توفيت دانييل ميتران، يوم 22 نوفمبر، بمدينة باريس، عن سن يناهز السابعة والثمانين. هي امرأة المعارك، والمناضلة التاريخية في سبيل حماية حقوق الإنسان. لم تتوقف أرملة الرئيس السابق فرانسوا ميتران، عن الالتزام بالقيم التي أوجدها اليسار. من أجل زوجها المتوفى سنة 1996، وقد رافقته طيلة مساره السياسي، منذ التقائهما سنة 1944. وبالنسبة لكل المضطهدين في الأرض، الذين تبنت قضية الدفاع عنهم، حد المجازفة أحيانا بالتصادم مع الدبلوماسيين. تقول : ((سأواصل مهمتي، حتى آخر يوم في حياتي))، وعد ويقين، ثم تبيّن مصيرٍ، لم تخطئه، رغم حادث سنة 1992. فالمرأة، التي لفظت أنفاسها الأخيرة، بمستشفى جورج بومبيدو، نجت ذات يوم، من محاولة اغتيال بواسطة سيارة مفخخة بمنطقة كردستان العراق، خلال موكب لمنظمة "فرنسا الحريات". الحادث، الذي أودى بحياة سبعة أشخاص، وجرح سبعة عشر آخرين. دانييل ميتران، المهتمة بقضايا العالم الثالث، والعولمة كرست نفسها بجدية، للمهام التي اعتبرتها عادلة. أول وعكة صحية، شهر شتنبر، لم تمنعها من تهيئ الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين، لميلاد مؤسستها، يوم 21 أكتوبر : ((ينبغي، أن أكتب خطابا !)) هكذا، تردد، وهي طريحة الفراش. صورتها يوم الحفل، أظهرت عيناها، مثل قطة مرحة، وعلى بلوفر أسود دائما، تتلألأ جوهرة، لا تفارق عنقها باستمرار : عقد ذهبي، تلتقي عنده أغصان شجرة بلوط وزيتون. الشجرة المتخيلة والرمزية، عند فرانسوا ميتران. ذلك، الرجل اللامع والجذاب، والكاريزمي، ظل زوجها على امتداد واحد وخمسين سنة...، نوع آخر من الصراع. بعد أول لقاء بينهما، لم تقتنع به أبدا. موعد، دبرته وحددته، أختها مادلين في مطعم باريسي ذات ليلة، من شهر أبريل 1944. مادلين التي صارت زوجة ل "روجي حنين" ومنتجة سينمائية تحت اسم "كريستين غوز رينال"، أخبرتها قبل أسابيع، بواسطة مراسلة : ((لقد وجدت لك عريسا...)). ذلك أنه، في إطار حلقات دائرتها، تعرفت على شخصية تدعى : "القائد مورلن" أو فرانسوا متيران. انسجاما مع، سنواتها التسعة عشر، أجابت دانييل أختها بنوع من السذاجة : ((هو شخص ناضج، وأنا أحب الفتيان !"(( لكن وقعت الحرب، حيث المجازفة بالذات والحياة، لا تمنح مجالا للتردد. متيران، الذي بقي مبحوثا عنه كثيرا فترة حكم فيشي Vichy، سيتحول أيضا إلى مطارد من طرف الغيستابو. شهر يونيو 1944، التجأ إلى منطقة بورغون Bourgogne : ((بصحبة فتاة جميلة، عيناها رائعتان، مثل قطة، تركز بريقها على هناك، أجهل حدوده واحتمالاته)) كتب إلى صديقة. (أنظر : Robert Schneider : les mitterand, Perrin 2011).( بدورها، دانييل ماذا تعرف عن حدد ومجازفات هذا البورجوازي الريفي والمثقف والكاثوليكي والوسيم. كأيقونة رومانية ؟ بل حتى اسمه ! بقيت تظنه "مورلان"، وتجهل قصة آلام حب بليغ، جمعه ب "ماري لويز تيراس" التي اشتغلت فيما بعد، مذيعة. أيضا، دانييل تغيب عنها تماما حقيقة جماعة ميتران، وهي أسرة متراصة، متضامنة، كثيرة الأفراد، نشأوا في وسط مستنير لكنه محافظ. في المقابل، استطاع وبسرعة، والديها، "أنطوان" و "روني غوز"، اللذان يشتغلان بقطاع التدريس"، إدراك وقياس العمق الفكري للشاب ميتران. ولدت دانييل يوم 29 أكتوبر سنة 1924، ثم عاشت الترحال إلى جانب أخيها وأختها البكر، على إيقاع تعيينات أبيهم، الذي شغل مديرا لمدرسة، لكنه حين رفض إعداد لائحة تتعلق بالتلاميذ والأساتذة اليهود، المتواجدين بمؤسسته، سيوقفه "فيشي" عن العمل ودون راتب. كتبت في جريدة لوموند، شهر