تقديم اللهجة طريقة في الاستعمال اللغوي توجد في بيئة خاصة من بيئات اللغة الواحدة، وهي العادات الكلامية لمجموعة قليلة من مجموعة أكبر من الناس تتكلم لغة واحدة. وهذه الطريقة أو العادة الكلامية تكون صوتية في غالب الأحيان، من ذلك لهجات العرب القديمة كالعنعنة، وهي قلب الهمزة المبدوء بها عين، وكذلك الكشكشة، وهي إضافة الشين بعد كاف الخطاب في المؤنث، وكذلك العجعجة، وهي جعل الياء المشددة جيما، وهذه الظواهر ماتزال متحققة في أغلب اللهجات العربية، في كل مناطق العالم العربي. ويلعب الاختلاف الصوتي دورا مهما في اختلاف اللهجات وتنوعها، واللهجة تغير يطال اللغة على مستوى تحققها الصوتي أو التعبيري. ويتفق أغلب الباحثين السوسيو لسانيين والبنيويين على أن اللهجة نظام تواصلي لا يختلف عن اللغة، فاللهجة في الاصطلاح العلمي هي "مجموعة من الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة، يشترك فيها أفراد البيئة الواحدة"، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل. وهذه البيئة الشاملة هي بيئة اللغة. ويزكي "دي سوسير" هذا الارتباط القائم بين اللغة واللهجة من خلال قوله: "من الصعب تحديد الفرق بين اللغة واللهجة، خاصة أن اللهجة غالبا تأخذ اسم اللغة، حيث تكون لغة إنتاج أدبي". إن مفهوم اللهجة مرتبط دائما بمفهوم اللغة، بل إن أغلب السوسيو لسانيين يرفضون التفريق بين اللغة واللهجة، على اعتبار أنه تفريق انطباعي وذاتي وغير علمي، إذ اللغة بالنسبة إليهم هي اللهجة نفسها، لذلك نرى CALVAT في كتابه "Linguistique et colonialisme" يقر بأن اللهجة ليست سوى لغة محطمة سياسيا، واللغة ما هي إلا لغة نجحت سياسيا. فيشمان بدوره، يفضل مصطلح التنوع اللغوي(Variété) ، بدلا من المصطلحات التقليدية المعروفة. ومفهوم (Variété) يعني الاعتراف بنوعيات مختلفة ومتعددة من اللغات باختلاف وتعدد المناطق الجغرافية داخل البلد الواحد. ومن بين العلوم التي تهتم بهذا الجانب اللسانيات الجغرافية. وفيما يتعلق بالمدرسة الأمريكية، سواء التوزيعية التقليدية في شخص (Chomsky) و(Haris)، أو السوسيولسانيات في شخص (Labov)، فيؤكدون جميعا أن علاقة اللغة واللهجة هي علاقة العام والخاص والكل والجزء، فنقول مثلا (تاريفيت تشلحيت تقباليت...)، باعتبارها نوعيات تنحدر من اللغة الأم وهي "الأمازيغية". والأمر نفسه ينطبق على العربيات المغربية، فعربية الدارالبيضاء ودكالة، وفاس ومراكش، ووجدة والداخلة وطنطان...، هي تنويعات لغوية، ولا يصح نعتها بأنها "لغات مستقلة"، إنها تنويعات لغوية للغة الأم (العربية الفصحى). ومن يتعقد عكس هذا يناقض حقيقة لغوية ثابتة. يمكن أن نخرج بخلاصة جزئية مما سبق، تتجلى في كون العلاقة بين اللغة واللهجة علاقة وطيدة، فصيرورة (لهجة لغة)، أو صيرورة (لغة لهجة)، رهينة بتوفر شروط سياسية واقتصادية ودينية أو عدم توفرها. ونمثل لذلك باللغة اللاتينية التي كانت لغة رسمية، فتفرعت عنها اللغات اللاتينية الحديثة (الإسبانية الإيطالية الفرنسية)، وذلك عقب تدهور الإمبراطورية الرومانية بفعل هجومات الجرمان والهون. كما أن اللغة الفرنسية كانت في ماضيها لهجة يتكلم بها أشراف باريس، ونظرا لاستعمالها من طرف الساسة الباريسيين، تحولت إلى لغة ذات سلطة رمزية، فهيمنت على اللهجات الأخرى (البروتون والاكستان...). أما اللغة العربية الفصحى في المغرب، فقد هيمنت على العربيات المغربية والأمازيغيات، لكونها كانت تملك شروطا مؤهلة تجلت في كون الإسلام لا يمكن فهم مضامينه إلا بها، فمال المغاربة إليها وجعلوها منذ قرون طويلة (عربا وأمازيغا) لغتهم لكونها حاملة الوحي الإلهي، ويمكن العودة إلى معظم التراث الفقهي المغربي، فهو مكتوب من طرف فقهاء أمازيغ بلغة عربية لا غبار عليها، ومن ثم لا يمك القول إن العربية الفصحى عملت عنوة على إبادة الأمازيغيات والعربيات المغربية، فهذا كلام باطل، وليس هناك دليل أصدق من أن هذه الأخيرة مازالت موجودة، ولها حضور هام في التراث الشفوي المغربي، كوسائل تواصلية يومية، وأدوات للتعبير والإبداع الفني، كما أن الدستور الجديد يتعامل معها باعتبارها لغات. كيف تتكون اللهجة هناك عاملان رئيسيان يعزى إليهما تكون اللهجات في