"أبي أبي ماذا تريد يا ولد؟ أريد أن أصبح رجل إطفاء! هذا عمل فيه عناء أبي أبي هناك حريق في البلد ما دخلك أنت يا ولد أريد أن أعمل في الإطفاء" كانت هذه هي الأغنية الشهيرة التي ردّدها التنين الصغير "غريسو" بطل الرسوم المتحركة، واستمتعنا كثيرا في طفولتنا بمغامراته وبعناده ضد الأب، وهو ينصحه بصعوبة مهنة رجل الإطفاء، لكن صديقنا التنين الصغير لم يستطع التحكم في حبس النيران التي ينفثها بشكل طبيعي من فمه، رغم ذلك كان متشبثا بحلمه الطفولي في إطفاء نيران بلده، فتحوّلت نيران فمه إلى نيران الخير ضد نيران الشرّ. يشبه عبد الإله بنكيران هذه الأيام، "غريسو" الصغير الذي يحلم بأن يصبح إطفائي البلد، وتصريحاته في كل مكان جعلت من حزبه الإسلامي الصاعد إلى الحكم، حزب إطفائيين لإنقاذ البلد من نيران الشرّ. الكثير من المغاربة الذين إلتقيتهم وصوّتوا على هذا الحزب لم يصوّتوا أبدا في حياتهم، وردّدوا كلمة واحدة "سنمنح الفرصة لحزب لم يحكم بعد، وسنرى ماذا سيفعل"، هؤلاء لم يصوّتوا لأنه حزب إسلامي، بل منحوا فرصة بشكل براغماتي للذي كانت معارضته فعّالة ولديه طموح للتغيير. أدهشتنا اليوم طوابير المصريين الطويلة وهم ينتظرون الإدلاء بأصواتهم، فنانون وسياسيون ومواطنون،لم يثنهم طول الانتظار عن القيام بدورهم الديمقراطي، فلأول مرة تجرى انتخابات في غياب الحزب الوطني البائد، وما ستُسفر عنه نتائج هذا الاستحقاق، إن مرّت طبعا في ظروف شفافة، سيكون حاسما بالنسبة للمصريين في تحديد مستقبل بلادهم، سواء منحوا أصواتهم لليبراليين أو الإسلاميين. يبدو بالنسبة للبعض أن الربيع العربي الإسلامي، له ما يبرره في السياق التاريخي والسياسي للمنطقة، وللإسلاميين الحقّ في أن يشاركوا في اللعبة الديمقراطية والدخول من الباب وليس من النافذة، عوض الاكتفاء بمجالس النصيحة السرية، لكن بالمقابل من حقّنا أن نطالبهم بالمراجعة النقدية لأفكارهم الأصولية، خصوصا جانبها الديني، دون استثناء الحداثيين أيضا من النقد الذاتي والمراجعة. في افتتاحية أمس بجريدة التجديد المعنونة "طيّ الصفحة والنقد الذاتي المطلوب" يقول الزميل مصطفى الخلفي: "ثمة نقد ذاتي إيجابي في عمومه، بدأ يظهر في صفوف بعض المجموعات الحداثية ويتجه إلى الاعتراف بما سمي "هزيمة الحداثة"". صراحة لم يفاجئني هذا التصريح ، الذي يبدو متحاملا على الحداثة ويرى هزيمتها اليوم في صعود حزب العدالة والتنمية، وهو الرأي الذي يجعلنا في تصادم أبدي مع التيارات المحافظة والتقليدانية، وهي تدعي حداثة مبتورة تأخذ منها فقط المستحدثات التقنية، وقد قرأنا مؤخرا بعض المقالات المتحاملة على الحداثة على لسان بعض السلفيين، وهو يستدلّ بشكل مضحك، على أنه إسلامي حداثي لأنه يستعمل الحاسوب والهاتف النقال. نقول لمصطفى الخلفي، وهو الباحث الذي يستعمل الخلاصات العلمية و الحداثية في أبحاثه، أن مثل هذه القراءة منتظرة من سلفي استئصالي، وإن سمعناها منه لن نلتفت لها حتى، لكن أن تصدر عن إسلامي معتدل من المفترض أن يضع قدميه غدا في حكومة ائتلافية، هنا سنتوقف قليلا. هناك خلط كبير عند الكثير من الإسلاميين بين مفهومي الحداثة والتحديث، فالحداثة فلسفة تؤمن بالعقلانية والحرية ويواكبها التحديث الاجتماعي والثقافي والتقني. ونحن بدورنا ننتقد الحداثة الغربية الصماء التي حوّلت العقل إلى آلة صناعية مركزية، لكن نقدنا لها ينخرط في الفكر الإنساني والكوني، ولا نناصبها العداء و التكفير الذي يحمل سيفه في وجه الآخر. الخطاب التقليداني المحافظ عليه أن يراجع مقولاته المغرقة في الماضي، وأن يخرج من "صدمة الحداثة" التي اعتبرها إرثا استعماريا،واختزال الهوية في الدين فقط، للدفاع عن الذات. في المقابل، فالتيار الحداثي مطالب هو أيضا، بألا يسقط في فخّ "صدمة القَدامة" الصاعدة اليوم إلى السلطة ونتجت عن سياق تاريخي واستعماري مرير يحتاج منا التأمل والفهم، فنحن بالنهاية نطمح جميعا إلى مغرب المستقبل لا ماضيه.