ماي 1986 : ((كنت أبلغ ستة عشر سنة. أجبرت على الخروج من حالة اللامبالاة، وأختبر قدرتي على مناهضة الظلم، الذي تعرض له أبي وأبنائه)). بعد التوقيف، انتقلوا إلى منزل العائلة بمنطقة "كلوني". وتحول، مورد دخلهم إلى تقديم الزوجان "غوز" لبعض الدروس الخصوصية. لاسيما، وقد أخفوا عندهم "هنري فريناي"، قائد شبكة المقاومة، ورفيقته "بيرتي ألبريخت" التي ستتعرض إلى تعذيب البوليس السري الألماني. ميتران، المرتبط جدا بفريناي، بدا أكثر إقبالا على عائلة دانييل، قياسا لما تفعله الأخيرة تجاه أسرته. ليس هناك أفضل شهادة عن نضالية هذه العشيرة، من الأجواء المميزة لزواجهما، في بلدية الدائرة السادسة الباريسية، ثم كنيسة « Saint-Séverin » يوم 28 أكتوبر 1944. فقبل نهاية المأدبة، غادر ميتران نحو اجتماع ل "الحركة الوطنية للسجناء والمنفيين" التي يرأسها. حتى قطعة الحلوى لم تلمس. صرخت، من ورائه دانييل: "سأصحبك".ثم، هاهي بفستان زواجها داخل قاعة امتلأت دخانا. في الغد، كانت تبلغ من العمر عشرين سنة وأمامها كل الحياة من أجل تأمل ما وقع. الطموح، يلازمها ويحرضها، وستذعن له. الحزب الذي احتضنها، هو حزب زوجها. في كل مكان، دائما وعلانية، بل والاعتذار للجميع. تتويج ميتران سنوات الأربعينات، بوسام "لافرانسيسك"، مجرد : "غطاء عن أنشطته النضالية !". مرضه، الذي لم تكتشفه إلا سنة 1991، كما أكدت لمجلة "الإكسبريس" ؟ "استعدنا معه فقط هدوءنا الفكري". حينما أنجبت "جيلبير" سنة 1949، ثلاث سنوات بعد "جان كريستوف"، لم تتجاوز حينئذ "دانييل" سن الرابعة والعشرين، وزوجها صار قبل ذلك، نائبا ثم وزيرا .لاشيء سيخمد همتها، سواء الحملات الانتخابية المتعبة، أو دوامة اللقاءات الاجتماعية التي تكرهها. لما، انغمس ميتران بدون توقف في صيرورة اليومي...، ستطلب دانييل الطلاق، لكنه أجاب بقوة، دانييل زوجته أمام الله والناس. وسيبقيان أيضا، مهما قيل. ميتران، يقدر كثيرا حياته الزوجية. ثم، ماذا، الطلاق ؟ وقد بدأت تتشكل ملامح مسار لامع ؟ هكذا، في بداية سنوات 1960، اقترح عليها ميثاقا، اقتضى مضمونه أن يعيش كل واحد منهما، حسب رؤيته الخاصة، مع احتفاظهما كليا على رباطهما الاجتماعي، كما جاء في كتاب : [Une famille au Secret] ((Stock – 2005. احتفظت، دانييل لنفسها، بما يسعها قبوله. ذات يوم، ستطبق الأمر واقعيا، إلى جانب "جان" أستاذ التربية البدنية، بحيث سيعتاد زوار شارع "غينيمر"، و "بييفر" على الالتقاء بهما. شهر دجنبر 1974، ولدت "مازارين"، ابنة ميتران من امرأة أخرى تدعى "آن بانجو". عبرت، دانييل عن الحدث، قائلة : ((ليس اكتشافا ولا كارثة))، لكن الإعلان العمومي، عن وجود الفتاة، خلال شتاء 1994، شكل صدمة مرعبة. شهر يوليوز، من نفس السنة، أجرت عملية جراحية مزدوجة من أجل ترميم "قلبها الواهن المسكين". لكن، مع كل الأحوال، أبانت دانييل عن لباقة أمام جميع الفرنسيين، عندما ضمت "مازارين" إلى جانب ابنتيها، إبان جنازة ميتران في مدينة "جرناك" سنة 1996، وتقبيلها. لقد قدمت "رسالة معتبرة". إنها هنا، حاضرة و منتبهة لكل مراحل التطور السياسي لدى فرانسوا ميتران، كمناضلة وامرأة من اليسار. يوم 19 ماي 1974، بكت من شدة الغضب، بعد ضياع الانتصار بنسبة %0,62 من الأصوات تحولت إلى "فاليري جيسكار ديستان". لكنها يوم 10 ماي 1981، فقد ذرفت في صمت دموع البهجة حينما اكتسب زوجها الانتخابات لصالحه، بفارق من النقط تجاوز 3,5. تلك الليلة. وفي قصر "شينون"، همس ميتران في أذنها : "ماذا سيحدث لنا، يا دانو ؟ ". بعد الفوز، قطعت دانييل وعدا على نفسها، بعدم تخليها قط عن دورها، وقد التزمت بذلك. داخل قصر الإليزي، تموقعت دانييل ميتران في الجهة الأخرى. إذن، مقابل سياسة الرئيس الواقعية، تبنت زوجته نضالية ومثالية اليسار بأكمله. توزيع للأدوار، لم يضايق ميتران. سنة 1986، حين أقدم آنذاك الوزير الأول فترة التعايش جاك شيراك، على إنشاء سكرتارية للدولة، حول حقوق الإنسان، قررت دانييل أن تتصدى له، فسعت إلى تجميع ثلاث هيئات في واحدة اسمها : فرنسا الحريات. من هم أصحاب الحق، الذين لم تدعمهم ؟ لقد صارت زوجة ميتران، كابوسا للبعثات الدبلوماسية، والشخصية المزعجة للخارجية الفرنسية، جحيم ترسمه نوايا حسنة بالنسبة لمستشاري القصر. قضية الأكراد، شكلت لديها هاجسا أساسيا، إلى حد أنها أثارت هذه الدعابة الودودة، عند روجي حنين ((حين تسألها عن الساعة، تجيبك الخامسة، ناقص أربعة أكراد)). امتلكت زوجة الرئيس، القدرة على مخاصمة بعض مسؤولي العالم، وهي تدخل البهجة على "شعب اليسار". أغضبت الصينيين جراء صداقتها مع "الدايلي لاما". لكن، الحسن الثاني يبقى ألد أعدائها. لذلك، جعلها تدفع الثمن غاليا، سواء لأنها لا ترافق رئيس الجمهورية في أسفاره الرسمية، إلى المغرب، أو دعمها لجبهة البوليساريو والمعتقلين السياسيين المغاربة. لم يكتف فقط الحسن الثاني بعرقلة تنقلها، لكن الملك العلوي، كانت له من الجرأة كي يصف زوجة ميتران سنة 1991 على قناة « TF1 »، بأنها غير مساوية له، وتنطبق عليها مواصفات زواج بين ملك وامرأة من الشعب، مع عدم تمتعها بحقوقها السياسية والاجتماعية. عانقت فيديل كاسترو، على الرغم من التعارضات القوية، كما أطنبت في الطراء على القائد ماركوس. جابت إفريقيا، وأمريكا اللاتينية. عشر سنوات قبل "الربيع العربي"، أدانت دانييل السلطة التونسية : " بسبب استهدافها تخريب المجتمع المدني". معركتها في السنين الأخيرة ؟ توخت استفادة جميع المجموعات السكانية من الماء الصالح للشرب. السيدة الأولى لقبت، رفضته دائما لها مع ذلك التباساتها : هذه المرأة "الحرة" لا تريد أن تفهم، بأن الأغنياء أصدقاء الرئيس، أمثال : بيير بيرجي، ماكس تيري، جورجينا دوفوا، باعتبارهم الممونين المعتادين لليسار، لن يضعوا مبلغا ماليا مهما في الحساب البنكي ل "فرنسا الحريات". حينما نقص لديها المال، سنتين بعد وفاة ميتران، أسرعت دانييل، رئيسة المنظمة، إلى بيع قسم كبير من الهدايا التي سبق أن قدمت إليها في إطار عملها. لكن، ما حدث لابنها الأكبر "جون كريستوف"، شغلها عن حملاتها، فبسبب تورطه في القضية المشهورة ب [Angologate] (بيع أسلحة سوفياتية إلى الحكومة الأنغولية سنة 1994). اضطرت إلى التضحية بأثاث وعقار مقر شارع "بييفر"، والدفاع عن ابنها بكل طاقتها. أما، أخر رهان لها، فقد خسرته. حين تخلى، فرانسوا ميتران عن مدفن مشترك، كأمنية لها، في المنتزه الوطني بمقاطعة مورفان. دُ فن الرئيس، أخيرا بالبلدة الصغيرة "جارناك"، بحيث استرجعته عائلته، على نحو ما، تشرح دانييل. لقد استقرت روحه بالقرب من آبائه، وتريد بدورها، أن ترقد إلى الأبد، ب "كلوني" إلى جوار أقاربها. تقول، إحدى فقرات مؤلفها : [En toutes libertés] (1996) : ((لم أشعر أبدا بالضجر وأنا أتقاسم معه حياته، سواء في الفرح أو الحزن. لا شيء مبتذل أو بلا قيمة، ولم أندم على أي مما سبق. بالنسبة للذين يحبوننا، ففرانسوا ودانييل هما متماهيان، وغير قابلان للانفصال)). [*] - عن جريدة لوموند : الجمعة 23 نوفمبر 2011. [email protected]