تناول امحمد جبرون في ورقته بالدوحة أزمة الفقه الإسلامي، وهي في نظره أزمة أصولية تحمل كبرها واضع أساسها الأول الإمام الشافعي، الذي بلغ معه الفقه الإسلامي حالة من التدهور والتخلف القيمي والأخلاقي عند النظر في كثير من أحكام المعاملات الإسلامية مقارنة بالقوانين الحديثة. وقد آن الأوان أن نخلص الفقه الإسلامي من أزمته المنهجية والأخلاقية، بفسح المجال أمام ظهور نوع جديد من التشريع، يستوعب الحياة، ويتجاوز الاختلالات، ويقتضي الانفصال عن نموذج أصول الإمام الشافعي، بما يعيد للممارسة الفقهية الإسلامية أخلاقيتها الضائعة. هذا ملخص كلامه كما قدمه هو نفسه، ولعله يكون منتشيا بهذا الفتح، ولذلك استعمل كثيرا من العبارات الغليظة، والادعاءات والجعجعة المفتقدة للطحين، لشعوره أنها تتكسر أمام الحجج والبينات. امحمد جبرون: صديقي القديم أيام العمل الطلابي بالجامعات، وإن كنت أنا مناضلا في مدينة الدارالبيضاء، وكان هو في الشمال. وتضمنا لقاءات بين الفينة والأخرى حول العمل الطلابي، وبعض قضايا الفكر التي كانت الساحة الطلابية مسرحا لأحداثها، وكان القيل والقال فيها لا يتوقف. وهو رجل بعيد عن التخصص في الشريعة الإسلامية، بذل جهدا في مجال تخصصه التاريخ، وانطلق إثر العمل الطلابي الإسلامي للحديث فيه كما الجميع يتكلمون. وكلامه مهما عبر به عن فهمه فهو كلام من ليس من التخصص الذي يحترم قوله ويسمع له. والصفة العلمية المفتقدة تمنع عنهم الكلام، ولا تؤهلهم أعمالهم لما قرروا الدخول فيه. امحمد جبرون: كفى هل من حقنا أن نقول لمجمد جبرون: كفى؟ أعتقد جازما أن لنا الحق موفورا في قول ذلك، وأن تطاوله يقتضي أن يسمع منا هذه الكلمة القوية. وسبب قولها له: أولا: أنه يناقش إماما كبيرا، في مشروع علمي وافقته الأجيال من الفئة العالمة عليه، ومحصوا هذه المشروع، فزادوا؛ وتوسعوا؛ ونقصوا.. الثاني: أنه يريد سحب الكفاءة العلمية من الشافعي، ويبسط لسانه في المكانة والأمانة العلميتين. فلم يتردد أن يخلص إلى أن الشافعي، هو: ** صانع التدهور. ** والمؤسس للتخلف القيمي والأخلاقي في أحكام المعاملات. ** والمتسبب في الأزمة المنهجية والأخلاقية للفقه الإسلامي. ** والمضيع لأخلاقيات الفقه. وتبحث عن أدلة كل تهمة، فلا تجدها إلا عارية عن أخلاقيات المحاكمات، متسمة بأزمة في المنهج والمنطلق لمرسلها. ولعله يأتينا بحكم فقهي أو بضعة أحكام خالفت عوائد أهل الزمان، ولم تحاكم انطلاقا من زمانها. ولو حذفتها كلها، ما نقصت من مكانة الشافعي التي استحقها بالمنهج أساسا لا بالفقه وحده. طعن امحمد جبرون: وكلام جبرون الذي لم يقدم له من البراهين ما يجعلنا نتابعه عليه أو نعاتبه فيه، كلام سيئ، ألبس فيه الإمام الشافعي كل نقيصة، وقرر الطعن فيه إذ لم يجد حسب اطلاعي من يقول له: انتبه، إنك أمام إمام، وتوكل على الله في النقد بحذر شديد، وبعد اليقين التام في صحة ما تنتقده. وهذه الطريقة السيئة في الطعن، كتبها من قبله مفوقا السهام للشافعي أصالة وتبعا دون باقي الأئمة. وإذا كان صانعو الفرية من مدرسة الاستشراق قد علموا أنهم يفترون، وعلموا لماذا اختاروا الإمام الشافعي دون غيره، فإني أكاد أجزم أن صاحبنا يصيح مع الصائحين دون أن يدري لماذا يصيح. واختار صديقي القديم أن يركب متن الشطط، وألا يتردد في إذاية الإمام الشافعي بجهل، مع أني لم أر