يتابع المغاربة بامتعاض شديد ما يجري حولهم في الأسابيع الأخيرة من عبث سياسي مقرف، وهم على بعد سنتين فقط من إكمال الحكومة ولايتها دون أن تتمكن من تلبية انتظاراتهم، ولا يتعلق الأمر هنا بتصفية حسابات أو مزايدات سياسوية بين المعارضة والأغلبية، وإنما بالسباق المحموم والمستفز للمشاعر بين بعض أحزاب الائتلاف الحكومي نحو الفوز بالانتخابات التشريعية المزمع إجراؤها خلال العام 2021، عوض الانشغال بمعالجة أهم قضايا المواطنين والسهر على اجتراح حلول ملائمة لأبرز المشاكل المطروحة بحدة والتي تكدر صفو حياتهم في التعليم والصحة والشغل والقضاء… وإذا كان الصراع الانتخابي المبكر يبدو محتدما بين الحزب الأغلبي "العدالة والتنمية" الحامل لرمز المصباح، الذي يقود الحكومة لولايتين متتاليتين، الطامح أمينه العام الحالي سعد الدين العثماني إلى إزاحة غريمه رئيس حزب "التجمع الوطني للأحرار" ذي رمز الحمامة ووزير الفلاحة عزيز أخنوش، كما فعل سلفه عبد الإله ابن كيران ضد إلياس العماري الأمين العام السابق لحزب "الأصالة والمعاصرة" في تشريعيات سابع أكتوبر 2016، ومن ثم الحفاظ على منصبة لولاية ثانية والثالثة لحزبه، معولا في بلوغ الهدف على الكتلة الانتخابية القارة التي تتولى رعايتها "حركة التوحيد والإصلاح" الذراع الدعوي للحزب وبعض الجمعيات الإحسانية، والعمل على استقطاب المزيد من الناخبين عبر توظيف الدين والديماغوجية والمظلومية في دغدغة عواطف البسطاء والتلاعب بعقولهم… وبين حزب "الحمامة"، الذي يؤمن رئيسه أخنوش بكونه البديل الأحق بقيادة "السفينة"، والمؤهل لتحقيق العبور الآمن نحو الرخاء والنماء، معتمدا على جدية وصراحة أعضاء الحزب والاستثمار الجيد لعدم وفاء "الإسلاميين" بالتزاماتهم في تحسين الأوضاع وفشلهم البين في تدبير الشأن العام لولايتين، فضلا عما راكمه بعض قيادييهم من فضائح داخل المغرب وخارجه. فإن حزب "التقدم والاشتراكية" ذو رمز "الكتاب"، دخل على الخط في شخص أمينه العام محمد نبيل بنعبد الله، ليس من أجل التنافس على المراكز الأولى لأنه لا يملك مقومات ذلك، وإنما بغية استرداد جزء من مصداقيته الضائعة ورد قليل من الاعتبار لمبادئ الحداثة والاشتراكية العلمية الواردة في "إنجيله"، حيث لم يعد يألو جهدا في تقديم التبريرات غير المقنعة حتى لأبسط الناس، والبحث له عن مخرج من الدوامة التي ورط نفسه وحزبه في متاهاتها بسبب حبه المفرط للسلطة، والتخلص من أوجاع الرأس والانتقادات الحادة الموجهة إليه من كل حدب وصوب. حيث أنه أمضى وقتا طويلا في تضميد جراحه التي خلفتها الضربات المتلاحقة منذ تحالفه الكارثي مع ابن كيران، ولعل أشد الضربات مضاضة هي تلك التي حدثت في إطار التفعيل الملكي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعصفت به رفقة القيادي بحزبه الحسين الوردي خارج حكومة العثماني، من وزارة السكنى والتعمير ووزارة الصحة تحت ما سمي ب"الزلزال السياسي"، على خلفية تعثر إنجاز مشروع "الحسيمة منارة المتوسط". وزاد من تأجيج سخطه وغضبه حادث حذف كتابة الدولة المكلفة بالماء التي كانت تشغلها القيادية الشهيرة ب"جوج فرنك" شرفات أفيلال دون إلغاء باقي كتابات الدولة، ولا أدنى تشاور مسبق معه من قبل رئيس الحكومة، ورفض حزب "المصباح" التخلي عن رئاسة إحدى اللجن النيابية لفائدة حزبه، مما أفقده أعصابه وصوابه وجعله يحول مدفعيته في اتجاه "الحلفاء"، ويهدد بالخروج من الحكومة التي يتوقع لها السقوط قبل نهاية ولايتها ودون أن تكون المعارضة بحاجة إلى تقديم "ملتمس رقابة"، مستندا في توقعه على التطاحنات والخلافات الجارية بشدة بين أبرز مكوناتها. تأسيسا على ذلك وبفعل الغصة العالقة في حلقه، صار يرفض بقاء حزبه داخل مناخ حكومي يعتبره "ملوثا"، ويميل إلى خيار الانسحاب النهائي من الحكومة والشروع في التحضير للانتخابات المقبلة، إذ لم يعد يرى طائلا من استمرار حزبه في حكومة وهو خارجها، لأنه يعتقد جازما أنه لم يخلق إلا ليكون وزيرا أو سفيرا ولو على حساب مبادئ الحزب وتوجهاته؟ لذلك لم يتردد في إعلان الحرب على "أعدائه" اقتداء برفيقه ابن كيران في خرجاته الإعلامية، وأن تصدر اللجنة المركزية للحزب الملتئمة يوم 4 ماي 2019 بالرباط بيانا تدعو فيه الائتلاف الحكومي إلى تجاوز مختلف مظاهر القلق والتساؤل والتوجس من المستقبل التي تخيم على الحياة العامة، الانكباب على معالجة أبرز الملفات والقضايا الأساسية التي تستأثر باهتمامات الشعب والوطن، والكف عن تبديد الوقت والجهد في التسابق السياسوي، الذي يكرس الشعور بالنفور من العمل السياسي والمؤسساتي ويطفئ جذوة الحماس في أوساط الشباب بوجه خاص. والحال أن ما يزرع اليأس في النفوس هو ذلك التهافت المستمر على المناصب والمكاسب وترجيح المصالح الذاتية، وإلا كيف لبنعبد الله ورفاقه الذين ينتقدون سلوكات حلفائهم ويهددون بالانسحاب، التذرع بمصلحة الوطن في تحالف حزبهم ذي الجينات الشيوعية مع حزب إسلامي محافظ، لولا دافع الانتهازية؟ إن حزب "الكتاب" لم يجن للأسف الشديد من تحالفه الهجين عدا ضرب قاعدته الاجتماعية والإساءة إلى ماضيه ورموزه، وفرار عديد المناضلين من العمال والفلاحين والمثقفين… رافضين الدوس على المبادئ السامية للحزب مقابل ترسيخ العلاقات التي تقوم على الزبونية وتمجيد الأشخاص، وإلا ما كان لنتائج انتخابات 2016 أن تتقهقر ويتعذر معها تشكيل فريق نيابي بالبرلمان، ويتقلص عدد الحقائب الوزارية من خمس وزارات في حكومة ابن كيران إلى وزارتين فقط في حكومة العثماني.