإنما نُساقُ إلى الآجال والعينُ تنظر فحياة العلماء خير عظيم، وفقدهم مصاب جسيم. ولئن كان الموت غيّب أستاذَنا الجليل محمد بنشريفة، فإنه سيبقى حيا خالدا بأعماله ومنجزاته، نقتطف منها ثمارا ناضجة، ترشدنا إلى اللاحب من الطرق في البحث والدرس. مسيرته العلمية تحلِّق بنا في عوالمه متنوعة الأرجاء، متعددة الأبعاد، فهو من الرعيل الأول للأساتذة الجامعيين بالجامعة المغربية أول إنشائها، أخلص للعلم منذ أن تشربت نفسُه طعمَ القراءة، فلم تكن مغريات الحياة لتصرفه عن البحث والدرس، والكتابة والتأليف في كل مراحل حياته، فكان شعلةً منَ العطاء في كل وقت وفي أي ظرف. قارئٌ نَهِمٌ لكل ما يقع بين يديه، يذكر رحمه الله "أنه شارد علم"، يبحث ويتقصى في كثير من الصمت وكثير من التأني، يقول عن القراءة في بحث له عن أبي الحجاج يوسف بن غَمْر، مؤرخ دولة يعقوب المنصور، نشر بمجلة أكاديمية المملكة المغربية، العدد 10 سنة 1993، "إن القراءةَ المتأنية، والمراجعةَ المتكررة للنصوص، تقود القارئ المتيقظَ والباحثَ المتنبهَ إلى اكتشاف خباياها، وإيضاح خفاياها، والذين يداومون على قراءة النصوص يخرجون دائما بعد كل قراءة بشيء جديد". كانت القراءة إذن هي المَعْبَرَ الذي سلك منه طريقا شاقا إلى تعامله مع النصوص التراثية الأدبية، وإلى شغفه بتحقيق نفائس المخطوطات والتنقيب عن الغميس من دفين المأثورات ليعكف على تحقيقها وفكِّ طلاسمها بعد أن سحرته بغرائبها ودعته إلى الاستئناس بها في خلواته ورحلاته، ويستمتعَ بشواردها في كل وقت، فأبدع وأجاد، ودوّن وأفاد. الأستاذ محمد بنشريفة من العلماء الذين اهتموا بإحياء التراث الأدبي في الغرب الإسلامي، باحثا منقبا، محققا دارسا. باحث رصين وهو يعيد النظر فيما بين يديه من المخطوطات بعين الناقد المتفحص بأناة وروية ليكشف حقيقتها ويتناول مُسْتَغْلَقَها مهما كلفه ذلك من جهد ومشقة، فيُحييَ بتلكم النظرات والتحقيقات تراثا أدبيا يحلق بالقارئ في عالمين: عالم صاحب المخطوط، وعالم الأستاذ المحقق. بنشريفة ذاكرة يقظة، مع سعة صدر وحسن تأنٍّ متحديا الظروف والعراقيل لينجح في مشروعه العلمي ويقدم للمكتبة المغربية النفائس من المؤلفات الموزعة بين: التحقيق والتوثيق، والدراسات والأبحاث التي عُنِيَ خلالها بتراجم الأعلام على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم. تهمُّمُه بالمخطوطات قاده إلى الإدارة العلمية والإدارية لخزانتي القرويين بفاس والخزانة العامة بالرباط قبل أن يصبح اسمها المكتبة الوطنية. وهو أول عميد لكلية آداب وجدة وأول رئيس لجامعة محمد الأول بها. وهو من قبل ومن بعد أستاذ الأجيال في الجامعة المغربية والمشرف على الرسائل والأطاريح الجامعية تحقيقا ودراسة في الرباط وفاس ووجدة وتطوان ومراكش وغيرها. ومنذ أن أغراه ابن عميرة المخزومي سنة 1964 بالتعريف به وبآثاره، كانت عينه على ما خفِيَ من المخطوطات، فانتهجَ رَكْبَ الكتابة عن الأعلام الأندلسيين والمغاربة والأفارقة والمشارقة على السواء. هكذا كانت سلسلة مؤلفاته متنوعة، بدءا بالتعريف بالقاضي عياض لولده أبي محمد وبأعلام كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي "الجزء 8"، وبآخرين؛ منهم أديب الأندلس أبو بحر التجيبي والبسطي آخر شعراء الأندلس والكفيف الزرهوني وملعبته، وابن لبال الشريشي وابن رشد الحفيد وابن عبد ربه الحفيد، كما نال الأفارقة حظهم فكتب عن