العالم وهما: الانعزال في بيئات الشعب الواحد. الصراع اللغوي نتيجة الغزو أو لهجمات الأجنبية. وقد شهد التاريخ نشوء عدة لغات مستقلة من اللغة الواحدة نتيجة أحد هذين العاملين أو كليهما. فحين نتصور لغة من اللغات قد اتسعت رقعتها وفصلت بين أجزاء أراضيها عوامل جغرافية أو اجتماعية، نستطيع الحكم بإمكان تشعب هذه اللغة إلى لهجات عدة. ويترتب عن هذا الانفصال قلة احتكاك أبناء الشعب الواحد بعضهم ببعض أو انعزالهم عن بعضهم البعض. ويتبع أن هذا الانعزال في البيئات اللغوية أن لغة الشعوب أو القبائل التي كانت من أصل واحد لا تلبث بعد مرور قرن أو قرنين تتطور مستقلة على مستوى نطق الأصوات وصفاتها، ما يشعب اللغة الأم إلى تنويعات لغوية هي ما يسميه عامة الناس "لهجات". فمن طبيعة الكلام التطور والتغير مع مرور الزمن، ولكن الطريق الذي يسلكه الكلام في هذا التطور يختلف من بيئة إلى أخرى، ما يعطينا في النهاية تنويعات لغوية عديدة للغة الأم نفسها، وهو ما نلمسه بوضوح شديد بالنسبة للعربيات المغربية، مثلا في فاس حيث يتم تحقيق القاف في جملة (قال لي)، وفي دكالة يتم تحقيق القاف (ڭاف) ((gal lya. وهو ما نجده مفصلا في قول بن خلدون في نطق القاف "ڭاف" لدى العرب البدو؛ حيث يقول: "ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف .وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم .حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيه يحاكيهم في النطق بها." وليس للانعزال الجغرافي وحده كل الأثر في تكون اللهجات، بل يجب أن نضم إليه الانعزال الاجتماعي، واختلاف الظروف الاجتماعية بين البيئات المنعزلة داخل الأمة الواحدة. وهناك عوامل تشترك بينهما جميعا وقد ترجع إلى رابطة سياسية أو قومية أو اتجاه خاص في التفكير. إن عوامل الانفصال وعوامل الاتصال بين الشعوب هي ما أدى في الأصل إلى تنويعات لغوية من لغة أم واحدة، لكن الغلبة في جميع الأمثلة التاريخية-كما يشير ابراهيم أنيس-كانت دائما لعوامل الانفصال في آخر الأمر، فتتشعب اللغة إلى لهجات وتستقل اللهجة ويتميز بعضها عن بعض. أما العامل الرئيسي لتكون اللهجات فهو الصراع اللغوي نتيجة غزو أو هجرات إلى بيئات أخرى، وتكون النتيجة إما القضاء على إحدى اللغتين قضاء يكاد يكون تاما، أو تنشأ من هذا الصراع لغة مشتقة من كلتا اللغتين الغازية والمغزوة تشتمل على عناصر من هذه وأخرى من تلك. تفسيرات حول العربية المغربية تصنف العربية المغربية عادة على أنها درجة ثانية للغة العربية في إطار ازدواج لساني (عربي/دارج)، رغم ذلك تعتبر العربية المغربية اللغة الأم لأغلب المغاربة والأكثر شيوعا في الاستعمال اليومي، كما أن أغلب الأمازيغ يتحدثونها في إطار ازدواج لساني (أمازيغي/عربي)، وهي تعرف لدى العامة ب"الدارجة"، وليس لديها شكل كتابي لأنها تستعمل كلغة شفهية، تشترك العربية المغربية الكثير من الخصائص مع العربية المعيارية، فونولوجيا وتركيبيا وصرفيا... وبالرغم من الصلات التاريخية بين العربية المغربية والعربية المعيارية، فقد ظلت موضوع نقاش لساني معمق لعقود طويلة، وهناك ثلاثة تصورات لتحديد أصول العربية المغربية (الدارجة): الأول يعتبرها فرعا من العربية المعيارية، باعتبار الصلات التاريخية والفونولوجية والتركيبية بينهما، وكأنها استمرارية للعربية الأم. الثاني يعتبرها نوعا من اللغة المنطوقةspoken language ، التي تجاور العربية المعيارية المكتوبة (هناك تشابه بين العربية المغربية والعربيات في الوطن العربية حيث كلها مشتقة من الأصل نفسه مع تغيرات ذات طبيعة صوتية وصرفية أساساarabic koiné ). التصور الثالث يرى أن هذه اللغة تشكلت من عدة لغات، مثل اللغة التي انتشرت عند اليونان في الفترة الهلينيستية، يعني أنها خليط لغوي. خلاصة القول، إن اللغة العربية الفصحى تركت تأثريها الواضح في العربية المغربية، التي نعتبرها لغة بمستوياتها الصواتية والأصواتية والصرافية والدلالية والتركيبية. وهذه اللغة، هي في الحقيقة خليط من "اللغة العربية الأندلسيَّة الإدريسية، اللغة العربية الأندلسيَّة الجبلِيَّة، التنويعات العربية البَدوِيَّة والحضرية". *أستاذ التعليم العالي مساعد-جامعة أبي شعيب الدكالي