اشتكى صديقي خالد طحطح ذات لقاء فكري، بطريقة لا تخلو من نكتة، من كون المؤلف في المغرب وربما في العالم كله من يدري لا يتربّح من كتبه ومؤلفاته، لأنه يُهدي - طوعا أو كرها - كل النسخ التي تعطيها إياه دار النشر لأصدقائه وزملائه، بل إنه ليضطر في أحيان كثيرة لشراء نسخ بثمنها المقرر ليُطيّب الخواطر، وإلا فالويل له ! وكان يقصدني في جملة من يقصد طبعا، لأنه - والحق يقال - لم يسبق لي أبدا أن اشتريتُ أحد كتبه، ومع ذلك هي موجودة عندي كلها مصففة في رف خاص بها في مكتبتي المتواضعة ! والآن فقط، وأنا أكتب هذا المقال الذي لا أدري هل سيروق له، عرفتُ لماذا يرفض في كل مرة أن يكتبَ لي جملة إهدائية في أول صفحة من كتبه. ما أغباني، فقد كنت أظن بأن أي كلام قد يقوله في حقي سيكون أقل شأنا بكثير من صداقة دامت حوالي ثلاثين سنة...!! عرفتُه منذ أواسط عام 1988، ومن يومها لم تنقطع الصلة الأخوية والثقافية رغم كل التحولات الاجتماعية والفكرية التي تصيب الإنسان عادة مع مرور الزمن تجعله يغيّرُ حتى جلدَه! بل إن علاقتنا مازالت تنمو وتتمتن وتتشابك كل يوم: مكالمات هاتفية شبه يومية، استعارة لكتاب (يحاول في بعض المرات حين يعجبه كتاب أن ينسيني فيه حتى يضع يده عليه، ولكني له بالمرصاد!)، مراجعة لمقال، مناقشة لعويصة، ثرثرة في مقهى بعيدا عن الفكر وإشكالاته، فهو محب كثيرا للنكتة، خاصة في اللحظات التي تلي انتهاءه من تدبيج كتاب أو مقال، وما أكثرها. وليعد من شاء للكلمة التي أعدها للجلسة الفكرية التي عقدها "صالون وعي الثقافي" للاحتفاء بكتابيه "البيوغرافيا والتاريخ" و"الكتابة التاريخية" ليعرف حجم خفة ظله، وهي منشورة في اليوتيوب. يا صديقي، لقد "أتعبتني" قراءة مقالاتك التي لا أدري كيف ومتى تستطيع إنتاجها؟! أتذكره، ونحن في آخر السلك الإعدادي، تلميذا غاية في الحركة والنشاط المفرطين إلى حد الشغب، ولكنه شغب محبوب محبب. خاصة أثناء لعبة كرة القدم خلال الحصص التي يتغيب فيها أساتذتنا، كان يحب أن يحتكر الكرة بالمراوغات الكثيرة حتى يضيعها، تماما كما ضيّع بعض الفرص في حياته بسبب مراوغات غير محسوبة...! ولكنه في القسم كان رصينا، متابعا لدروسه، منتبها، ويعرف كيف "يجمع النقط". في الثانوي سيفرقنا التخصص الدراسي، حيث سيكون توجهه علميا بينما فضلت أن أسلك مسلكا أدبيا، وفي الجامعة ولا أدري لحد الآن لماذا التحق بكلية الآداب بمرتيل طالبا في شعبة التاريخ والجغرافية، بينما التحقت أنا بشعبة اللغة العربية وآدابها. كان "مناضلا" في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وأتذكره في "الحلقيات" ذا فكر متّقد حر، وكان دائما ما "يُسقط الطائرة في الحديقة" فيدوّخ رؤوسنا بالتاريخ وفلسفته ونظرياته ومقولاته، ولا يمل كأي تلميذ مجتهد ! من الدفاع عن طروحات مالك ابن نبي وشبنجلر وتوينبي. أما صراعه مع طلبة اليسار فكان طاحنا. ولا أخفيكم سرا فقد كان يومها بلغة الطلبة إقصائيا. ولكن الأيام عركته وطحنته فاستوى معتدلا، إلا فيما يخص الدفاع عن اختياراته وتقديراته ومستخرجاته فلا مجال لزحزحته عنها إلا بشق الأنفس. الغريب أن انتكاسة كبيرة وقعت له، في مجال المعرفة والفكر، بعد التحاقه بالوظيفة مباشرة وابتعاده عن مدينته طنجة، فقد اهتم بالزواج وإنجاب الأطفال، وأصبح... خبزيا ! إلى درجة أنه تخلص تقريبا من كل كتبه. وهنا وقع فراغ في علاقتنا، دام سنوات قليلة، إلى أن جاءني ذات يوم يخبرني بأنه قرر متابعة دراسته في السلك الثالث، ومن ثم