عرفت الجمهورية التركية إجراء أول انتخابات بلدية في ظل نظام الحكم الرئاسي الذي تم إقراره بعد استفتاء الشعب التركي عليه، ما لفت إليها أنظار الأكاديميين وخبراء السياسة في الداخل والخارج، خاصة أنها تمثل في واقع الأمر استفتاء على شعبية الحزب الحاكم، بل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه . ويتنافس في هذا العرس الانتخابي حوالي 12 حزبا سياسيا تتوزع على 81 محافظة تركية، وهي أحزاب العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، بالإضافة إلى الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطي، والوطن، واليسار الديمقراطي، ثم حزب السعادة، والجيد، والوحدة الكبرى، وحزب تركيا المستقلة، وأخيرا الحزب الشيوعي التركي، والحزب الديمقراطي . وبما أن هناك قدرا كبيرا من الديمقراطية والشفافية في العملية الانتخابية في تركيا، تشهد عليها نسب إقبال ومشاركة الناخبين الأتراك في مختلف الاستحقاقات التي جرت على امتداد السنوات الأخيرة (تتعدى % 80 تقريبا) فإن نتائجها تعكس القوة التنافسية للأحزاب السياسية على الأرض، وقدرتها على استقطاب شرائح واسعة من المجتمع التركي على اختلاف توجهاته وإيديولوجياته، فضلا عن كونها تعطي قراءة أولية عن ملامح البرلمان القادم . وأظهرت النتائج الأولية لفرز أصوات الناخبين فوز حزب العدالة والتنمية بنسبة % 44.95، يليه في المرتبة الثانية حزب الشعب الجمهوري ب % 30.25، ثم حزب الجيد ب% 7.39، وحزب الحركة القومية ب %6.80؛ في حين حصل حزب الشعوب الديمقراطي على % 4.10، والأحزاب المتبقية ب%6.60 . وفي ما يخص القراءة والملاحظات العامة التي يمكن استخلاصها من خلال هذه النتائج، فهي كالآتي : 1 – احتفاظ حزب الشعب الجمهوري المعارض بكل البلديات التي كان يسيطر عليها، وضم بلديات أخرى على حساب منافسيه الرئيسين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، بنسبة تصويتية زادت عن الانتخابات السابقة بأزيد من % 1.5 . 2 – إذا كان حزب العدالة والتنمية تصدر نتائج الانتخابات البلدية في تركيا بنسبة % 44.4، فإنه يظل فوزا بطعم المرارة، لأنه فقد بعض البلديات كأردهان، وأرتفين، وأنطاليا، والعاصمة أنقرة بثقلها السياسي وكتلتها الانتخابية لصالح حزب الشعب الجمهوري المعارض.. ومن المحتمل أن يفوز هذا الأخير برئاسة بلدية إسطنبول التي تعد خزان تركيا الانتخابي بعد النظر في الطعون. 3 – تسجيل فارق مهم في النسب التصويتية بين العدالة والتنمية وخصمه التقليدي حزب الشعب الجمهوري، خصوصا في البلديات التي فاز فيها الأخير، من قبيل بلدية هطاي التي فاز بها مرشح حزب الشعب الجمهوري بنسبة 55.13% على غريمه الذي حصد % 42.78%.. ثم أنطاليا التي انهزم فيها مرشح العدالة والتنمية الحاصل على 46.26% أمام مرشح حزب الشعب الجمهوري الحائز على 50.61%، علاوة على بلدية إزمير التي اكتسح فيها مرشح الشعب الجمهوري بنسبة% 58 على منافسه الحاصل فقط على 38.6% من الأصوات . 4- فقدان حزب الشعوب الديمقراطي الكردي لبعض بلديات الجنوب، والجنوب الشرقي، والتي ظلت قواعدها الشعبية ذات الغالبية الكردية تدين بالولاء له مثل بنجولوبيتليس وأغريوشرناق لصالح حزب العدالة والتنمية. 5 – أبرزت هذه الانتخابات الهوة الشاسعة بين الأصوات التي استأثر بها كل من حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري المعارض من ناحية، والأصوات التي حصدها مرشحو باقي الأحزاب، مع تسجيل غياب المستقلين . 6 – يبدو بأن الانتكاسة القوية لحزب الحركة القومية في هذه الانتخابات جاءت نتيجة لتحالفه مع حزب العدالة والتنمية، إذ فقد أصوات عدد مهم من مناصريه لصالح حزب الجيد المعارض المستفيد من تحالفه مع حزب الشعب الجمهوري . ومهما يكن من أمر فإن هذه الانتخابات تظهر مدى الوعي الانتخابي للمواطن التركي في اختيار المرشحين الذين يراهم أصلح لخدمة مصالحه، حتى ولو كان خارج الدائرة الحزبية التي يصوتون لصالحها، فيبدو أن حزب الشعب الجمهوري فهم أخيرا اللعبة – ولو بشكل متأخر - وهي أن الأتراك في معظمهم، يصوتون بناء على برامج انتخابية اقتصادية واجتماعية مُغرية، وليس على صراع الهوية والإيديولوجيا (علماني / إسلامي، قومي / كردي...) . وقد يرى بعض المراقبين أن هذا التصويت يعاقب حزب العدالة والتنمية على المشاكل الاقتصادية التي عرفتها تركيا في الآونة الأخيرة؛ ولو أن الساسة الأتراك يرجعونها لمؤامرات خارجية لضرب العملة التركية، وبالتالي إضعاف باقي القطاعات الإنتاجية في البلاد، وبأنهم يعملون على الحد من هذه الاختلالات لإنعاش الاقتصاد مرة أخرى. وهذا يشي بأنه آن الأوان لكي يعيد الحزب الحاكم ترتيب أوراقه وحساباته لاستعادة ثقة قواعده الشعبية من جديد، التي لا تكترث كثيرا بنظرية المؤامرة، حتى وإن صحت، بل ترنو إلى مزيد من الارتقاء بالخدمات اليومية وتحسين مستوى المعيشة، وهو ما دفع الرئيس التركي في خطابه إلى الإشادة بوعي الناخب التركي وضرورة احترام اختياراته، مؤكداً أن حزبه ارتكب مجموعة من الأخطاء، سيعمل على تصحيحها، لاستعادة ثقة المواطنين في الفترة اللاحقة . أما حزب الحركة القومية فسيكون عليه إعادة النظر في تحالفه الانتخابي مع الحزب الحاكم، ومدى وقع ذلك على شعبيته وسط أنصاره ومؤيديه. ونفس الأمر بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي؛ لأن فشله الذريع في الاحتفاظ ببلدياته التقليدية يشكل تحولا غير مسبوق في موقف الشعب الكردي من الدولة التركية، والمكاسب التي يبتغي الحصول عليها، والوسيلة التي تحقق له هذه الغاية . *أستاذ باحث