أن بينه وبين نفث سمومه في وجه الإمام الشافعي ما يستدعيه. ولست ممتنعا عن الإغلاظ له في القول تأسيا بطريقته في الإغلاظ للإمام الكبير، فحق لي بعد أن خط لنفسه هذه الخطة أن أقابله بمثلها مقتديا سبيله، ومع ذلك أتوقف عند هذا القدر، لأفسح المجال للقول البليغ فيما افتراه وجهله. وأقدم اعتذاري أنني سأستطرد كثيرا في بيان حقيقة مشروع الإمام الشافعي الذي أصبحت له العداوة اليوم، حتى أجلي مكانته وقدر شانئيه. هل الإمام الشافعي معصوم؟ لم يدع ذلك له أحد من أهل السنة والجماعة ولا لغيره، ولا الشوافع يقبلون بهذا القول، ولا الشافعي نفسه يرضى أن يضعه الناس فيما يضع لا فيما يرفع. فحق النقد والتصويب والترجيح مكفول لأهله، وبقواعده وآدابه. أما أن يمتطي النقد من ليس من التخصص الذي ينتقده في قبيل أو دبير، فهذا طعن وسباب ليس من النقد، والنقد نفسه يرفضه، إذ يسيء إليه وإلى صنيعه، قبل أن يسيء للشافعي وأضرابه من أهل العلم. إن كل من يدخل في النقد غير متسلح بقواعده، فهو مسيء أدب، وحاشر أنفه فيما لا يعنيه، وسيقول حتما ما لا يدريه. لماذا العداء للشافعي؟ وحتى نعلم أساس العداء، لا بد وأن ننظر في العمل الكبير الذي قام به الشافعي، ويريد القوم إسقاط هذا البناء الشامخ. إن الفكرة العظيمة التي ألهم الله تعالى الشافعي إليها تقوم على أساسين: الأول: حديثه عن القانون الذي يصدر عنه كل من أراد الكلام في الدين وأحكامه. الثاني: حديثه عن قانون التحاكم إليه عند الاختلاف والتنازع. إذ نستطيع من خلاله أن نقول قولنا بناء على قانون التحاكم: هذا القول سديد؛ أو شاذ؛ أو مرفوض؛ أو مرجوح؛ أو راجح.. تنبه الإمام الشافعي باكرا أن الفقه الإسلامي لا بد من إبراز قانونه. وقدم جهده في الموضوع من خلال كتابه الرسالة وبعض كتبه الأخرى. فإذا وجدت عدوا للإمام الشافعي بالضبط، فاعلم أنه يريد الفوضى، ويصر على التمرد على القانون، بحيث لا يريد من يقيده بشيء، وأن لمن شاء أن يقول ما شاء. هؤلاء القوم أعداء الإمام الشافعي لا يريدون الصدور عن قانون، ولا أن يحاكموا إليه، لأن ذلك تعرية لسوأتهم العلمية، وسقوطهم المنهجي والقيمي والأخلاقي. التفاف المذاهب حول الإمام الشافعي: والذي أزعج أعداء الشافعي أن المذاهب كلها فقهية وكلامية قد التفت حول الإمام الشافعي وفكرته التي نهض بها في مجال الاستثمار والتنازع. وهكذا التف علماء الكلام وأصحاب المذاهب الفقهية حوله، حتى سميت هذه المدرسة العلمية الممتدة التي ضمت هؤلاء جميعا بمدرسة الشافعية أو المتكلمين. وحتى الأحناف الذي انفردوا بمدرستهم فكانت مدرستهم المقابلة لمدرسة الشافعي، والتي دعيت بمدرسة الفقهاء كان للشافعي فضل عليهم، حين التفوا هم أيضا حول فكرة القانون الذي قال به، فقرروا أن لهم قواعدهم التي ينفردون بها. فأصبح الجميع ملتفا حول فكرة قانون الاستثمار والاحتكام، وانفرد الأحناف بطريقتهم في صياغة هذه القوانين. وإن الأمر أكبر من قضية فقهية أو قضايا في هذا الباب تزعجكم، إنها أصول الفقه، قانونا نرجع إليه لنقول: من المصيب؛ أو القريب؛ أو البعيد؛ أو المتلاعب. ماذا فعل الشافعي؟ لقد نظر إلى الخلاف الذي اتسع من غير قانون، فقام بهذه المحاولة العظيمة منه في استخراج القانون من النصوص واللغة وغيرهما، قال ولي الله الدهلوي:" إنه لم تكن قَوَاعِد الْجمع بَين المختلفات مضبوطة عِنْدهم (أي عند المختلفين)، فَكَانَ يتَطَرَّق بذلك خلل فِي مجتهداتهم، فَوضع لَهَا أصولاً، ودونها فِي كتاب، وَهَذَا أول تدوين كَانَ فِي أصُول الْفِقْه"(حجة الله البالغة). وفي الإنصاف نجده يقول:" فاتسع الْخرق، وَكثر الشغب، وهجم على النَّاس من كل جَانب من الاختلافات مَا لم يكن بِحِسَاب، فبقوا متحيرين مدهوشين، لا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا، حَتَّى جَاءَهُم تأييد من رَبهم، فألهم الشَّافِعِي قَوَاعِد جمع هَذِه المختلفات، وَفتح لمن بعده بَابا وَأي بَاب"(الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف: الدهلوي). الرسالة: هذا هو العمل الذي ألهم الله تعالى الشافعي، إذ ألف الرسالة، وجعلها رسالة لهؤلاء وهؤلاء من الفرق المختلفة، فنقل الناس إلى قانون الاحتكام. قال أبو الوليد المكي الفقيه موسى بن أبي الجارود في حق الشافعي:" وهو الذي أصل الأصول، وقعد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره، حتى صار منه ما صار". هذا العمل أذعن له الموافق والمخالف، دفع الأحناف إلى وضع قواعد مذهبهم وكلياته؛ وقانونهم في الفهم والاستنباط والاجتهاد. ومنذ ذلك العمل العظيم، انحصر الخلاف الذي كان متشتتا إلى مدرستين كبيرتين في الفكر الإسلامي، هما: مدرسة الشافعية، ومدرسة الأحناف. ولقد أخذت الرسالة منه تسع سنوات يقلبها ويجودها، ويعدل القانون حتى تستقيم صياغته لدى الناس. وكثير من القواعد القانونية يقال فيها: إن الشافعي هو أول من قال بها بهذه الصيغة. ولما أنهى البحث في تسع سنين بوضع القواعد والمقاييس التي يعرف بها الحق من الباطل، والراجح من المرجوح. وجد الفضلاء أنفسهم أمام فتح لم يسبقه أحد إليه. لم يتسرع الرجل في الكتابة، وهو الذي امتلأت أوطابه من الفقه والحديث والعربية...وغيرها. على عكس عادة من يكتب على العجلة، ولم ينضجوا ما زبروه على نار هادئة، فتذهب ثمرة ما لم يتحصرم، بنفس سرعة مجيئه. لو يعتبر المتعجلون (ولنا عودة إن شاء الله تعالى إلى عجلة بعض الكتاب وحوادث سيرهم في مجال الكتابة والقول). الرسالة قانون: إن كتاب: الرسالة، لا نقرؤه باعتباره جزئيات أو مجموعة أحكام نوافق صاحبها أو نرد عليه، وإنما ننظر فيه من جهة الفكرة الأساسية التي انطلق منها الرجل في تأليفه. وهي التي قرأها وفهمها واضحة أهل العلم عن الشافعي. أين هي عظمة الإمام الشافعي؟ لقد نظر رحمه الله تعالى في الخلاف المحتدم حول الأحكام الشرعية والأشخاص...فاختار طريقا أخرى، وسلك مسلكا مغايرا لإلف الناس، والقائم على حشد الأدلة على رجحان اختيار من الاختيارات. وأنه إن فعل ذلك فلا مزية له على غيره ممن سبقه في مجال الانتصار. فكان السؤال عنده: ما السبيل إلى الإقناع بأحقية هذا الحكم. * إذا اختلفنا في حكم شرعي، ما هو القانون الذي نرجع إليه نحن المختلفين؟ هنا يُذعن العقلاء للشافعي. * إذا اختلفنا في مسألة من المسائل، وتمسك كل واحد منا بموقفه وما اهتدى إليه عقله، إلى أي شيء نرجع لحسم هذا الخلاف أو فهمه أو التقليل منه. وهنا ننحني للإمام الشافعي. * ولأنه قدم رأيه وتصوره لا في الحكم الشرعي، وإنما في تقديم نسخة من القانون بين أيدي الناس. وهنا يُخضع للإمام الشافعي. ** وإذا أتلفنا في الإمام الشافعي نفسه، هل هو عالم أو غير عالم؟ وهل أصاب أم أخطأ؟ فإلى أي شيء سنرجع لحسم هذا النزاع؟ وهنا ينتزع الشافعي منا كل تقدير واحترام. * ولأنه قدم مقترحه هذا لجميع المذاهب، فقد قالوا له بلسان واحد: لقد أنصفتنا ولم تقل إلا حقا، ولم تكتب إلا ما يقبله العقلاء؟ فأين هم اليوم؟؟ القانون أو الفوضى: إن المقابل الأوتوماتيكي للقانون هو: الفوضى. وهذا الأمر في الحياة كما في العلم؟ إذا غابت القوانين في حياة الناس فقد فتحوا أبواب الجحيم على أنفسهم، لأنهم نَحَّوا السلطان الذي يلجم النزق والسفالة والطيش. وفي المجال العلمي سنفتح باب المجهول على أن يقول من شاء وكل من شاء ما شاء. ولا نجد أنفسنا أمام العقلاء إذا رفضنا القانون في المجال العلمي، ورفضنا الاحتكام إليه. وسنكون أمام مشكلة في العقل الإنساني؛ وفي الإبداع؛ والفكر والتجديد؛ والتطوير. إذا نحن جميعا قلنا: لا بد وأن يكون هناك قانون نحتكم إليه، فإننا على السداد من أمرنا وأعمالنا وأقوالنا. ولا بديل للناس ولأهل العلم عن القانون إلا الاستهتار والفوضى والعبث والعابثين. نظر الإمام الشافعي إلى هذه المباءة والمفاسد والشرور، فأعلن في الناس أنه لا بد وضروري ولازم من أن نحتكم إلى القانون. ففتح أعين الناس على فكرة القانون في العلوم الشرعية. إن الناس ليسوا دائما في العلم متفقين، بل إنك تجد في كثير من الأحيان أن العلم قد يكون سببا في الانحراف والفوضى والضلال. وهذه ظاهرة إنسانية معقدة، وهي أن العلم الذي هو نور، ينقلب إلى متاهة وتيه. فكيف يحصل ذلك؟ تلك قصة أخرى، وموضوع آخر، ليس اليوم أوان الحديث عنه. إن العلم قد يصل بالبعض إلى عتبة التيه، ولا يحقق دائما هذا الاستقرار الذي يبحثون عنه. قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23]. ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بينهم﴾ [آل عمران:19]. فلا بد من حراسة العلم بقانونه. فإذا لم ننتبه إلى هذا الحد الفارق والدقيق بين العلم والفوضى، أدركتنا المآسي، وأدركنا أهمية قانون العلم وضرورته. وهنا كانت ريادة الإمام الشافعي، لأنه أبصر هذا الشعاع من بعيد، فأعلن فيهم: أيها الناس، لا بد من القانون في العلم. المتفلتون من القانون: ولقد قدم الرجل نموذجا ومسودة في مجال التقنين العلمي لتجويدها. لأنه لا ضمانة لنا من حماقة الحمقى والمغلين والموتورين إلا أن نرفض القانون. وما نراه من الفوضى فيما يكتبه بعض الكتبة أو الأساتذة أو الباحثين، سببه هو عدم الكتابة تحت سلطة القانون ونظره ورعايته واستحضاره. فلذلك المشاكل قد بدأت مع هؤلاء. ولا تجدها مع من يرعون القانون ويحترمونه. وطبيعي في العلم كما في الحياة أن تجد رهطا يرفضون القانون والانصياع له والالتزام به، لأنه يقف دون طموحاتهم النازلة، وضد رغباتهم المرفوضة عقلا وذوقا وشرعا. ويجدون في القانون العدو الذي يرفضهم ويصدر أحكامه فيهم. غريبة عجيبة!! وأغرب من هذا وأعجب أن تسمع العداء للشافعي ممن لم يقرأ للرجل مؤلفاته حتى يحاكمه إليها، وأقصى ما عنده معلومات عامة نتفها من هنا وهناك، وتسمَّعها من هنالك، والتقطها من عرض الكلام، ثم تطوع لكراء حنكه بإذاعة عداوته. والقارئ للكتب يعلم من قرأ ممن لم يقرأ. ويعلم من يملك معرفة دقيقة عميقة، ومن تتراقص المعارف بين يديه وتضطرب. وهؤلاء في الغالب يتطوعون للعداء، لأنه ليس لهم ما يزاحمون به إلا التشغيب واللغط والإكثار من اللغو. العباقرة يتبعونه: ولم يكن هذا النقد للرجل قديما، ولكنه أمر اكتشفه هؤلاء، وغاب عن الفطاحلة من جميع المذاهب؟! إن العباقرة الجهابذة من أهل الفكر والنظر والفقه واللغة والعربية...