إذا كان الفلسطينيون جعلوا من يوم "30 مارس" ذكرى خالدة تحت اسم "يوم الأرض"، وباتوا حريصين على إحيائه مع كل سنة جديدة، لما يجسده من رمزية تاريخية، باعتباره حدثا محوريا في تاريخ الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، تعود أحداثه إلى عام 1976 إثر اندلاع الشرارة الأولى للاحتجاجات ضد السياسة الصهيونية، التي قامت بمصادرة أراضي فلسطينية، فإن الملك محمد السادس أراده أن يكون مختلفا هذه السنة بنكهة مغربية خاصة، وأن يزيده إشعاعا من خلال "نداء القدس". ففي سياق أجواء التوتر الذي يخيم على منطقة الشرق الأوسط، وما تتعرض إليه مدينة القدس الشريف من هجمة صهيو- أمريكية عوض الحفاظ عليها كعنصر للتعايش السلمي. وبحكمة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس، الذي لم ينفك يولي اهتماما خاصا بالقضية الفلسطينية عامة ومدينة القدس خاصة، ويحرص على دعم الشعب الفلسطيني المكافح من أجل استرداد حقوقه المشروعة في إقامة دولته فلسطين الحرة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية ومبدأ حل الدولتين. ارتأى أن يرد بطريقته الخاصة والزاخرة بالدروس والعبر على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، القاضي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدسالمحتلة، والاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل، ثم سيادتها على هضبة الجولان السورية المحتلة. وذلك عبر توقيعه يوم 30 مارس 2019 بالرباط، مع الحبر الأعظم بابا الفاتيكان فرانسيس على ما أطلقا عليه "نداء القدس". وهو الرد الأمثل والأقوى على كل تلك المحاولات الجبانة وغير المشروعة، الرامية إلى تهويد المدينة المقدسة وتغيير معالمها الحضارية والتاريخية... نعم أراد الزعيمان المسيحي قداسة البابا فرانسيس وأمير المؤمنين محمد السادس، أن يكون نداء القدس حدثا تاريخيا غير مسبوق، ودرسا بليغا وعميقا للعالم أجمع قصد حماية المدينة المقدسة، لما تمثله من تراث إنساني مشترك، فهي مدينة الأمل والتفاؤل الكونية وأرض السلام والتعايش بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية، ونبعا صافيا لقيم الاحترام والحوار. ويأتي "نداء القدس" منسجما مع الموقف الفلسطيني المتمسك بمدينة القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين المستقلة، وإبقاءها مفتوحة في وجه كافة أتباع الأديان السماوية وفق قواعد الاحترام المتبادل والحرية الدينية والتساكن والتسامح ونبذ العنف والكراهية، ومتطابقا مع رغبة ملك المغرب الأكيدة في إيجاد حل سلمي عادل وشامل لإنهاء النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي في أجواء من التوافق والتفاهم، ومتوافقا مع قناعته الراسخة بضرورة بث الشعور بالأمن والأمان، والسلام والاستقرار في المنطقة وسائر بقاع الأرض. وبالنظر إلى ما اشتهر به المغرب من كونه أرض سلام ووئام وتصالح وتسامح وتعدد الثقافات، وما يتميز به من موقع جغرافي بين أوربا وإفريقيا والعالم العربي، وبفضل ما عرف عن ملكه من قدرة على الاستشراف ونصرة القضايا العادلة وحماية المقدسات الدينية، وصناعة الأحداث الإنسانية والتاريخية الجريئة والجديرة بالتقدير، والتزام بلاده التام بالتعايش مع الديانات والثقافات، وعدم ادخاره أي جهد في تمتين الروابط بين الدول وترسيخ الحوار بين الأديان والثقافات والارتقاء بالسلم والاستقرار، فقد كان من الطبيعي أن تستأثر زيارة البابا فرانسيس باهتمام الرأي العام الدولي وتحظى بمواكبة واسعة من قبل وسائل الإعلام الأجنبية والعربية، التي أجمعت على نجاح اللقاء ونوهت ب"نداء القدس" ومدى أهميته في تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة وإحداث التقارب بين الديانات، معتبرة أنه يشكل دعوة صريحة إلى تعميق جذور الحوار المثمر... ولم يقف الأمر عند حدود إشادة الصحف الدولية، بل تجاوزها إلى مستويات عليا بدءا بقداسة البابا نفسه الذي عبر عن سعادته بتوقيع النداء الهام الذي أعطى دفعة قوية نحو الأمام، وجمعه بين إخوة في الإيمان والتآخي الديني الذي يعد من أبرز السمات المميزة لمدينة القدس، سيما أنه حدث ببلد عريق يعد نموذجا في الاعتدال الديني واحتضان المهاجرين، وتعزيز الروابط الروحية بين المسيحيين والمسلمين وسائر أتباع باقي الأديان، ومناهضة التعصب والأصولية وإعلاء القيم المشتركة. مرورا بالإعلان الصادر في أعقاب القمة العربية العادية في دورتها الثلاثين المنعقدة بتونس في 31 مارس 2019 تحت قيادة رئيسها الباجي القائد السبسي، الذي ثمن هذه الخطوة الهادفة إلى المحافظة على الطابع الخاص للقدس كمدينة متعددة الأديان والبعد الروحي والهوية الفريدة. وهناك أيضا تغريدة الملك الأردني عبد الله الثاني ابن الحسين على حسابه الشخصي بموقع "تويتر"، الذي أثنى من خلالها على مبادرة نداء القدس، مؤكدا على قدسية المدينة كرمز للعيش المشترك والاحترام المتبادل والتراث الإنساني، وأنها المدينة التي تجمع ولا تفرق، داعيا إلى تكاثف الجهود حتى تظل عنوانا للسلام. فضلا عن عدة شخصيات كبرى، رأت في النداء وثيقة تاريخية تعكس المبدأ المشترك للتسامح الديني وحرية الأديان في مدينة القدس، وفرصة مواتية للدفع بعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن "نداء القدس" حدث تاريخي بامتياز، وعلامة فخر واعتزاز، تضاف إلى السجل المغربي الحافل بالمبادرات الإنسانية، حيث استطاع أن يجلب إليه الأنظار من كافة بقاع الأرض، ويغطي على أهم القضايا والأحداث الهامة التي تزامنت مع إطلاقه، لأنه يشكل نقطة ضوء في عرض بحر مظلم ومتلاطم الأمواج، ويعتبر حافزا قويا من شأنه التصدي لمظاهر التطرف والإرهاب والدفع بعجلة السلام والاستقرار، وتحصين مدينة القدس بوصفها مركزا جامعا بين التعايش والتسامح، ومهدا لمختلف الحضارات البشرية، وملتقى للديانات السماوية وتراثا مشتركا للإنسانية...