الساحلي وسقين والكانمي وغيرهم، ومن المشارقة كان عمله المتميز منصبا على علمين لهما بصمات واضحة في الأدب العربي، أولهما: إخراج وتقديم مصنف عُنِيَ بشروح أندلسية غير معروفة لسقط الزند للمعري، وهو مخطوط فريد من مخطوطات الزاوية الناصرية وصدر سنة 2011، وثانيهما إعداده "شرح ديوان أبي فراس الحمداني لابن خالويه" حسب المخطوطة التونسية وصدر سنة 2000، محافظا على الترتيب الذي وضعه ابن خالويه، فهذه النسخة كما يذكر الأستاذ بنشريفة "بحكم قدمها تمثل صورة ديوان أبي فراس كما جمعه ابن خالويه". أما آخر عمل صدر قبل وفاته سنة 2018: "الأعمال الكاملة لأبي المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي" في ستة أجزاء، ولعل المثير للانتباه أن ابن عميرة رافقه منذ بداية حياته مؤلفا ومحققا إلى أن وافته المنية. وعلى الرغم من أن أكثر أبحاثه انصبت على التراث الأندلسي، فقد كان يذكر "أن المغرب تحمّل العبء الأكبر في إحياء هذا التراث، والأندلس امتداد للمغرب، وللمغاربة شأن في فتحها وعمرانها وتراثها". وإضافة إلى المؤلفات والتحقيقات المنشورة البالغ عددها خمسة وخمسين مؤلفا، فللأستاذ بنشريفة العديد من المقالات الأكاديمية المنشورة في مجلة أكاديمية المملكة المغربية وفي مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة وفي مجلة دار الحديث الحسنية بالرباط ومجلة البحث العلمي بالمغرب ومجلة كلية آداب الرباط ودعوة الحق وغير ذلك. هذه المقالات في حاجة إلى جمعها ونشرها والإفادة منها، كما أن له مشاركات في مؤلفات جماعية. بنشريفة عضو المجامع اللغوية العربية بالقاهرة ودمشق، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمان، والأكاديمية الملكية للتاريخ بمدريد، وعضو مجلس الأمناء بمؤسسة حمد الجار بالرياض، وعضو مجلس الأمناء بمؤسسة البابطين بالكويت، وعضو أكاديمية المملكة المغربية أول إنشائها. محمد بنشريفة نال العديد من الجوائز العلمية، منها جائزة المغرب للكتاب سنة 1986، جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1988، جائزة الاستحقاق الكبرى سنة 1993، جائزة الكويت للتقدم العلمي سنة 1999، كما حظي بتكريمات عديدة في كلية الآداب بمدينة وجدة سنة 1995، وكلية الآداب بالرباط سنة 1998، والمجلس العلمي المحلي بمراكش سنة 2013، ومنظمة المجتمع المدني بشفشاون 2014، والرابطة المحمدية للعلماء بالرباط 2016، وجمعية اللغة العربية بمراكش 2017، ومنتدى الإثنينية بجدة سنة 2008. كما نال أوسمة عديدة في المغرب وخارجه. بنشريفة ناسك متبتل في محراب العلم، بعيدا عن الأضواء والمجاملات، فهو كما وصف نفسه في واحد من تكريماته متمثلا بقول الشاعر: إنِّي امرؤٌ فيَّ انقباضٌ وحِشْمَةٌ فإذا صادفتُ أهل الوفاء والكرم أرسلْتُ نفسي على سجيَتِها وقلتُ ما شِئْتُ غيرَ محتشم الأستاذ بنشريفة هرم سامق في دنيا العلم والعلماء، ورمز خالد في أبهاء المحققين الأصلاء، وعلامة مضيئة في تاريخ مغربنا. عاش في الظل، ومات في الظل، بعيدا عن الأضواء، عفيفا متواضعا، يعمل بتؤدة ونكران ذات في محرابه العلمي لا يبغي به بديلا. وأخيرا فليسمح لنا أستاذُنا بنشريفة ويحِقُّ لنا أن ننعتَه ونصفه بما نعت به ابن عبد الملك المراكشي منوها به وبعلمه عند تحقيقه كتاب الذيل والتكملة، فنقول: "بنشريفة فارس الميدان وكميت الحلبة دون منازع". توفي رحمه الله يوم الخميس 22 نونبر 2018.