لأنهم وجدوا في بيع الوهم للمواطنين إلى جانب استغلال الدين تجارة مربحة، مهدت لهم سبل الاغتناء والارتقاء إلى أعلى المراكز وأسمى المناصب، دون أن يكلفهم الأمر أكثر من امتلاك القدرة على الافتراء والإغواء بالوعود الكاذبة، ودغدغة مشاعر الناخبين بخطاب المظلومية. فقد صار من العسير على قياديي حزب "العدالة والتنمية"، الذين أوهموا الناس بالإصلاحات وتحسين ظروف عيشهم، التحكم في ألسنتهم والتمييز بين الحقيقة والوهم. وهذا كبيرهم الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة سعد الدين العثماني، الملقب من قبل نشطاء الفضاء الأزرق ب"البكماني"، لالتزامه الصمت حيال أبرز القضايا التي تشغل بال الرأي العام الوطني، يبدو كمن أصيب فجأة بالهلوسة وعمى الألوان، بعد إيجاد نفسه أمام مهمة دون مقاسه وبلا أدنى استعداد. يقول في كلمة افتتاحية لمنتدى محاميي حزبه يوم السبت 9 مارس 2019، بأن حكومته هي الأفضل على مدى العقدين الأخيرين، لكونها لم تعرف زوابع كبيرة كسابقاتها، دون أن تكون له الجرأة على توضيح الأمور. لأنه يدرك جيدا أنها أسوأ من سابقتها بقيادة سلفه رفيق دربه في الشبيبة الإسلامية و"الحزب" صاحب أكبر معاش استثنائي، وأنه أضعف مسؤول في تاريخ الحكومات المتعاقبة. وطبيعي جدا أن يتمادى في هذيانه إلى أن ينتهي عمر حكومته ما لم يعجل بإسقاطها قبل الأوان، جراء غياب معارضة حقيقية قادرة على لجم لسانه. كيف لا وهو الذي أثار موجة من السخرية في مواقع التوصل الاجتماعي، عندما أبى إلا أن يتباهى بما نسبه إلى رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق "دومينيك دوفليبان"، من قول بأن الوضع في المغرب أحسن منه في فرنسا، ليعمق بذلك حالة السخط والاستياء؟ وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعداه في إحدى الخرجات بادعائه أن المغاربة لا يعانون من اليأس ولا الإحباط، وأن الواقع مبهج وغير مزعج! ترى كيف يدعي أن حكومته لم تسجل زوابع كبيرة وهي التي عرفت أول زلزال سياسي، عصف في أكتوبر 2017 بأربعة وزراء في أهم القطاعات الاجتماعية ويتعلق الأمر ب: محمد حصاد وزير التربية الوطنية، والحسين الوردي وزير الصحة، ومحمد نبيل بنعبد الله وزير إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، والعربي بن الشيخ كاتب الدولة لدى وزير التربية الوطنية المكلف بالتكوين المهني. وتلى ذلك إعفاء محمد بوسعيد وزير الاقتصاد والمالية في فاتح غشت 2018، ثم جاء دور شرفات أفيلال كاتبة الدولة في الماء خلال الشهر ذاته؟ فمهما حاول الرجل التستر على ضعف حكومته، لن يكون بمقدوره حجب خيوط الشمس بالغربال، إذ لا أحد يجهل أنها تعاني منذ تشكيلها في أبريل 2017 من توالي الخلافات بين مكوناتها واشتداد الأزمات، حيث لا تكاد الحروب الكلامية تضع أوزارها حتى تندلع من جديد، وطالما وجد نفسه في حيص بيص من أمره، يلهث خلف إطفاء الحرائق وتليين الأجواء بين قادة أحزاب الائتلاف الحكومي، لاسيما بين قياديي حزبه ونظرائهم في حزب الأحرار. وبدا واضحا أن أتباع الأمين العام السابق ورئيس الحكومة المعزول ابن كيران، لا يريدون أن يغفروا لعزيز أخنوش وزير الفلاحة ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار "خطيئته"، معتبرينه المسؤول الأول عن إبعاد "زعيمهم" من تكوين حكومته الثانية. فهل يمكنه نفي تهديدات حزب التقدم والاشتراكية بالانسحاب من الحكومة، بفعل ما عاشته القيادية شرفات أفيلال كاتبة الدولة في الماء من صراع مرير مع القيادي بحزب العدالة والتنمية ووزير النقل والتجهيز عبد القادر اعمارة، الذي رفض أن تتقاسم معه مسؤولية تدبير القطاع، لينتهي الخلاف بحذف منصبها دون أدنى توضيحات أو تشاور مسبق مع قادة التحالف؟ وهل يستطيع إنكار انتقادات مصطفى الرميد عضو الأمانة العامة بالحزب ووزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان، لوزراء حزب الأحرار عبر صفحته الشخصية في الفيسبوك، محملا إياهم مسؤولية غضب التجار وخروجهم للاحتجاج ضد الحكومة، وما تعرض له "أخنوش" من هجوم في مجلس النواب على يد الفريق النيابي للحزب حول مخطط المغرب الأخضر، وغير ذلك من الزوابع الكثيرة؟ أما عن زعمه أن المغاربة لا يعانون من اليأس والإحباط، فليس سوى محاولة يائسة لتحريف الواقع، ونحن نعلم أن التقارير الدولية تضع المغرب في أسفل المراتب على مستوى الشعوب السعيدة، بسبب تدهور الأوضاع وهزالة الأجور وتعدد الضرائب... ففي تصنيف عالمي حول مؤشر الرفاهية، يأتي المغرب في المرتبة 103 من أصل 149 دولة، لانخفاض جميع مؤشراته، وفي مقدمتها التعليم والصحة والتشغيل والاستقرار الاقتصادي والبيئة والبنية التحتية والحكامة والمساواة... أليس تنامي الحركات الاحتجاجية والهجرة السرية، وتزايد معدلات الهدر المدرسي والفقر والأمية والبطالة، أدلة ساطعة على فشل سياسات حكومته؟ إن الإيغال في محاولة قلب الحقائق والهروب إلى الأمام، لن يعملا سوى على تأجيل الغضب الشعبي، الذي لا يمكن أن يأتي إلا جارفا إذا ما تواصل تردي أحوال الناس . فهل من الصدق القول بأن حكومته هي الأفضل، وأن ما حققته خلال سنتين ونصف غير مسبوق، والجميع يشهد بغير ذلك لإخفاقها في تنزيل الكثير من المشاريع التنموية والمخططات المرتبطة بإصلاح التعليم والتكوين المهني والنموذج التنموي الجديد، أمام تفككها وتنافر مكوناتها غير المبنية على مجموعة من المبادئ الأخلاقية والإيديولوجية والاستراتيجيات الواضحة، والتي لا يوحدها عدا حب المناصب والمكاسب، ولا أدل على ذلك أكثر من دخول بعضها من الآن مرحلة الإحماء الانتخابي، دون إيلاء قضايا وانشغالات المغاربة أدنى اهتمام.