يرفعون القبعة عاليا له. وهؤلاء المادحون إياه، المتبعون له من جميع المذاهب الإسلامية، وليس من مذهبه الذي لم يدر بخلده أنه بأعماله يؤسسا مذهبا سيستقر في دنيا الناس. ومن هؤلاء المادحين الذي لا يمكنني أن أعدهم: أبو الحسين البصري، أبو إسحاق الشيرازي، إمام الحرمين الجويني، وحجة الإسلام الغزالي، وابن عبد البر، والقرافي، والشاطبي، وابن تيمية، وابن القيم.. في كوكبة لا تنتهي من أذكياء العالم ونظاره وفلاسفته وفقهائه. إنهم أعلام لا يصل هؤلاء الهامزون الغامزون اليوم شسع نعال الواحد منهم، وهم على غير مذهبه حتى يقال بأنهم على المحاباة له. إنهم مخالفون له في الفروع كثيرا، وليسوا شوافع في المذهب والمشرب، ولكنهم أذعنوا له واتبعوه، واتبعوا العمل الذي قام به. أعداء الأئمة جميعا: لقد تتبعت القوم في الذي أزعجهم من الإمام الشافعي، مع أن فقهه لا يغطي أرض المسلمين، وإن ما يغطيه المذهب الحنفي أو المالكي أوسع بكثير ممن دان بفقهه من الأمم الإسلامية. ومع أن الفقهاء المجتهدين بالمئات، ولكنهم اختاروا الشافعي بالضبط عدوا. فإن شئت أن تقول: إن هؤلاء أعداء جميع الأئمة فأنت مصدق في القول، لأنهم اجتمعوا جميعا على فكرته لا على فقهه، اجتمعوا على القانون الذي دعا إليه، وتظاهروا معا على تشييد البناء، بناء قانون الشريعة وإظهاره. لا بد من الخطإ في كتبي: ولأنه إمام، واقتنع الناس به، فقد صاح فيهم: إن هذه الكتب التي ألفتها قد أفرغت فيها وسعي، ولم آل فيها جهدي، وأنا أعلم يقينا أن فيها عيوبا لم اهتد إليها، لقول الله تعالى: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾. فهذه كتبي، وليس كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فلا بد وأن تأخذ نصيبها من المعابة. قال تلميذه البويطي: سمعت الشافعي يقول: قد ألفت هذه الكتب ولم آل منها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول:" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب أو السنة فقد رجعت عنه. لم يكن مغرورا، ولا مدعيا ما ليس له، ولا متزيا ومتشبعا بما لم يعط. ومن يتسلقون اليوم على ظهره لا يتكلمون إلا بوثوق، ويمتنعون عن مثل هذه الكلمات أن يحكموا بها على أنفسهم وأعمالهم. والخلاصة: إنك إذا رأيت طعنا في الرجل، فاعلم أن الطاعن لا يريد القانون، ويريد أن يجعلها مرتعا لكل راتع، وسبهللا لكل مبتدئ، وبعد التي واللُّتيا لكل فارغ شامخ، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة. وإنه ليرى في الشافعي المضيق عليه في مقاصده النازلة، أو أنه لا يعرف ابن إدريس أصلا، ويهرف بما لا يعرف. هذا هو سبب العداء: وهو أن المطلبي ألجم كل من سولت له نفسه الدخول الالتزام بقانون الدخول. وهم نظرا لكونهم لا حظ لهم في المعرفة الشرعية الدقيقة عموم، فقد فضحهم، وألجمهم، ووضع القيود في أيديهم معرقلا كل حركة من حركاتهم. لقد وجدوا في الشافعي السجان الذي سجن العبث منهم ومن غيرهم. فإذا رأيت واحدا من هؤلاء الأعداء للشافعي، فاعلم اليقين مني أنه من أعداء الصرامة العلمية والقانون. ولله في خلقه دائما شؤون. أستاذ التعليم العالي للدراسات الإسلامية/ الدار البيضاء