الدكتوراه. ولأني أعرف نفسيته جيدا فلم أشك لحظة بأنه سيأخذ ذلك بعزيمة وقوة. وأثناء ذلك بدأ في مراجعة بحثه لنيل الإجازة، ونشره تحت عنوان "فلسفة التاريخ"، وكان بمثابة تدشين طريق طويل من الإبداع في التأليف والتحقيق والنشر، ويبدو أن شهيته للكتابة مفتوحة دائما إلا فيما ندر، وأعرف وقت هذه الندرة عندما يبدأ في الإكثار من سرد الحكايات والنكات. أما المقالات فمتأكد أنه نفسه لا يستطيع إحصاء ما نشره لحد الآن في المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية (مجلة أسطور، مجلة الدوحة، مجلة العربية، موقع مؤمنون بلا حدود، رباط الكتب...) وكذلك الكتب، فقد نشر الكثير أيضا، ويكفي أن نشير إلى: الكتابة التاريخية، عودة الحدث، البيوغرافيا والتاريخ، الحدث ووسائل الإعلام، التاريخ من الأسفل، مؤرخون مغاربة، ضريبة الترتيب بين المعونة والمكوس... دون أن ننسى مشاركاته العديدة في الندوات واللقاءات الثقافية والبرامج الإذاعية والتلفزية. لقد أصبح في بضع سنين اسما لا يمكن تجاوزه في الدراسات التاريخية في المغرب، بعمر لا يتجاوز الثالثة والأربعين ربيعا. وهذا ما جرّ عليه مشاكل كثيرة مرتبطة كلها بما يمكن تسميته" غَيْرَة المثقفين" من بروز ونجاحاتِ مَنْ يعتبرونه طارئا. من خلال معرفتي الطويلة به أشهد أنه يستطيع بشكل مدهش أن ينسج أطروحة أو يصوغ إشكالية تتحول في وقت قصير جدا إلى مقال، أو إلى مشروع كتاب، وهذا مردّه ليس إلى اطلاعه الكبير في مجال تخصصه فقط، بل يعود أساسا إلى إقدامه وجرأته وجسارته، فهو عندما يتحمس لفكرة يقبل عليها بكُلّيّتِه ويبحث لها عن ما يسندها، ويبرز ذلك بوقار، بينما أعرف أنا وحدي بالإضافة إلى صديقنا محمد بكور بأن الأمر بدأ بشكل متهافت، وربما بطريقة هزلية. وما الذي يمنح كتاباته المقبولية، بل الاحتفاء عند قرائه ؟ إنها الجرأة في الطرح أولا، ثم تحرره من كل انتماء لتوجه أو منهج، فهو يحاول أن يجد لنفسه طريقا مستقلا قد يفضي في المستقبل إن سار على نفس النهج، وتوفرت له بعض الظروف، ووجد تشجيعا واعترافا بما ينتجه قد يفضي به إلى أن يكون نفسُه رائدا لمدرسة في البحث التاريخي، لم لا ! أما الذي يجعل كتاباته ممتعة فهو بدون أدنى شك تنوع قراءاته في غير تخصصه، خاصة في مجال الرواية، والرواية التاريخية والنفسية بالضبط، إضافة إلى بعض إطلالاته المركزة على الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، وقبل هذا وذاك انفتاح حاسة السمع لديه وصفاؤها، فكم من فكرة ناقشناها مع ثلة من الأصدقاء نجد صداها، أو مُطوَّرة، في كتاباته. أذكر، ذات رمضان، وبينما كانا في الطريق لحضور مناقشته رسالة الدكتوراه في كلية الآداب بالرباط، أنَّ زميلا مال عليه غامزا وناصحا بأن عليه أن يتريث قليلا ولا يتسرع في النشر، ربما لأنه كان يومها مرفوقا بأكثر من أربعة كتب، وبعناوين متخصصة براقة. ويبدو بأنه نسي هذا الدرس؛ فقد نشر مؤخرا كتابا تحت عنوان "التاريخ وما بعد الكولونيالية"، وقد أبان فيه كعادته عن تمكن ودراية: رؤية ومنهجا، ولكنه ضمَّنه في فصله الثاني مقالات لا علاقة لها مطلقا بعنوان الكتاب، وكان عليه أن يصدرها في كتاب مستقل، وبعنوان يعبر عن إشكالياتها، لأنها بالفعل تستحق أن تستقل بتأليف. أما نحن أصدقاؤه الذين رافقناه يومئذ لتشجيعه والاحتفاء به، فما زلنا لحد الآن ننتظر تلك الوليمة التي وُعدنا بها... ولكن الأمر طال تسويفه أكثر من اللازم، حتى إنه فاق، في هذه الناحية، "عرقوبا" في وعوده !